لعن الله النامصة والمتنمصة!
ثمة خطاب يتردد الآن بقوة يدعو إلى أنواع مختلفة من المراجعات الفكرية والفقهية وتصحيح مفاهيم وممارسات شاعت خطأ أو جهلا أو غلوا وتنطعا، لكنه يسوق ذلك بأسلوب منفر وغليظ، ولا يخلو من استعلاء وترفع في اللغة والتعامل، ثم الأخطر من ذلك هذا الشعور الذي يتسلل للقارئ - بحق أو بوهم - أنه كان على ضلالة، وضيع عمره في إلزام نفسه ومن يعول بما لا يلزمه شرعا.
مع أن الوقت في العشر الأواخر من رمضان، فضلا عن مآسي الأمة المتتابعة، تجعل من غير المناسب الخوض بتوسع في أمثال هذه الموضوعات، إلا أن رسالة جاءتني كلها انزعاج وقلق وشعور بالحيرة الشديدة استوجبت المشاركة بهذه الكلمات.
وهي موجهة في المقام الأول إلى كل زوج مسلم منع زوجته من النمص بكل أشكاله لسنين طويلة ولم يأذن فيه بحال، وإلى كل أخت مسلمة منعت نفسها من النمص رغم ضغوط الواقع، وحب التزين.
فإليهم وإليهن هذه الملاحظات العابرة حتى لا يظن ظان أنه أضاع عمره في تحريم ما أحل الله، أو أنه تشدد فيما لا مجال فيه للتشدد.
- ليس الإشكال بحال أن تناقش المسائل الفقهية، وتساق مذاهب أهل العلم فيها وتحرر أقوال كل مذهب ويذكر حجة كل قول منها، وأن يتحلى المتكلمون في تلك المسائل بآداب الخلاف وضوابطه، فكل ذلك حسن جميل، لكن ما ليس حسنا بحال أن يساق أمر كهذا بأسلوب مشوب بالتقريع والتوبيخ، وملئ باتهام مبطن للمخالف أنه مقلد جاهل، بقي أكثر عمره ملزما نفسه بالتشديد والتنطع، وسببا في إشاعة خطاب منفر للخلق ومعسرعليهم، ومولع بالتحريم، ومتبن أشد الأقوال وأعسرها مع أن واقع الحال ليس كذلك.
- ثمة خطاب يتردد الآن بقوة يدعو إلى أنواع مختلفة من المراجعات الفكرية والفقهية وتصحيح مفاهيم وممارسات شاعت خطأ أو جهلا أو غلوا وتنطعا، لكنه يسوق ذلك بأسلوب منفر وغليظ، ولا يخلو من استعلاء وترفع في اللغة والتعامل، ثم الأخطر من ذلك هذا الشعور الذي يتسلل للقارئ - بحق أو بوهم - أنه كان على ضلالة، وضيع عمره في إلزام نفسه ومن يعول بما لا يلزمه شرعا.
- لا يجوز بحال تحريم ما أحل الله ولا إلزام الخلق بالأشق ولا حتى بالأورع، لكن من كان مستندا إلى نص شرعي وفهوم أهل العلم الثقات فهو بريء من ذلك كله لا سيما أن المشاهد بالاستقراء أن المرء إذا فتح لنفسه باب الترخص وتوسع في بعض مواضع الخلاف لم ينضبط مسلكه غالبا، وانتقل من ترخص لآخر حتى كاد الزمام أن يفلت منه بالكلية ورحم الله عبدا تركه ما يريبه لما لا يريبه واتقى الشبهات استبراء لدينه.
- من حرم النمص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لعن النامصة والمتنمصة، ولا شك أن لعن فعل من الأفعال من الشواهد على أنه من الكبائر، وقد عد هذا الأمرمن الكبائر نفر من أهل العلم ومنهم بعض من صنفوا في الكبائر مثل الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر، كذلك قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 10 / 377 "وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ يَحْرُمُ الْوَصْلُ فِي الشَّعْرِ وَالْوَشْمُ وَالنَّمْصُ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ حَمَلَ النَّهْيَ فِيهِ عَلَى التَّنْزِيهِ لِأَنَّ دَلَالَةَ اللَّعْنِ عَلَى التَّحْرِيمِ مِنْ أَقْوَى الدَّلَالَاتِ بَلْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْكَبِيرَة".
- ولا شك أن فعلا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقترفه هو فعل محرم في أصله وإن جرى خلاف في تفاصيل ذلك وضوابطه، لكن الواقف مع النص في عمومه لا سيما إن كان له سلف من أهل العلم مشكور غير منكور عليه، وقد أحسن من وقف عند ما انتهى إليه وعظم النص الشرعي وسارع إلى امتثاله، نعم حصل خلاف في مفهوم النمص، وأجاز بعض صوره فقهاء من المذاهب الأربعة، لكن مع ذلك فقد ذهب جماعة من أهل العلم قديما وحديثا كابن مسعود والطبري وابن حزم وظاهر صنيع النووي وابن حجر الهيتمي والشوكاني وابن باز والألباني وابن عثيمين ووهبة الزحيلي وغيرهم إلى منع النمص مطلقا ولا يخفى أن من كان معه ظاهر النصوص، واستأنس بأقوال هؤلاء العلماء الكبائر فلا يجوز بحال لومه أو التثريب عليه أو اتهامه بالتشدد.
- ومن الأدلة التي تقوي قول المانعين من النمص سواء بإذن الزوج أو غيره ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ زَوَّجَتِ ابْنَتَهَا، فَتَمَعَّطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجَهَا أَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ فِي شَعَرِهَا، فَقَالَ: « »
وفي رواية عند مسلم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا أَصَابَتْهَا حَصْبَةٌ فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلُهُ، فَقَالَ: «
ومما يستفاد من هذا الحديث أن:
- هذه امرأة سقط شعرها لعلة مرضية وهي الحصبة.
- كما أنها امرأة عروس تحب الزينة والتجمل.
- ثم إن زوجها هو الذي أمرها، فالوصل بإذنه وأمره، وليس في الأمر تدليس مطلقا.
- ومع ذلك كله لم يأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بل لعن الواصلة والمستوصلة.
- وقد ترتب هذا اللعن على شعر تصله المرأة ولا يقدم ولا يؤخر في بادي الرأي لو كانت المسألة متروكة للعقل المجرد.
- وقد ورد في أحاديث أخرى الجمع بين لعن الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن في سياق واحد مما يدل على أن الأظهر التسوية في الحكم بين الجميع، ولا فرق معتبر بين الوصل أو النمص أو الوشم.
- ثم إن عائشة رضي الله عنها هي التي روت الحديث وهي التي نقل عنها الإذن في النمص للتجمل للزوج.
- ومن الأدلة أيضا ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قَالَ: "لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ" قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ، لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: "وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ" فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ فَقَالَ: " لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] " فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: فَإِنِّي أَرَى شَيْئًا مِنْ هَذَا عَلَى امْرَأَتِكَ الْآنَ، قَالَ: "اذْهَبِي فَانْظُرِي"، قَالَ: فَدَخَلَتْ عَلَى امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فَجَاءَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَ: "أَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ نُجَامِعْهَا"
ويمما يستفاد من هذا النص:
- أن اتباع حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ليس تشددا ولا تنطعا ولا إلزاما للناس بالأشد ولا بالأشق، فهو صلى الله عليه وسلم الذي بعث بالحنيفية السمحة، ووضع الله به عنا الآصار والأغلال، و وأمر بالتيسير ونهى عن التعسير والتنفير، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
- ابن مسعود رضي الله عنه من كبار صحابة وفقهائهم وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم وتمسكوا بعهد ابن مسعود، فأي لوم على من احتذى منواله، وقال برأيه.
- حمل ابن مسعود رضي الله عنه الحرمة في هذه الأشياء على عمومها دون تخصيص ولا تقييد ولم يقل لتك المرأة إن الأمر جائز بشروط وتفصيلات، ومثله لا يؤخر البيان عن وقت حاجة ملحة كهذه.
- ألزم ابن مسعود امرأته بحرمة النمص والوصل والتفلج ولم يأذن لها فيه بل صرح أنها لو كانت مما يفعل ذلك لفارقها وطلقها، ولا يظن بمثله رضي الله عنه أن يتشدد في أمر لم يأت به برهان أو أثارة من علم.
- يشكل جدا على القائلين بجواز النمص إذا أذن الزوج إشكالات عدة منها عدم وجود نص مرفوع يدل على هذا التخصص لا سيما مع حاجة النساء الشديدة لرخصة كهذه، إذ أمر كهذا تعم به البلوى بين النساء قديما وحديثا، واحتجاجهم المجيزين بأثر عائشة محل نظر لأن غايته قول صحابية خالفها غيرها وهو ابن مسعود رضي الله عنه، فضلا عن أن الطبري قد روى عن عائشة رواية أخرى - وإن كان في إسنادها كلام - تدل على عدم تفريقها، حيث سئلت عن المرأة تقشر وجهها؟ فقالت إن كنت تشتهين أن تتزيني فلا يحل. شرح البخاري لابن بطال 9 / 170
ثم إن من المستغرب جدا أن يكون الفعل الواحد - وهو النمص - إذا فعلته المتزوجة بإذن زوجها حلالا، بينما إذا فعلته غير المتزوجة صار محرما وكبيرة مستوجبة للعن، وهذا غير معهود في أحكام الشريعة ولا يتماشى مع مقاصدها، ولا يقال هنا إن المرأة المتزوجة بحاجة للتزين بخلاف غير المتزوجة لأن المرأة في سن الزواج وفي مقام التعرض للخطاب هي أيضا بحاجة للتزين، ثم ماذا عمن لا زوج لهن وعمن مات أزواجهن وهل يكفي إذن الولي أم لا، ثم ماذا أيضا عن الرجال الذين يتنمصون - وفعلهم هذا حرام - هل يصير حلالا بإذن الزوجة؟ ثم هل إذن الزوج معتبر في باب النمص وحده أم في باب الوصل والوشم والتفلج مع أن ظاهر النصوص مانع من هذا التفريق.
- ومع أن حب التزين والتجمل عموما وللزوج خصوصا أمر فطري جبلت عليه المرأة كما قال الله سبحانه: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] كما أنه مطلب شرعي تأثم المرأة إن قصرت فيه، إلا أنه لابد أن يترسخ في يقين المسلمات أن من تركت شيئا لله عوضها الله خيرا منه، ومن تعففت عن زينة محرمة رزقها الله عوضا عاجلا أو آجلا.
- المحبة بين الزوجين رزق وهبة من الله وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الدنيا كلها عن التطلع للمزيد، وإذا علمت المرأة ذلك فلترض بما حل من أنواع الزينة وهو واسع جدا بحمد الله. »(رواه البخاري) أي المحبة، وإذا ألقى الله المحبة في قلب الزوج قرت عينه بزوجته وقنع بها ولو كان حظها من الجمال قليلا، أما من اعتاد إطلاق البصر إلى الحرام فلن يقنع بزوجته مهما تزينت ولو كانت أجمل الجميلات بل لن تكفيه نساء
وأخيرا فهذه كلمات عابرة لم تقصد دراسة المسألة تفصيلا وإنما ركزت على جزئية بعينها وهي تبرئة المعتقدين لحرمة النمص عموما من تهمة التشدد أو التنطع أو الأخذ بالقول الأشد، ولعل الأمر يحتاج لمزيد تفصيل وبيان، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
- التصنيف: