الــصــوم صــحـــة

منذ 2016-07-22

{بسم الله الرحمن الرحيم }

ذكر الأطباء والعلماء قديماً وحديثاً أن الصوم يهذب النفوس، ويزكيها ويقويها، وأنه يكسب الأجسام ملاحة وصحة وقوة، حتى قال بعضهم: (سافروا تغنموا، وصوموا تصحوا) .. ويأتي شهر الصيام ليكون أشبه بدورة طبية مجانية يتلقاها المسلم كل عام مرة، فيعمل على صيانة أجهزة الجسم والمحافظة عليها. فالصيام ما هو إلا آية من آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته، وقد أحسن من قال: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، وهو دليل على صدق نبوءة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.   

الصوم والصحة النفسية
إذا أردنا أن نبحث في الفوائد النفسية للصيام فلا بد لنا من بحث موضوع ( الإشباع الفوري ) وتأجيل الإشباع للحاجات والرغبات عند الإنسان، فالصيام امتناع عن إشباع بعض رغبات النفس، وبعض حاجات البدن، وذلك من الفجر إلى غروب الشمس؛ ففي الصيام امتناع عن الأكل إذا جعنا، وعن الشرب إذا عطشنا، وعن الاستجابة الفورية لبعض شهواتنا، وفي هذا الامتناع تدريب للنفس على ما سماه علماء النفس بـ ( تأجيل الإشباع )، والقدرة على تأجيل إشباع الرغبات تميز ما بين الطفل الصغير والبالغ الراشد، وتميز ما بين ناضج الشخصية وقليل النضج فيها.
فالطفل إذا رغب في شيء ألحّ عليك لتعطيه إياه، وتراه قد استحوذ عليه التفكير في هذا الشيء الذي رغب فيه، ولم يبق لديه صبر على الحرمان منه، وكثيرًا ما يبكي الطفل إن لم يحصل على ما رغب فيه على الفور، ومع التقدم في العمر ينضج هذا الطفل من الناحية النفسية، ويصبح أكثر صبرًا على عدم حصوله على ما يلبي رغباته حصولاً فوريًا، لكن ذلك يتفاوت من طفل إلى آخر، وكذلك الكبار يتفاوتون في صبرهم على عدم إشباع رغباتهم إشباعًا فوريًا لا تأجيل فيه، فحتى بعد بلوغ الإنسان رشده يبقى هنالك مكان لمزيد من النضج في الشخصية، ولاكتساب المزيد من القدرة على (تأجيل الإشباع).
إن الصبر على عدم حصول النفس على مشتهاها على الفور جانب هام من جوانب نضج الشخصية الإنسانية؛ ويأتي الصيام في رمضان بمثابة دورة تدريبية سنوية على هذا الصبر، وبمثابة دفعة جديدة نحو المزيد من نضج الشخصية لدى المؤمن، والاستعجال في الحصول على شهوات النفس صفة إنسانية تكون على أشدها عند من لم يهذبه الإيمان، قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] وقال أيضًا: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20]
الصوم وتجدد الخلايا
اقتضت حكمة الله تعالى أن يحدث التغيير والتبديل في كل شيء وفق سنة ثابتة، فقد اقتضت هذه السُّنَّة في جسم الإنسان أن تتبدل محتوى خلاياه على الأقل كل ستة أشهر، وبعض الأنسجة تتجدد خلاياها في فترات قصيرة تعد بالأيام والأسابيع، مع الاحتفاظ بالشكل الخارجي الجيني، وتتغير خلايا جسم الإنسان وتتبدل؛ فتهرم خلاياه، ثم تموت، وتنشأ أخرى جديدة تواصل مسيرة الحياة، وهكذا باضطراد؛ حتى يأتي أجل الإنسان.
إن عدد الخلايا التي تموت في الثانية الواحدة في جسم الإنسان يصل إلى 125 مليون خلية، وأكثر من هذا العدد يجدد يوميًا في سن النمو، ومثله في وسط العمر، ثم يقل عدد الخلايا المتجددة مع تقدم السن.
وبما أن الأحماض الأمينية هي التي تشكل البنية الأساسية في الخلايا، ففي الصيام الإسلامي تتجمع هذه الأحماض القادمة من الغذاء مع الأحماض الناتجة من عملية الهدم، في مجمع الأحماض الأمينية في الكبد (Amino Acid pool)، ويحدث فيها تحوُّل داخلي واسع النطاق، وتدخل في دورة السترات (Citrate Cycle)، ويتم إعادة توزيعها بعد عملية التحول الداخلي (interconversion)، ودمجها في جزئيات أخرى: كالبيورين (purines)، والبيريميدين، أو البروفرين (prophyrins)، ويُصنًّع كل أنواع البروتينيات الخلوية، وبروتين البلازما والهرمونات، وغير ذلك من المركبات الحيوية.
أما أثناء التجويع فتتحول معظم الأحماض الأمينية القادمة من العضلات وأغلبها حمض الألانين- إلى جلوكوز الدم، وقد يُستعمل جزء منها لتركيب البروتين، أو يتم أكسدته لإنتاج الطاقة بعد أن يتحول إلى أحماض أكسجينية (oxo acids).
وهكذا نرى أنه أثناء الصيام يحدث تبدل وتحوُّل واسع النطاق داخل الأحماض الأمينية المتجمعة من الغذاء، وعمليات الهدم للخلايا، بعد خلطها وإعادة تشكيلها ثم توزيعها حسب احتياجات خلايا الجسم، وهذا يتيح لبنات جديدة للخلايا ترمم بناءها، وترفع كفاءتها الوظيفية؛ وهو ما يعود على الجسم البشري بالصحة، والنماء، والعافية، وهذا لا يحدث في التجويع؛ حيث الهدم المستمر لمكونات الخلايا، وحيث الحرمان من الأحماض الأمينية الأساسية، فعندما تعود بعض اللبنات القديمة لإعادة الترميم تتداعى القوى، ويصير الجسم عُرضة للأسقام، أو الهلاك. فنقص حمض أميني أساسي واحد، يدخل في تركيب بروتين خاص، يجعل هذا البروتين لا يتكون، والأعجب من ذلك أن بقية الأحماض الأمينية التي يتكون منها هذا البروتين تتهدم وتدمر.
كما أن إمداد الجسم بالأحماض الدهنية الأساسية (Essential Fatty Acids) في الغذاء له دورا هاما في تكوين الدهون الفوسفاتية (Phospholipids)، والتي تدخل مع الدهن العادي (Triacylglycerol) في تركيب البروتينيات الشحمية (Lipoprotiens)، ويقوم النوع منخفض الكثافة جدًّا منها (very low density liprotien) بنقل الدهون الفوسفاتية والكوليسترول من أماكن تصنيعها بالكبد، إلى جميع خلايا الجسم؛ حيث تدخل في تركيب جدر الخلايا الجديدة وتكوين بعض مركباتها الهامة.
ويعجل هذه العملية عدد من المعادن والفيتامينات الهامة واللازمة في تجديد خلايا الجسم: كالحديد، والنحاس، وفيتامينات أ، ب 2، ب 12، وفيتامين د، وتقدم خلايا الكبد أيضًا أعظم الخدمات في تجديد الخلايا؛ حيث تزيل من الجسم المواد السامة، التي تعرقل هذا التجديد، أو حتى تدمر الخلايا نفسها، كما في مادة الأمونيا، التي تسمم خلايا المخ، وتدخل مريض تليف الكبد إلى غيبوبة تامة.
إن الصيام الإسلامي هو وحدة النظام الغذائي الأمثل في تحسين الكفاءة الوظيفية للكبد؛ حيث يمده بالأحماض الدهنية والأمينية الأساسية، خلال وجبتي الإفطار السحور؛ فتتكون لبنات البروتين،
والدهون الفوسفاتية، والكوليسترول، وغيرها؛ لبناء الخلايا الجديدة، وتنظيف خلايا الكبد من الدهون التي تجمعت فيه بعد احتراق الغذاء خلال نهار الصوم، فيستحيل بذلك أن يصاب الكبد بعطب التشمع الكبدي، أو تضطرب وظائفه، بعدم تكوين المادة الناقلة للدهون منه، وهي البروتين الشحمي منخفض الكثافة جدًّا (VLDL)، والذي يعرقل تكونها التجويع، أو كثرة الأكل الغني بالدهون كما بينَّا.
الصوم فرصة للتخلص من السمنة
صيام رمضان فرصة ذهبية لبداية برنامج غذائي وحركي للتخلص من السمنة، بسبب توفر الظروف النفسية والبيئية المناسبة وذلك على النحو التالي: 
ــ  حيث أن القاعدة العامة في البيئة المحيطة أي الأسرة والمجتمع هي الصيام، فإن الامتناع عن تناول الطعام والشراب طوال ساعات النهار يكون أسهل، بسبب الدعم والتعزيز الاجتماعي والنفسي الذي يلقاه الصائم من بيئته المحلية. 
ــ عدد وجبات الطعام تهبط في رمضان إلى وجبتين فقط هما الإفطار والسحور، وبالتالي للاعتدال في تناول الطعام خلال هاتين الوجبتين يكفي لحدوث نقص أوتوماتيكي في عدد السعرات الحرارية التي تدخل الجسم، خلال الوجبة الثالثة الغائبة في الحياة اليومية في شهر رمضان. 
ــ هبوط مستوى سكر الدم ــ وبالتالي الأنسولين ــ أثناء ساعات الصيام وبشكل خاص خلال الفترة ما بين العصر والمغرب هي فرصة ثمينة للتخلص من الدهون المخزونة تحت الجلد، والتي بغياب الأنسولين يمكن بسهولة طرحها في مجرى الدم واستخدامها كمصدر للطاقة، وعلى ضوء ما سبق ذكره، فإن برنامج مشي أو سباحة أو أي نشاط آخر قبل الإفطار بحوالي 30-45 دقيقة وعلى مدار شهر رمضان، سيكون له دور ملحوظ في تخفيف نسبة الدهون من تحت الجلد. 
ــ صيام رمضان وكذلك النشاط الحركي في الفترة ما بين العصر والمغرب، يؤدي إلى تكيف الجسم الإيجابي الفسيولوجي والنفسي على التحكم بكمية الغذاء التي تدخل وعلى صرف السعرات الحرارية من خلال الحركة والنشاط. وهذا التكيف الذي يحدث في رمضان، يجعل من السهل على الإنسان الاستمرار في إتباع العادات الغذائية السليمة، وبرنامج النشاط الحركي، وذلك بعد انتهاء شهر الصيام. وكل ما هو مطلوب التصميم والإدارة القوية.

المصادر
•    نظرات نفسية في الصيام    د. محمد كمال الشريف 
•    الصوم وتجديد الخلايا       د.عبد الباسط محمد سيد أستاذ الفيزياء الحيوية الجزئية والطبي

د/ خالد سعد النجار
[email protected]
 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 5,095

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً