وقوفات القرّاء المجترئين
وقوفات القرّاء المجترئين، أكثر ما يصيبني بالضيق وأنا في الصلاة!
الحمد لله وحده.
وقوفات القرّاء المجترئين، أكثر ما يصيبني بالضيق وأنا في الصلاة!
من أول كتاب: (المقطوع والصلة) لابن عامر اليحصِبيّ (توفّي في عام 118) أحد القراء السبعة؛ يمكن للمستقرئ المعتني أن يعدّ نيّفًا وسبعين مؤلَّفا في الوقف والابتداء، عامتها تراثي قديم!
ومع ذلك فهو عندي أحد العلوم التي يشبه أن تكون قد هجرَتْ، بحيث اقتصر الانتفاع بها على الدّرس المخصوص.
وبغض النظر عن بعض الآثار والأحاديث التي يستدل بها أهلُ الفنّ -القراءُ- على أنّ الصحابة كانوا يتعلّمون (الوقف والابتداء) من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تلك الآثار التي ربما لا يسلمها لهم غيرهم:
لكن هذا المعنى مجمَعٌ عليه!
أن القرآن ينبغي أن يقرأ على ما أنزله الله من الحروف، وألا يوقف على بعضه بحيث يخرج به القارئ عن معناه الذي أراده الله!
فإنّ الوقف والوصل مؤثران في حكاية (المعنى) المراد من الكلام، بلا خلاف بين المتخاطِبين بالألسنة المختلفة من البشر، ولا خلاف بين القارئين لأي مكتوبٍ.
وبخصوص القرآن: فهذا مجمَع عليه أيضًا بين أهل الفنِّ وغيرهم، إلا كلمة منسوبة لمحمد بن الحسن، ولو صحّت فهي بادية الخطأ.
ولم يزل المعتنون بالقرآن وأحكامه؛ يذكرون وجوبَ معرفةِ الوقف القرآنيّ وموضعِه، ويضعون التصانيفَ في تعليل الوقف، وبيان وجهه، وأثره على المعنى.
أو: يُدخلون معرفة الوقف والابتداء في أحكام القراءة الواجب تعلّمها.
ثم ينسُبون ذلك إلى طبقة الصحابة فمن بعدهم.
إلى حدّ أن قال الإمام ابن الجزَري رحمه الله عن معرفة الوقف والابتداء: "وصحَّ - بل؛ تواترَ عندنا - تعلّمُه والاعتناءُ به من السلفِ الصالح".
لكن، حتى إذا قلنا: "إنّ الصحابة لم يتعلّموا الوقف من النبيّ صلى الله عليه وسلم".
وقلنا: "لأنّ الوقفَ الحسنَ؛ من أمور الفصاحة الواجبة، ومن أحكام اللسان العربيّ التي كانت سجيّة في طبقة الصحابة".
وقلنا: "كان وقفُ التمام هو الأصلُ الذي يلهجُ به لسانُهم، ولا يتكلَّفونه في كلامهم، وكان خلافه هو الشاذّ الذي لا حكم له، ويكتفى بإنكاره إذا وقع".
وذلك: كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيب الذي أساء، كما في الحديث في صحيح مسلم.
أقول: حتى إذا قلنا ذلك؛ فالمحصّلة واحدة، وهذا القول غير مؤثر!
فالمحكَم في هذا الباب:
أنه لا يباح لكلِّ قارئٍ للقرآن أن يقفَ ويصلَ وَفق هواه، ما لم يكن عالمًا بالقرآنِ ومعناه، وما يجوز فيه من المعاني، وسائر أحكامه!
وإلا: فقراءة القرآن؛ عبادة!
فيقع من المتعبِّدين بها الخطأُ والبدعةُ والجهلُ، والجرأةُ على الشرعِ، كسائرِ العبادات!
وعبادة قراءة القرآن، كسائر العبادات: لا بدَّ للمتعبِّد من حجَّةٍ صحيحةٍ على فعله، وليسَ الشأن فيها متروكا لأهواء المكلّفين.
أما شروط الواقف؛ فما أحسن ما قاله ابن مجاهد رحمه الله: "لا يقوم بالتمام [يعني الوقف التمام] إلا نحويٌّ، عالمٌ بالقراءة، عالمٌ بالتفسير، عالمٌ بالقصص وتلخيص بعضها من بعض، عالمٌ باللغة التي نزل بها القرآن" اهـ!
قلتُ: وصدَق رحمه الله، فليس القبيح من الوقوف أن تقف على معنًى فاسدٍ أو ناقص فقط، بل؛ "كل وقف كان سببًا في أن أوهَم السامعَ معنًى بخلاف مراد الله من القرآن؛ فهو قبيح"!
فيقف في كل موضع يقف فيه، بما يتوافق مع مراد الله من هذا الموضع المخصوص.. وأما إن وقف وقفا يؤدي إلى معنى غير مراد الله في هذا الموضع؛ فقبيح.
حتى إن كان المعنى نفسه صحيحًا!
وليت شعري!
من ذا الذي يعلم مراد الله بالقرآن في كل موضع سوى فقيهٍ، يجتهد فيصيب فيؤجر، أو يخطئ فيعذر ويؤجر؟!
فكن فقيهًا عالمًا بالقرآن، وأحكامه ومعناه، متبعًا في قراءة كل موضع منه.
أو: اتبع الفقهاء العالمين بالقرآن وأحكامه ومعناه ومراد الله في كل موضع منه.
ولا تكن الثالث فتهلك!!
والثالث: الذي يجتهد في توصيل معنى كلام الله؛ على هوى نفسه!
وقد علم العالمون أن بعض المبتدعة قد استدلوا على مذاهبهم الرديّة بوقف في القرآن أو وصل، والأمثلة كثيرة.
وأختم بإتمام النقل المهم عن خاتمة المحققين ابن الجزري، رحمه الله إذ يقول: "وصحّ -بل؛ تواتر عندنا- تعلُّمه والاعتناء به من السّلف الصّالح، كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين، وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم، وأبي عمرو بن العلاء، ويعقوب الحضرمي وعاصم بن أبي النجود وغيرهم من الأئمة.
وكلامهم في ذلك معروف، ونُصوصهم عليه مشهورةٌ في الكتب.
ومِن ثمَّ؛ اشترطَ كثيرٌ من أئمة الخلف على المجيز: ألا يجيزَ أحدًا إلا بعد معرفتِه الوقفَ والابتداء!!
وكان أئمتُنا يوقّفوننا عند كلِّ حرفٍ، ويشيرون إلينا فيه بالأصابعِ، سنةً أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين" اهـ.
قلتُ:
فيا عجبي من هذا الزمن الذي يتلاعب فيه أصحاب المحاريب بالوحي!!
الذي يتسابق فيه قراء الجهل إلى اختراع وقوف، وصلات، وبدايات لا يعلمون لها معنًى، ولا يتبعون فيها سنّةً!
ولا يرضى الواحد منهم أن يلتزم بعلامات الوقوف التي وضعها أئمة المسلمين!
وقد لا يرضى بالوقوف على رؤوس الآي، وربما اتّكأ على الخلاف في الحديث -حديث الوقوف على رؤوس الآي-، وهو غير مؤثّر كما سبق.
وكل ذلك يؤذيني كلّ عام، ويضيّق صدري في الصلاة، ولوا أن المنشور طال، لأوردت أمثلته، وبعضها نصّ أئمة الفنّ على منعه، لكنّ القارئ استحسنها!
فترى الواحد منهم لا يرضى إلا أن يبتدع، ليقال: مبدع! وليقال: مجدّد!
وتابعهم على ذلك كثير من المستمعين والمأمومين، الذين تسابقوا في استنباط معانٍ جديدة (!!) من تلاوة إمامهم!
وكلّ ذلك بمنأى عن سنة المسلمين في حفظ الوحي وتوقيره.
وإنّي والله أجد من سنوات طويلة ما كان يجده ميمون بن مهران رحمه الله حين قال: "إنّي لأقشعر من قراءة أقوام يرى أحدهم حتمًا عليه ألا يقصر عن العشر، إنما كانت القراء تقرأ القصص إن طالت أو قصرت!
يقرأ أحدهم اليوم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] ويقوم في الركعة الثانية فيقرأ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة من الآية:12]" اهـ!!
فهذا مرض قديم، عافانا الله والمسلمين..
اللهم آمين.
نصيحتي لك: اتبع علامات الوقف في المصحف وجوبًا، حذرًا من أن تحكي معاني باطلة عن الله، أو معاني ليست من مراد الله في هذا الموضع.
وهذه العلامات وضعت وفق المنقول عن أئمة الدين، وجرياً على قراءة المسلمين عبر القرون، فلا تكن من الغافلين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليـك.
- التصنيف: