الرق في الإسلام... شبهة أم إعجاز
خالد حربي
يدعى الحاقدون على الإسلام أنه غير صالح على امتداد الزمان والمكان
وذلك لأنه أحل الرق وأقره وهذا لا يناسب سوى العقلية المنغلقة في
العصور القديمة، ثم إن الرق قد بطل العمل به وانقطع فكيف لم يذكر
الوحي هذا مع افتراض علمه ببطلان الرق مستقبلاً؟
- التصنيفات: الدعوة إلى الله -
يدعى الحاقدون على الإسلام أنه غير صالح على امتداد الزمان والمكان وذلك لأنه أحل الرق وأقره وهذا لا يناسب سوى العقلية المنغلقة في العصور القديمة، ثم إن الرق قد بطل العمل به وانقطع فكيف لم يذكر الوحي هذا مع افتراض علمه ببطلان الرق مستقبلاً؟
وللإجابة عن هذه الفرية نقول بحول الله وقوته:
أولا: الرق ليس مشكلة إسلامية فيُلقى باللائمة فيها على الإسلام، إنما هو مشكلة إنسانية ناتجة عن الصراع والتدافع الإنساني، فلا يوجد نص في القرآن أو السنة يأمر بالرق أو يحث عليه بل نجد النقيض من هذا كما سنرى، فالرق معروف ومعمول به في كل الديانات والمذاهب السابقة للإسلام، فقد كان الرق عند قدماء المصريين آلة للعمل كحرث الأرض وعمارتها بالزرع وإقامة الدور وحمل الأثقال، ويعدون الرقيق بمنزلة الدواب.
والقرآن وكتاب اليهود والتاريخ القديم لا تزال تُذكرنا بما سامه فرعون لليهود وهم أرقاء لديه.
وعند اليهود: لا يُحَّرم سوى استرقاق اليهود لبعضهم فقط، بينما نرى الكتاب المقدس يبيح لليهود استرقاق جميع الأمم: "وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم منهم تقتنون عبيدا وإماء 45 وأيضا من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكا لكم 46 وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك تستعبدونهم إلى الدهر وأما إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف 47" سفر اللاويين 2544.
بل إن الفكر السياسي اليهودي قائم على قضية الرق، وهي دعوة نوح على ابنه حام أن يكون ابنه عبدا لأعمامه سام ويافث كما في سفر التكوين 9 / 25- 26: "ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبداً لهم"، وفي الإصحاح نفسه 27: "ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم".
وفي المسيحية لا نرى الأمر يختلف فبولس "مؤسس المسيحية" ينصح العبيد بحسن السمع والطاعة لأسيادهم ويؤكد فيقول: "أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد، بخوف ورعدة، في بساطة قلوبكم كما للمسيح، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد للمسيح، عاملين بمشيئة الله من القلب، خادمين بنية صالحة كما للرب، ليس للناس" رسالة أفسس 65.
وكما يقول الدكتور "جورج بوست" في قاموس الكتاب: "إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا المباحثة فيها، ولم تقل شيئاً ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا عن قساوتها ولم تأمر بإطلاق العبيد حالاً، وبالإجماع لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباته".
ولو تحدثنا عن الرق عند اليونان والرومان والفرس والعرب لطال المقام، وحسبنا أن لا أحد يكابر في شيوع الرق في هذه الأمم وسوء معاملته بينهم.
أما موقف الإسلام من الرق فينبع من تصوره لهذه المشكلة:
فالإسلام ينظر إلى الرق باعتباره نتيجة حتمية للصراع بين البشر وهذه النتيجة رسخت في الأذهان والمعتقدات على مر آلاف السنين ولهذا تعامل معها الإسلام بخطة لا تتجاهل الواقع ولا تقفز عليه.. وأيضا لا تعترف به على النحو الذي فعلته المسيحية، وعلى ثلاثة مراحل استطاع الإسلام أن يقيم نظامه الخاص بالرق وهو أعلى نظام يمكن تحقيقه في واقع البشرية كما سنرى.
المرحلة الأولى: تحسين حال الرقيق ورفعهم للمستوى الإنساني.
المرحلة الثانية: تضيق مصادره وحصرها فيما يخرج بالرقيق عن الصفة الإنسانية.
وبعدها تأتي الخطوة الرئيسية وهي تحرير الرقيق.
ففي الجانب الأول: تحسين معاملة الرقيق:
نظر الإسلام إلى الرقيق لا على أساس دينه أو لونه أو عرقه وإنما على أساس بشريته المحضة، وكل التوجهات والأوامر الإلهية في هذا الصدد ارتكزت على بشرية الرقيق لا غير وعلى سبيل المثال:
بدأ الإسلام بتغير الاسم وتصحيحه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي» رواه مسلم.
ثم إيجاد الوضع الاجتماعي المناسب لهم في زمرة الواقع الإنساني وقتها:
فقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } [النساء:36].
ثم إيجاد الكرامة والحرمة الشرعية و الاجتماعية له:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قذف مملوكه بريئاً مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال» رواه البخاري.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ» مسند أحمد (41 / 93).
ثم ضمان حقهم في الاحتياجات المعيشة بالمستوى الإنساني المطلوب:
عن المعرور بن سويد قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله فقلنا: يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة، وكسوته ثوباً غيره؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يكتسي ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه» رواه البخاري وأبو داود.
وقال عليه الصلاة والسلام: « إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه» رواه البخاري.
وفي الخطوة الثانية قام الإسلام بتضيق المدخل إلى الرق وتوسيع المخرج منه:
فالمدخل إلى الرق قبل الإسلام كان مفتوحاً على مصراعيه، فهناك الرق بالبيع كأن يبيع الإنسان أحد أقاربه، والمقامرة كأن يؤخذ الخاسر عبدا للفائز، والنهب والسطو على القوافل والضعفاء واسترقاقهم وبيعهم لجني المال، ووفاء الدين كأن يؤخذ المدين عبدا للدائن، والحروب كالأسرى وملك اليمين، وقد حرم الإسلام جميع هذه الأوجه، جاء في الحديث القدسي: «يقول الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره » أخرجه البخاري.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً -بمعنى بعد خروج وقتها- ورجل اعتبد محرراً » رواه أبو داود وابن ماجة.
فلم يبقى مدخلا للرق سوى أسرى الحرب فأتى الإسلام عليهم فوضع لهم ثلاث خيارات بإذن ولى الأمر:
قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ} [محمد:4]
فالمن بالطلاق السراح بلا مقابل أو قبول الفداء وإطلاق السراح أو الاسترقاق وفقا لقواعد الإسلام الإنسانية في التعامل مع الرقيق.
ثم قام الإسلام بتوسع المخرج وأسباب العتق ومنها:
- جعل العتق من القربات العظيمة إلى الله:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « مَن أَعتَقَ رقبة مسلمةً، أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار حتى فرجَه بفرجه » رواه البخاري ومسلم.
- جعل العتق احد مصارف الزكاة الثمانية، قال تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:60].
وقال يحيى بن سعيد: "بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فجمعتها، ثم طلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم".
- جعل العتق كفارة للطم العبد أو ضربه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: «من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه » أبو داود ومسلم.
- جعل العتق واجبا في بعض الكفارات مثل:
القتل الخطأ، قال تعالى: {َمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]
والظهار، قال تعالى: {َالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص:3].
و الحنث في اليمين، قال تعالى: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [المائدة:89].
كذلك جواز الزواج من الرقيق، وهو من أهم أسباب العتق، قال تعالى:{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ.... } [النساء:25].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها، فأحسن تأديبها، وعلمها، فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها، فله أجران» رواه البخاري ومسلم.
وأخيرا وضع الإسلام القرار في يد الرقيق أنفسهم:
فشرع لهم المكاتبة مع المالك للعتق، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } [النور:33].
فما على الرق إذا أراد الحرية إلا أن يأتي سيده ويخبره بما يريد ويتفق معه على قيمه مالية يسددها العبد من عمله الخاص -الذي يفسح له السيد وقتا له- ويكتبا بينهما كتابا يشهد عليه الناس وبعد سداد الرق للقيمة المالية يكون حراً، ثم تختم الآية الكريمة بما يوضح الهدف من المكاتبة فتقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فالسيد يعطي عبده مالا بعد عتقه ليستعين به على بدْء حياته الجديدة، وهذا يوضح أن المكاتبة ليس الهدف منها المال وإنما اعتماد الرقيق على نفسه في تحرير نفسه لتعظم عنده الحرية فيصونها ويحفظها لنفسه وللمجتمع.
ويمضى الإسلام فيما هو أعظم من هذا فينسج علاقة جديدة وفريدة بين المحرر وبين سيده السابق وهي "الولاء" الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمَة النسب » رواه الدارمى.
وذلك ليجد المحرر له نسبا وأصلا بين الناس ووعاءاً اجتماعياً بشرياً يحتضنه ويحتويه كباقي البشر، ويتعدى هذا الوعاء مجرد الاسم المعنوي ليجد الرقيق المحرر نفسه في قائمة الورثة الشرعيين بترتيبهم الشرعي المعتبر.
وأخيراً نقول:
كان سهلا على الإسلام أن يحرر الرقيق بكلمة يقولها، لكن ما النتيجة دون معالجة الحالة النفسية للمجتمع تجاه الرقيق؟! وما النتيجة دون ضمان الوضع الاجتماعي لهم بعد التحرير؟! وما النتيجة دون معالجة الحالة النفسية للرقيق أنفسهم؟!!
ما زلت أذكر حين قام أبراهام لنكولن بتحرير الرقيق بجرة قلم، لقد ظل السود في أمريكا إلى هذه اللحظة أرقاء أمام المجتمع وأمام الدولة، بل وحتى أمام أنفسهم ولا نعجب إذا عرفنا أن العبيد في أمريكا قاموا بمظاهرات بعد عتقهم بشهور يطالبون بعودتهم إلى العبودية مرة أخرى لأنهم لا زالوا عبيداً أمام أنفسهم وأمام المجتمع، لكن الإسلام بمنهجه المحكم وتشريعاته الحكيمة ومصدره الرباني هو وحده الذي استطاع معالجة هذه الظاهرة.
وبعد هذه الرحلة المختصرة يحق لنا أن نتساءل:
هل في الدنيا العريضة أعظم من هذا الدين؟!
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام