ثورة 23 يوليو وسيطرة رأس المال على الحكم
مبارك والسادات وعبد الناصر... كان ضمن الأهداف الستة المشهورة التي أعلنتها ثورة 23 يوليو 1952م منذ اللحظة الأولى من اندلاع شرارتها "القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم"؛ فكيف حققت الثورة هذا الهدف وما الذي بقي منه بعد مرور 56 عاما على بدء الثورة؟؟
لجأت حكومة الثورة إلى تقليص نفوذ كبار ملاك الأراضي الزراعية في مصر عبر قانون الإصلاح الزراعي الأول في سبتمبر 1952م؛ والتي قلصت بمقتضاه الحد الأقصى للملكية الزراعية إلى 200 فدان للفرد تقلصت إلى 100 فدان للفرد في قانون الإصلاح الزراعي الثاني عام 1961م.
وفي الفترة من 1952م وحتى 1956م سعت حكومات الثورة إلى إشراك رأس المال المصري والأجنبي في خطط وجهود التنمية الكبرى التي سعت الثورة لتنفيذها وكان معظمها صناعيا بالإضافة لمشروع السد العالي؛ ولاحظت الثورة تقاعس الرأسماليين الأجانب عن ضخ استثمارات حقيقية في خطط التنمية الوطنية؛ وعندئذ بدأت الدولة في تمصير الاقتصاد المصري عبر التأميم وجاء ذلك في إطار خياراتها السياسية المعادية نسبيا للغرب بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر.
كما لاحظت حكومات الثورة تردد الرأسمالية المصرية الكبيرة في الدخول كمنفردين أو كشركاء للدولة في مشاريع اقتصادية ضخمة تتسم بقلة الربح وتأخره مما دفعها لحركة تأميمات واسعة في الستينيات فيما عرف بقرارات يوليو الاشتراكية عام 1961م؛ بهدف توفير رأس المال اللازم للتنمية الوطنية المخططة مركزيا على نمط الاقتصاد الإشتراكي.
كانت هذه هي الدوافع التي أعلنتها الثورة لإجراءات التمصير والتأميم حينئذ؛ عندما لم يكن هناك صوت يعلو على صوت الثورة؛ ولكن عند تحليل هذه الأحداث بتأني بعيدا عن صخب الثورة والثوار نجد أن الثورة لم تفهم طبيعة النظام الاقتصادي والسياسي الدولي الذي يرتب نتائج اقتصادية كبيرة وواضحة على أي خيار سياسي أو اقتصادي تتخذه أي وحدة من الوحدات المكونة للنظالم الدولي؛ وبالتالي كانت ردود أفعال نظام الثورة في مصر على السلوك الغربي إزائها تظهر حقيقة أنهم فوجئوا بها ولم يكن مرتبا لها في إطار استراتيجية محددة طويلة الأمد قد توقعت الأحداث مسبقا.
هذا بشأن تفسير مواقف الرأسمالية الأجنبية.
أما بشأن الرأسمالية المصرية فإن الثورة لم تفهم البناء الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع المصري؛ حيث أن الرأسمالية المصرية كان لها قدمان، اليمنى في الزراعة والأخرى في الصناعة والتجارة والمصارف؛ فعندما قطعت الثورة القدم اليمنى للرأسمالية المصرية بقوانين الإصلاح الزراعي خافت تلك الرأسمالية على قدمها الأخرى وهرولت بها تؤمنها خشية أن ينالها الثوار بالقطع هي الأخرى؛ هذا إذا أحسنا الظن بالثورة والثوار؛ وصدقنا مقولة أن الثورة أممت الرأسماليين المصريين بسبب عزوفهم عن المشاركة في خطط التنمية الوطنية.
أما إذا أسأنا الظن بالثورة والثوار لأن بعض الظن إثم وبعضه الآخر ليس إثما وإنما كما قال الحكماء "سوء الظن من حسن الفطن" فإن التحليل الموضوعي لما حدث عشية قرارات يوليو الاشتراكية يرى أن الرأسمالية المصرية استفادت من حركة تمصير الاقتصاد (التي شنتها الثورة في منتصف الخمسينات) كما حصدت الكثير من أرباح عملية التنمية الوطنية عبر القيام بعمليات المقاولات وتوريد المعدات وقطع الغيار والصيانة فعظمت من أرباحها وثروتها؛ وجعلها ذلك في موقف قوي أعطاها القدرة والرغبة في السعي إلى المشاركة في صنع القرار بناء على ميزان القوة الاقتصادية القائم فعلا على الأرض مما دفع جمال عبدالناصر لتوجيه هذه الضربة الاشتراكية للرأسمالية المصرية بهدف تقليص نفوذها وإضعاف قوتها لتكف عن السعي للمشاركة في صنع القرار الوطني. وأيا كانت دوافع جمال عبد الناصر هل هذا أم ذاك أم كليهما معا فإن التخطيط الاقتصادي المركزي أسهم في تنمية الاقتصاد المصري وتنويع مجال النشاط الاقتصادي ما بين الزراعة والصناعة والخدمات بعكس ما كان عليه الحال قبل الثورة؛ كما أنه أسهم في ضرب القوى الرأسمالية القديمة وتقليص نفوذها؛ وإن كانت قوى أخرى قد بدأت تظهر بالتدريج من التكنوقراط والسياسيين والعسكريين السابقين الذين أصبحوا قادة القطاع العام الذي ورث الرأسمالية المصرية والأجنبية في مصر على حد سواء؛ وسنرى بعد ذلك أن أبناء وأسر هؤلاء والمتحالفين معهم من الرأسمالية القديمة أو من الحرافيش ذوي الطموح هم الذين تسيدوا الموقف بدءا من عام 1977م تاريخ بدء الانفتاح الاقتصادي الذي أطلقه الرئيس الراحل أنور السادات.
ور غم كل التنمية التي قام بها جمال عبدالناصر فقد استلم جمال عبدالناصر الدولة المصرية وهي دائنة لبريطانيا بثلاثة ملايين جنيه استرليني وتركها وهي مدينة بثلاثة مليارات؛ كما استلمها وهي تشمل أقاليم مصر والسودان وغزة وتركها وقد انفصلت عنها السودان واحتلت اسرائيل غزة وسيناء كاملة (أكثر من ثلث مساحة مصر) وتحطم الجيش المصري بالكامل مرتين مرة في عام 1956م وأخرى في 1967م فضلا عن خسائر وهزائم حرب اليمن.
وفي عام 1977م قرر الرئيس أنور السادات التحول إلى نظام اقتصاد السوق فيما سمي وقتها بسياسة الانفتاح الاقتصادي؛ وكما برر النظام الناصري سلوك النهج الاقتصادي الإشتراكي في رغبته لإحداث تنمية شاملة تقضي على الفقر والبطالة والتخلف وأن النظام الرأسمالي له مساؤه ولن يفي بالغرض؛ فإن النظام الساداتي رفع نفس الشعارات ولكنه عكسها بأن النظام الإشتراكي هو السئ الذي لا يفي بالغرض بينما النظام الرأسمالي هو الحل. وبكل سهولة ودون أي معارضة جدية تحول نظام حكم ثورة يوليو الساداتي إلى إقتصاد السوق وبقيادة نفس رجال النظام الناصري؛ بل لعل هؤلاء القادة هم الذين دفعوا لهذا الاتجاه بعدما أصبحوا هم الرأسماليين الجدد؛ فالرأسمالية المصرية الجديدة تكونت من التكنوقراط والسياسيين والعسكريين السابقين الذين أصبحوا قادة القطاع العام وأبناءهم وأسرهم والمتحالفين معهم من الرأسمالية القديمة أو من الحرافيش ذوي الطموح الذين دفعهم طموحهم للالتصاق بهؤلاء أو هؤلاء.
وأصبحت ملامح الصورة الإقتصادية منذ 1977م وحتى 2008م على النحو التالي:
تشير توجهات البنوك وسياسات الإقراض أنه فى 1979 كان كل ما حصل عليه رجال المال من قروض البنوك لا يزيد عن 800 مليون جنيه أى 15% من إجمالى القروض من البنوك التجارية الأربعة المملوكة للحكومة فى ذلك الوقت، بينما في 2001 يقفز حجم القروض الى 213 مليار جنيه ربعها تقريبا بالعملات الصعبة خرقا لكل الأعراف المصرفية وأصبح ما حصل عليه هؤلاء يمثل 80% من إجمالى القروض والتسهيلات الائتمانية التى منحتها جميع البنوك العاملة فى مصر؛ وتكشفت عام 2000 فضيحة هروب كبار رجال المال والأعمال بأكثر من 40 مليار جنيه، فسمعنا شعارات من قبيل تعويم العملاء ومساندة المتعثرين والتصالح مع الهاربين.
كما ظهر أن 333 رجل أعمال فقط حصلوا وحدهم على نحو 80 مليار جنيه فى صورة قروض وتسهيلات ائتمانية أى حوالى 45% من إجمالى القروض والتسهيلات التى قدمتها البنوك لرجال المال بدعم من ذوي النفوذ. كما تشير المؤشرات الاقتصادية إلى تآكل قطاع الإنتاج السلعى للدولة والمجتمع مثل الصناعة والزراعة، بل واتجهت الدولة الى التخلص من شركات القطاع العام فى أكبر عملية بيع اتهمت بالنهب وأحيطت بالشكوك والفساد الذى لم تشهد مصر مثيلا له ولا فى عهد الخديوى إسماعيل؛ إذ تشيرالأرقام الرسمية إلى أنه عند الشروع فى تقييم أصول شركات القطاع العام الثلاثمائة والثمانين فى عام 1991 وبمعرفة مكاتب وشركات تقييم أمريكية وغربية قدروا أصولها بنحو 100 مليار جنيه، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على تطبيق برنامج الخصخصة، باعوا نصف هذه الشركات (194 شركة) بمبلغ لا يزيد على 16.6 مليار جنية، أى أن إجمالى عمليات البيع بعد اكتمالها لن تتجاوز 35 مليار جنية.. فأين ذهب الباقى؟ ولمصلحة من؟ وما علاقتهم برجال الحكم وأبنائهم؟
واستمرارا لسياسات السادات، جرى منح المزايا الضرائبية والجمركية للمستثمرين والمستوردين، وعدلت قوانين الضرائب أكثر من خمس مرات من أجل تخفيض العبء الضريبى على أرباحهم، وألغيت ضرائب تمس دخول الأغنياء مثل ضريبتى التركات ورسم الأيلولة، كما أن الدارس المتعمق فى هيكل النظام الضريبى المصرى طوال عقد التسعينات يكتشف أن الضرائب المتحصلة من الأغنياء فى مصر لم تزد فى أفضل الأحوال على 15% من جملة الحصيلة الضريبية سنويا، وتحملت شركات القطاع العام والفقراء والحرفيين نسبة 85% من العبء الضريبي.
أما الإعفاءات الجمركية فقد قدرتها بعض الدراسات الجادة منذ عام 1974 وحتى عام 2004 بأكثر من 80 مليار جنيه استفاد بها أصحاب المشروعات ولم تنعكس بدورها إيجابيا على هيكل الأسعار فى الداخل.
وأخيرا جاء تزعم الرأسماليين الجدد للحزب الوطني ولجنة السياسات ووزارة الدكتور أحمد نظيف ليلقي الضوء على إجابة السؤال الذي بدأنا به المقال وهو ماذا تبقى من أهداف ثورة يوليو؟؟
- التصنيف: