سهام المواعظ - [06] الحياة صفقة
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111]. لكن! ماذا تساوي نفوسنا المعيبة -وإن طهرت- حتى يشتريها الله منا بكل هذا الثمن، لذا قال الحسن البصري وقتادة: "بايعهم والله فأغلى ثمنهم".
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].
ما أجمل هذه الصورة البديعة والتمثيل الرائع، صورة العقد الذي عقده رب العزة جل جلاله بنفسه، وجعل ثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسجل كلماته بحروف من نور في الكتب السماوية الثلاثة، وما أشرفه من صك وتوثيق، ووعدا ألزم الله به نفسه وجعله حقًا عليه مبالغة في الفضل منه والكرم وإيناسًا لعباده ولطفًا بهم، ولا أحد أوفى من صاحب هذا الوعد، فوعد الرب الغائب أقوى من بضاعة كل عبيده الحاضرة.
لكن! ماذا تساوي نفوسنا المعيبة -وإن طهرت- حتى يشتريها الله منا بكل هذا الثمن، لذا قال الحسن البصري وقتادة: "بايعهم والله فأغلى ثمنهم".
وهو ما دفع محمد بن الحنفية أن يحثك على تزكية نفسك وتطييبها بالعمل الصالح والطاعات والقربات مبرِّرًا ذلك بقوله: "إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها".
أثـامـِن بالنفس النفيسةِ ربَّهــــا *** ولَيسَ لها في الخلق كُلِّهمُ ثَمَنْ
بها تُملك الأخرى فإنْ أنا بِعتُها *** بشيءٍ من الدُّنيا فذاك هو الغَبَنْ
لَئِنْ ذَهَبَتْ نفسي بدنيا أُصيبها *** لقد ذَهَبَتْ نفسي وقد ذهب الثَّمنْ
أنت إذن -يا أخي- غال جدا عند الله، يحبك ويريد أن يكرمك غاية الإكرام، لذا اشتراك بجنة عرضها السماوات والأرض، جنة لا تُقدَّر بمال، فأنت والله أغلى عنده من الدنيا بأسرها، وقد مرَّ بك: « » [صحيح البخاري: 6567].
فكيف بعت هذه النفس الثمينة بشهوة تنقضي في لحظة؟! وبلذة لا تبقى سوى ساعة؟! وهبها بقيت أيامًا أو أعوامًا فماذا تساوي بجوار لذة الخلد؟! وبعتها لمن؟! لأعدى أعدائك: شيطانك!!
هو ما دفع ابن القيم أن يتعجَّب منك في إحدى فوائده قائلا: "إنما أبعدنا إبليس إذ لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك، فوا عجبا كيف صالحته وتركتنا!!".
أخـي: اعرف إذن هذه الحقيقة الساطعة: أنت لا تملك نفسك، ولا يحق لك التصرف فيها دون إذن المالك، يصرِّفها حيث يشاء؛ يقول لك هذا حلال فتقبل، وهذا حرام فتُعرِض، افعل كذا ولا تفعل كذا، تكلم بهذا ولا تنطق بهذا، امش إلى هنا ولا تقترب من هناك، بل لو قدَّمك للذبح عن طريق جهاد أو كلمة حق في مواجهة طاغية فعلى أي شيء تعترض؟! وهو إنما يتصرف في ما اشتراه منك وبعته له، وأعطاك في المقابل الجنة، أفترجع في بيعتك؟! أم أنك لم تبع وزهدت في الجنة من الأساس؟! وإذا بعت.. أيحسن لمن باع شيئا أن يغضب على المشتري إذا تصرَّف فيه أو يتغير قلبه تجاهه إذا أنفقه؟ وماذا لنا فينا حتى نتكلم!!
إنها البيعة المعلَّقة في عنق كل مسلم عرف أم لم يعرف، ولا بد من الوفاء، وهو قول شَمِر بن عطية: «ما من مسلم إلا ولله عز وجل في عُنُقه بيعة، وفَّى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
إن الله تعالى وحده هو المستحق أن يُطاع ويُحب ويُعبد لذاته حتى لو لم يثب عباده شيئا لا أن يمنحهم الجنة لأنه هو الذي خلق وهدى ورزق كما أنشد بعضهم:
هب البعث لم تأتنــا رسله *** وجاحمة النار لم تضــــرم
أليس من الواجب المستـ *** حق حياء العباد من المنعم
لكنه تعالى كافأ عباده وشوَّقهم وأرسل الآيات تلو الآيات تهيب بالسامعين التشمير للجنة والرحيل إليها، وبعد كل هذا تُعِرضون!!
سلِّــم واستلــــــم!!
إخوتاه: البائع لا يستحقُّ الثمنَ إذا امتنع عن تسليم ما باعه، فكذلك لا يستحق العبدُ الجنة إلا بعد تسليم النَّفس والمال إلى المشتري، فمن قعد أو فرَّط فغيرُ مستحقٍ للجنة، فهل سلَّمت ما عليك لتستلم ما اشتهيت؟!
وهل من باع نفسه وعلى استعداد أن يقدِّمها للذبح إرضاء لربه لا يقوى على ما هو أهون من الذبح بكثير؟! من غضِّ بصر أو الاستيقاظ فجرا لصلاة أو الصبر عن لقمة حرام تُعرض عليه رشوة أو شبهة؟!
وإذا لم يقو على هذا «الأسهل» فهل مثله باع فعلا؟! أم أنه يطمع في نيل أغلى سلعة بأبخس ثمن!! وصدق القائل:
إذا اعتاد الفتى خـــوض المنايا *** فأهـــــــوَنُ ما يمُرُّ به الوُحولُ
ومثل هذه المواجهة المتكررة للنفس الأمارة بالسوء تورث العبد ولابد واحدا من أجمل الأخلاق وهو خلق «الحياء» الذي يعصم من كثير من الرذائل ويدفع لإحراز أسمى الفضائل.
لكن.. ماذا بعد إبرام البيعة؟!
الجواب: قول الله تعالى: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَـٰهَدَ عَلَيۡهُ اللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمً۬ا} [الفتح: 10]
أخي: كلما لمست من نفسك فتورًا أو انشغالا بالعاجلة أو إيثارا للفانية اسأل نفسك: هل بعتُ؟! هل اشتريتُ الجنة حقا وبعت نفسي ومالي في سبيلها؟! وما الدليل على ذلك؟! وأي عقل في التأخر عن صفقة كهذه؟! أو الانشغال عنها بغيرها؟! من يهب نفسه اليوم لربه وقد اشتراه، ومن باع فليبادر، ولا يجزع مما يحاذر.
يقول سيد قطب في الظلال: ":إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله؛ وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة، فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!!
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرما منه وفضلا وسماحة - أن الله سبحانه قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء.. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله.. لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا.. كلا.. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يُحدِّد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخيَّر، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن: هو الجنة".
صحابة باعوا سلفا!!
ولكي تستشعِر معنى هذه البيعة حقا اقرأ في من نزلت آية البيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}:
نزلت في بيعة العقبة الكبرى في العام الثالث عشر من البعثة، وهو العام الذي أتى فيه الأنصار يربو عددهم على السبعين يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة التضحية والفداء، فقام منهم عبد الله بن رواحة قائلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم
قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قال: ربح البيع.. لا نقيل ولا نستقيل.
وفي تفصيل أكثر لما حدث: قام أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين فقال: رويدا يا أهل يثرب!! إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضَّكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عضِّ السيوف إذا مسَّتكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة؛ فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا جميعا: أمط يدك ياأسعد، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقاموا إليه يبايعونه رجلا رجلا، يأخذ عليهم شرطه ويعطيهم على ذلك الجنة.
واعجبا!!قوم أيقنوا بالجنة ولما يمض على إسلامهم سوى برهة قصيرة من الزمن، فمنهم من أسلم منذ يوم واحد، ومنهم من أسلم من يومين، ومنهم من أسلم من شهر أو شهرين، وأقدمهم إسلامًا من أسلم منذ سنتين!! وبرغم ذلك ومع أن الجنة غيب لم يروه، فهم يبذلون في سبيلها أغلى ما يملكون: النفس والمال ويتعرضون لأخطر ما يكون، ونحن نسمع عن الجنة مذ وعينا طوال عمرنا وما دفعنا نفس الثمن، فهل أيقنت نفوسنا هذا اليقين؟! وهل نحن على استعداد لنفس البذل؟!
- التصنيف:
- المصدر: