يجادل في حرمة الغناء، ويزعم أن الأغاني ليس لها أضرار!
وتحريم المعازف ليس فيه خلاف بين أئمة الإسلام، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريمه، وما يُنقل فيه من خلاف فهو من الخلاف الشاذ، الذي لا يلتفت له..
السؤال:
لي أخ في الإسلام متبع لما قاله البعض من جواز الموسيقى، وعندما طرحت
عليه الدليل من القرآن، والسنَّة قال: "فأما الآية فهي لم تأتِ بتحريم
الموسيقى حرفيّاً بل هو تفسير المفسرين، وأما الحديث: فلا أدري عن
صحته، وسأبحث في ذلك "، وقد أتى لي بشبهة غريبة قال فيها: "ما أعرفه
أن الإسلام دين العقل، والمنطق، وهو لم يحرم شيئًا إلا وله أضرار على
الشخص، فما ضرر الموسيقى؟ ولماذا تريد مني (تجميد دماغي)، والتسليم
بالنصوص؟ "، علمًا أنني قدمت له محاضرة "فتنة تقديم العقل على النقل "
- لفضيلتكم -، ولم ينتفع بها حتى بعد سماعها كاملة، فما الرد على مثل
أخي هذا بارك الله فيكم؟.
الجواب:
الحمد لله...
تتلخص الاعتراضات التي وجهها صاحبك في "تحريم الغناء" في ثلاث
اعتراضات:
1- اعتراضه على الاستدلال بالآية بأن هذا هو من تفسير
المفسرين.
2- توقفه في صحة الحديث الدال على تحريم آلات المعازف.
3- أنه لا يرى للغناء أضرارا، فلماذا يحرمه الإسلام؟
أما اعتراضه على الاستدلال بالآية، وهي قوله تعالى: {
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
} [سورة لقمان:6].
فالجواب عليه:
من هم المفسرون الذين استدلوا بالآية على تحريم الغناء؟
إنهم جمهور المفسرين، وعلى رأسهم ثلاثة من علماء الصحابة وفقهائهم
ومفسريهم، وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن
عمر رضي الله تعالى عنهم.
ولا شك أن الصحابة "أعلم الأمة بمراد الله تعالى من كتابه، فعليهم
نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى
الله عليه وسلم علما وعملا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، لا يعدل
عن تفسيرهم ما وُجد إليه سبيل"، ابن القيم في (إغاثة اللهفان
1/433).
فكيف يجوز لصحابك أن يعدل عن تفسير هؤلاء الصحابة للقرآن؟
لا سيما وفيهم عبد الله بن عباس أعلم الأمة بالتفسير، ببركة دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم له: «
اللهم علمه التأويل
»، أخرجه الحاكم وصححه ووافقه
الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2589).
وأما اعتراض صاحبك على الاستدلال بالحديث، فهو ليس اعتراضا في
الحقيقة، وإنما هو توقف في صحته إلى أن يبحث عن ذلك، والمتوقف في صحة
الحديث ليس له أن ينفي ما دل الحديث على إثباته، وهو تحريم آلات
المعازف.
فكان عليه ألا ينفي تحريم الغناء المقترن بالمعازف حتى يبحث في
الحديث وينتهي إلى أنه ضعيف لا يصح، أما التوقف في صحة الحديث حتى
البحث عنه، ثم نفي حرمة الغناء، فتصرف غير صحيح.
والحديث الوارد في تحريم آلات المعازف في صحيح البخاري حديث صحيح بلا
شك، وليس هو الحديث الوحيد الوارد في ذلك، بل هناك أحاديث أخرى كثيرة،
ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه (إغاثة اللهفان).
وإذا صح الحديث فالواجب على المؤمن أن يقبله ويعمل بما فيه، ولا يجوز
له التوقف في قبول الحديث حتى يعرضه على عقله ويقبله، فقول صاحبك:
"ولماذا تريد مني (تجميد دماغي)، والتسليم بالنصوص؟"
كلام خطير، لا يصدر من مؤمن يشهد أن محمدا رسول الله، فما معنى إثبات
الرسالة إذا كان سيتوقف في قبول قول الرسول صلى الله عليه وسلم حتى
يعرضه على عقله؟
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلالاً مُبِيناً} [سورة
الأحزاب:36]، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
} [سورة النساء:65].
وتحريم المعازف ليس فيه خلاف بين أئمة الإسلام، وقد اتفقت المذاهب
الأربعة على تحريمه، وما يُنقل فيه من خلاف فهو من الخلاف الشاذ، الذي
لا يلتفت له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مذهب الأئمة الأربعة: أن آلات
اللهو كلها حرام...، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو
نزاعاً"، (مجموع الفتاوى 11/576، 577).
وقال ابن القيم رحمه الله: "ولا ينبغى لمن شمَّ رائحة العلم أن يتوقف
فى تحريم ذلك - أي: الغناء، والمعازف - فأقل ما يقال: إنَّها شعار
الفساق، وشاربي الخمور"، (إغاثة اللهفان 1/228).
وقال الألباني رحمه الله: "ولذلك اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم
آلات الطرب كلها"، (السلسلة الصحيحة 1/145).
وقد ذكرنا أدلة ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة في جواب السؤال
رقم (5000) و (50687).
فليس للمسلم بعد أن يعلم الحكم الشرعي المبني على الأدلة الشرعية
الصحيحة إلا أن يقول: "سمعنا وأطعنا"، وليس له أن يجادل بالباطل، ولا
يتردد في الاستجابة حتى يعرض الأمر على عقله القاصر، فيرى إن كان
يقبله أم لا.
وأما اعتراض صحابك بأن الغناء ليس له أضرار، فهو اعتراض غريب، لا
قيمة له، بعد مخالفته للواقع والحس، فضلا عن مخالفته للشرع!
فهذه الأغاني تصد عن ذكر الله، وتنبت النفاق في القلب، وتبعث على
الفاحشة والرذيلة.
ونحن نذكر لك بعض ما قاله أئمة العلم والهدى في أضرار الغناء
والمعازف، فمن ذلك:
1. أنه ينبت النفاق في القلب.
وقد صحَّ هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وغيره، وهذا أعظم ضرر يصيب
من تعدَّى على شرع الله تعالى، وقد بيَّن ابن القيم رحمه الله تعالى
وجه كون الغناء منبتاً للنفاق في القلب، في كلام طويل نفيس.
قال رحمه الله تعالى:
"فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر
المعاصي؟
قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب، وأعمالها،
ومعرفتهم بأدويتها، وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين
عن طريقتهم...
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه
كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه:
أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن، وتدبره، والعمل بما فيه، فإن
القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً، لما بينهما من التضاد، فإن
القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس،
وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء: يأمر بضد ذلك
كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويحركها إلى
كل قبيح...
وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويُكَرِّه إليه سماعه، وإن لم يكن
هذا نفاقاً: فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب
أبداً.
وأيضاً فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى
الصلاة، ونقر الصلاة، وقلَّ أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا
وصفه.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدِّب ولده: ليكُن أول ما يعتقدون من
أدبك: بغض الملاهي، التي بِدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن،
فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف، واستماع الأغاني،
واللهج بها: ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء.
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة: فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن:
تبين له حذق الصحابة، ومعرفتهم بأدواء القلوب، وأدويتها، وبالله
التوفيق" انتهى باختصار، (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1/
248-251).
2. الغناء بريد الزنا، أو رقية الزنا، أو داعية الزنا.
وهذا - أيضاً - من أعظم أضرار الأغاني، والمعازف، وقد بيَّن ابن
القيم رحمه الله تعالى ذلك، فقال:
"وأما تسميته رقية الزنا: فهو اسم موافق لمسمَّاه، ولفظ مطابق
لمعناه، فليس في رقى الزنا أنجع منه، وهذه التسمية معروفة عن الفضيل
بن عياض.
قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية! إياكم والغناء، فإنه يُنقص الحياء،
ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل
السُّكر، فإن كنتم لا بد فاعلين: فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية
الزنا.
وقال محمد بن الفضل الأزدي: نزل (الحطيئة الشاعر) برجل من العرب،
ومعه ابنته (مليكة )، فلما جنَّه الليل: سمع غناءاً، فقال لصاحب
المنزل: "كفَّ هذا عنِّي "، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: "إن الغناء
رائد من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعني ابنته، فإن كففته
وإلا خرجت عنك ".
فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان، الذي هابت العرب هجاءه: خاف
عاقبة الغناء، وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره؟!.
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف، والشبابة، والرقص بالتخنث
والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء!" انتهى
باختصار وتصرف، (إغاثة اللهفان 1/ 245-247).
والغناء الذي تكلموا عن آثاره هو الموجود في زمانهم، وليس الموجود في
زماننا! فإن ما في زماننا قد اشتكى منه أهل الفسق والفجور! من
المغنين، والملحنين، حيث قاموا بمحاربة (أغنيات الفيديو كليب) وهي
الأغاني الرائجة في هذا الزمان، وفيها من الفحش، والقذارة، والعري،
ونزع الحياء ما جعل بعض أهل الغناء يطالب بمنع عرضها على شاشات
التلفاز لما تسببه من تهييج الشهوات، ونشر الفساد!
وأخيرا...فالأمر أوضح من الشمس في رابعة النهار، من حيث حكم الغناء،
وآثاره السيئة، وأضراره العظيمة.
والله أعلم..
- التصنيف: