خطب مختارة - [96] الزواج - فضائل وفوائد وأحكام

منذ 2016-08-03

إذِ الحياةُ الزوجيَّةُ هي محضِنُ الأجيال؛ ومدرسةُ المولود الأولى، ومُوجِّهةُ الشباب إلى الصلاح والإصلاح والتعمير.

الخطبة الأولى

أما بعد، فاتقوا الله كما أمَر، وانتَهوا عما نهَى عنه وزجَر.

عباد الله، إن الإنسانَ مُستخلَفٌ في هذه الأرض؛ ليُصلِحَها ويعمُرَها؛ ويعبُدَ اللهَ عليها، وإنّ الله قد جعل سعادة العبد في طاعة الله، وجعل شقاوتَه في معصية الله؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14].

ألا وإنَّ من المراحل الهامة لهذا الإنسان في هذه الحياة الاقترانُ بزوجةٍ على وفق شرع الله وسنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ليتمَّ بينهما التعاونُ والتراحمُ والتآلف، وتشابُك المنافعِ والمصالحِ، وتتحقَّقُ بينهما مُتعةُ الغرائِز البنَّاءة النبيلة، والسعيُ إلى الأهداف والغايات الفاضِلة، والمكاسِبُ المُبارَكة، والذريَّةُ الطيبة.

إذِ الحياةُ الزوجيَّةُ هي محضِنُ الأجيال؛ ومدرسةُ المولود الأولى، ومُوجِّهةُ الشباب إلى الصلاح والإصلاح والتعمير.

الأبُ والأم لهما الأثرُ الدائِمُ على أولادهما، وهما لبِنَةُ المُجتمع الصالِح -إن كانا صالِحَين-، ومسكَنُ العطف والرحمة والشفقَة والرعاية، والإحسان للناشِئِين، وهما أصلُ الرَّحِم والقرابة.

والزواجُ من سُّنة الأنبياء والمُرسَلين؛ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، وقال تعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

وقد أمرَ الله تعالى بالزواج فقال: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32]، وأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « يا معشرَ الشباب! من استطاعَ منكُم الباءَةَ فليتزوَّج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفَرْج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء» [صحيح مسلم: 1400]. والباءةُ هي القُدرة على المهر والنفقة والسكَن. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «تزوَّجُوا الوَدود الوَلُود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأنبياءَ يوم القيامة» [مجموع الفتاوى لابن باز: 423/8].

أيها الإخوة، إنَّ الزواجَ طهارةٌ وعِفَّةٌ للزوجين، وصلاحٌ للمُجتمع، وحِفظٌ لهم من الانحِراف، الزواجُ أمانٌ للمُجتمع من تفشِّي الزنا وعمل قوم لُوط، وما انتشَرَ الزنا في بلدٍ إلا ضربَه الله بالفقر والحاجة والذِّلَّة، وظهرت فيه الأمراضُ والأوبئة، مع ما للزناة في الآخرة من الخزي والعذاب.

وما قارَفَ أحدٌ عملَ قومِ لُوط إلا فسَدَ قلبُه، وانتكَسَت فِطرتُه، وخبُثَت نفسُه، وانحرَفَت أخلاقُه، وعُوقِبَ في الدنيا والآخرة بأشدِّ العُقوبات. وقد علِمنا ما نزل بقوم لُوطٍ من العقوبة التي لم تكُن لأمةٍ قبلَهم؛ فقد رُجِموا بحجارةٍ من سجِّيل، ورفع جبريلُ عليه السلام مدائِنَهم إلى السماء ثم أسقَطَها عليهم، فجعلَ عالِيَها سافِلَها، وأمطرَ الله عليهم الحِجارة، هذه عقوبات دنيوية فكيف بالعقوبات الأوخروية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعَنَ الله من عمِلَ عمَلَ قوم لُوط، لعَنَ الله من عمِلَ عمَلَ قوم لُوط، لعَنَ الله من عمِلَ عمَلَ قوم لُوط» [مسند أحمد: 4/326]

إذن الزواجُ أمانٌ بإذن الله من الفواحش، وطهارةٌ للقلب، وزكاةٌ للنفس، وسببٌ للذرِّيَّة التي تتعاقَبُ على الأرض لعبادةِ الله وعُمرانها.

أيها الإخوة الكرام، يُشرعُ لمن عزم على النكاح أن يختار الزوجةَ الصالِحةَ، بالخُلُق والدين وحُسن المنبَت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تُنكَحُ المرأةُ لأربع: لمالِها ولحسَبِها ولجمالِها ولدينها،فاظفَر بذاتِ الدِّين ترِبَت يداك» [صحيح مسلم: 1466].

كما يشرع لولي البنت أن يحرص على السؤال عن حسن علاقة الخاطب مع الله وحسن علاقته مع عباد الله، فإذا كان ذا خلقٍ ودينٍ زوَّجَه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ، قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه ، قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ( ثلاث مرات)» [صحيح الترمذي: 1085]. ولا ما نع - أيه الإخوة - من أن يُخطَبَ الكفءُ فقد فعل ذلك عمرُرضي الله عنه وغيرُه من الأخيار.

وإذا جاء الخاطِبُ الكُفء؛ وكانت الفتاةُ أهلاً للزواج؛ فلا يُؤخِّرْ وليُّها زواجَها؛ لأنها أمانةٌ عنده ؛ يُسألُ عنها يوم القيامة. ولا يُرَدُّ الخاطِبُ بحُجَّة مُواصَلَة البنت للدراسة؛ إذ بإمكانها أن تواصل دراستَها بعد زواجها. ولا يجوزُ للوليِّ أن يرُدَّ الخُطَّابَ ليأكُلَ مُرتَّب وظيفتِها، فتضيعَ الفتاةُ بهذا الجَشَع والاستِغلال، فهذا جِنايةٌ عظيمة على المرأة.

ولا تُكرَهُ الفتاةُ على خاطِبٍ لا تقبلُه، بل يُؤخَذُ رِضاها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكَحُ الأيِّمُ حتى تُستأمَر، ولا تُنكَحُ البِكرُ حتى تُستَأذَن، قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنُها؟ قال:  أن تسكُت» [صحيح البخاري: 5136]. ويُشرعُ للخاطِبِ والمخطوبةِ صلاةُ الاستِخارة والدعاءُ بعدها بما ورَد. ويُشرعُ التوسُّط في المهر بما ينفعُ الزوجةَ، ولا يُرهق الزوج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « خيرُ الصَّداق أيسرُه» [صحيح الجامع: 3279].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أقول ما سمعتم وأستغفر الله.

الخطبة الثانية

على كلٍّ من الزوجين المُحافظةُ على رِباطِ الزوجيَّة؛ لئلا ينتقِض، فإنه ميثاقٌ غليظ.

فعلى الزوج أن يقوم بحُقوق المرأة من سكَن ونفقة، ولا يأخذ من مالِها ولو كانت غنيَّة أو مُوظَّفة، إلا أن تشاء. وإذا أعانَت المرأةُ زوجَها فهي مأجورةٌ مُثابةٌ على ذلك. وعلى الزوج أن يُحسِن إليها، ولا يُسيءَ إليها؛ ولا إلى أهلها، قال صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأنا خيرُكم لأهلي» [سنن الترمذي: 3895]

كما على المرأةِ أن تقوم بحُقوق الزوج، وأن تُحسِنَ عِشرتَه، وأن تُطيعَه في المعروف، ولا تُؤذِيَه، وأن تُحسِنَ التعامل مع والدَيه وقرابتِه، وتحفظ مالَه وبيته؛ في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «إذا صلَّت المرأةُ خمسَها؛ وصامَت شهرَها؛ وحفِظَت فرْجَها؛ وأطاعَت زوجَها، دخلت الجنة » [مسند أحمد:3/128].

وعلى كلٍّ مِن الزوجَين سترُ ما يحسن ستره من أمورهم، وإصلاحُ ما يرد مِن خللٍ في بدايته؛ ولا تُعظّم الأخطاء بأكبر من حجمها؛ ومن أخطأ فليعترف بخطئه للآخر ولا يكابر؛ لئلا يتعاظَمَ الشِّقاقُ، فيُؤدِّي إلى زعزعة استقرار بيت الزوجية؛ وربما يصل إلى الطلاق الذي يفرحُ به الشيطان أشدَّ الفرَح، لأنه يضيّعُ الأُسرةَ ويشتتُها؛ وينقلبوا من أصدقاء إلى خصوم وربما أعداء.

وعلى كلٍّ مِن الزوجين أن يتحليا بالصبر؛ فما أُصلِحَت الأمور بمثلِ الصبر والدعاء؛ قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَفرَكُ (أي: لا يَبغض) مؤمنٌ مؤمنة، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخر» [صحيح مسلم: 1469]

اللهم يسر لشبابنا وبناتنا سبل العفة والطهر، واحفظهم من مضلات الهوى والفتن. اللهم اغننا وإياهم بحلالك عن حرامك، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، اللهم أصلح شبابنا وشيبنا، ورجالنا ونساءنا، واجعلنا جميعا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. اللهم ألّف بين قلوبنا؛ وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام  وجنبنا الفواحش والآثام.

  • 4
  • 1
  • 3,914
المقال السابق
[95] الزلازل نذر
المقال التالي
[97] السحرة والمشعوذون

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً