خطب مختارة - [99] السعداء والأشقياء بعد رمضان

منذ 2016-08-04

ما بال أقوام إذا انقضى رمضان عنهم أهملوا ليس النوافلُ فقط بل الواجبات، ووقعوا في المحرمات؛ فتساهلوا في المحافظة على الصلوات الخمس، وتساهلوا في إتيان المساجدِ والجماعات، وهجروا كتاب الله تلاوة وتدبرًا، وأعطوا الحرية لهذه الجوارح لتعملَ ما تشاء، وهي التي أُمرنا بالمحافظة عليها؛ والزامها طاعةَ الله.

الخطبة الأولى

عبادَ الله، إنّ من إيمان العبدِ استقامتَه على طاعة الله ومواصلةَ الأعمال الصالحة؛ والعلمَ اليقينيّ أنّ الله جلّ وعلا إنّما خلقه لعبادته، خلقه ليعبده وحدَه لا شريكَ له، لينفّذ فرائضَه؛ ويقومَ بما أوجب عليه، وليعمرَ هذه الأرض بطاعةِ الله، والاستقامة على دينه؛ الذي هو طريقُ الحقّ والهدى، وربّنا جلّ وعلا جعل حياةَ المسلم كلَّها طاعةً له سبحانه ، وإنّما تنقضي الأعمال بموتِ العبد ومفارقتِه الدنيا، قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99].

أيّها المسلم، لئن كان الله جلّ وعلا خصّ بعضَ الشهور بالفضائلِ فلا يلزَم من ذلك انقطاعُ العمل في غيرها، فرمضان سيّد الشهور وأفضلها، وقد أودع الله فيه الكثير من أسبابِ مضاعفة الحسناتِ وتكفير السيّئات، ولكن هل بعد انقضاء رمضان تُطوَى صحائفُ الأعمال؟! هل بعد قضاء رمضان تُعطَّل تلك الأعمال الصّالحة؟! هل بعد قضاء رمضان يعود الإنسان إلى جهلِه وغفلتِه؟! كلاّ يا أخي، إنّ هذا لهو التصوّر الخاطِئ والفَهم السقيم، فرمضان إنّما جاء ليروِّض النفوسَ وليعدَّها للمستقبل؛ وليهيّئها ويحملها على الخير، فهو يعطي المسلمَ قوّةً في العمل، وهو فرصةٌ للتوبة والإنابة والرجوع إلى الله، وقد جعل الله رمضانَ من الكفارات؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الصّلوات الخمس ؛ والجمعة إلى الجمعة ؛ ورمضانُ إلى رمضان ؛ مكفّرات لما بينهنّ ما اجتُنِبت الكبائر» [صحيح مسلم: 233]

عبدالله، صُمتَ رمضان وتقرّبتَ إلى الله بما يسّر من صالحِ الأعمال، وذُقتَ لذّةَ الطاعةِ ونعيمَ المناجاة؛ ووجدت أثر الأعمالِ الصالحة، فالواجبُ أن تكون عزيمتك ونيتك الاستمرارَ على الخير الذي ألفتَه في رمضان؛ فتعقد العزمَ على مواصلة الطاعةِ بالطاعة؛ واتباع الحسناتِ بالحسنات؛ لكي يبقى ويستمرَّ لك الخير؟ وهذا من شكرِ نعمة الله عليك أن تواصلَ العملَ بالعمل، فنِعَم الله عليك مترادِفة متتابِعة، وكلُّ نعمةٍ تحتاج منك إلى شكرِ الله المنعم المتفضل، ولا أعظمَ شكرًا لله من طاعتِه؛ والقيام بما أوجب؛ والبُعد عمّا نهى.

أيّها المسلمون، ما بال أقوام إذا انقضى رمضان عنهم أهملوا ليس النوافلُ فقط بل الواجبات، ووقعوا في المحرمات؛ فتساهلوا في المحافظة على الصلوات الخمس، وتساهلوا في إتيان المساجدِ والجماعات، وهجروا كتاب الله تلاوة وتدبرًا، وأعطوا الحرية لهذه الجوارح لتعملَ ما تشاء، وهي التي أُمرنا بالمحافظة عليها؛ والزامها طاعةَ الله.

أخي المسلم، ليس هذا حالَ من ذاق لذّةَ الطاعةِ؛ وأَنِسَ بنعيم المناجاة، إنّ من ذاق لذّةَ الطاعةِ على الحقيقة لا يسأمُ العبادةَ ولا يملُّها، اسمَع الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، والحياة الطيّبة هي لذّة المناجاة لله؛ وقوّة الاتّصال بالله؛ والثّقة به؛ والاعتمادُ عليه؛ والأُنس بطاعته؛ والرّاحة بالقيام بما أوجَب، إنّ الحياة الطيّبةَ لا يُحقِّقها مالٌ تكسِبهُ؛ ولا جاهٌ تنالُه؛ ولا بَنونَ؛ ولا عُمرٌ مديد، وإنّما يحقّقها الارتباط بالله جلّ وعلا، فالمؤمنون الصّادقون هم الذين دائمًا على صِلةٍ بربّهم ؛ بذكره؛ بعبادتِه؛ بالثّناء عليه؛ بالقيام بأمره، وهؤلاء هم الذين يتنعّمون في هذه الحياة حقَّ التنعُّم؛ ويجِدون الحياة الطيّبة الهنيئة المباركة، لأن حياةَ المؤمن الصادِق حياةٌ كلُّها خير؛ صبرٌ على البلاء؛ وشُكرٌ في الرخاء؛ وقيامٌ بالواجب؛ ونيةٌ صالحة صادِقة؛ وتحرّكٌ في كلّ الأعمال على وفق ما يحبّه الله ويرضاه.

هكذا المؤمن حياتُه طيّبة؛ لأنّ آماله بالله قويّة؛ فأمله أنّ الله سيستجيبُ له؛ ويتفضل عليه ويكرمه؛ ويحقّقُ له وعدَه الصادقَ الذي وعد به المتّقين المستقيمين أهلَ الإيمان الصادِق، وخاصة في الآخرة التي يقول عنها سبحانه: {هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119]. فالمؤمن يعبدُ الله على بصيرة، ويستقيمُ على هذا الدين، مع يقينٍ بوعد الله، فكلُّه أملٌ ورجاء في ربه أن لا يخيِّبَ ظنَّه؛ وأن يحقّقَ له مطلوبَه، والله لا يخلِف الميعاد.

أمّا غير المؤمن فحياته شقاءٌ وتعاسة ونكَد، كلّما فقد شيئًا من دنياه عاش في همّ وغمٍّ وحزن مستمر؛ لأنّه لا صلةَ له بربّه، فلا يملأ فراغَه إلاّ الدنيا وحطامُها، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ} [طه:124]، فجعل الله حياتَه حياةَ ضنك، حياةَ تعاسةٍ وشقاء؛ وإن نال من الدّنيا وجاهِها وثروتِها ما نال، لأن القلب يبقى شقيًّا تَعِسًا؛ لأنّه يخاف من مصيره، بل يرى أن مصيرَه مصيرٌ سيّئٌ مظلم، نسأل الله العافية.

فعلينا عباد الله أن نستقيمَ على هذا الدّين في رمضانَ وفي غير رمضان، وليكن ما عملناه في رمضانُ حاملاً وسائقًا لنا إلى الخير، فنستقيم على طاعة رَبّنا في كلّ أوقاتنا.

أسأل الله أن يثبّتنا على دينه، وأن لا يزيغَ قلوبَنا بعد إذ هدانا، وأن يعيذَنا من أسبابِ حبوط الأعمال، إنّه على كلّ شيء قدير.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

عبادَ الله، لا شكّ أنّ صيام رمضان هو الركنُ الرابعُ من أركان الإسلام، ولكن مع هذا فعبادةُ صيام التطوّع باقيَة، وقيام الليل باق؛ والتطوع بسائر العبادات مستمر في سائر العام؛ وهي طريق القرب من الله وعنايته ورعايته لعبده؛ يقول الله في الحديث القدسي:«ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به؛ وبصرَه الذي يُبصِر به؛ ويدَه التي يبطِش بها؛ ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألنِي لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه»

 ومن هذه النوافل صيامُ ستّة أيّام من شوّال، يقول فيها نبيّنا  صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضانَ وأتبعه بستٍّ من شوّال كان كمن صامَ الدّهر» [صحيح ابن حبان: 3634]، وصيامُها شكرٌ لله على إكمالِ الصيام والقيام، شكرٌ لله على التوفيق للقيام بالواجِب، وهو أيضًا يرفَع خلَل الصيام، ويكفّر ما عسَى أن يقع منّا من خلَلٍ في صيامِنا.

أيّها المسلم، وهناك صيامُ غيرِ الستّ من شوّال، الصيامُ في أيّام عشرِ ذي الحجّة ويوم عرفة ويوم عاشوراء، وصيامُ الاثنين والخميس، والصيامُ في شهر الله المحرم؛ وشعبان، وشُرع صيامُ ثلاثةِ أيّام من كلّ شهر، قال أبو هريرة رضي الله عنه: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أصومَ من كلّ شهر ثلاثةَ أيّام؛ وأن أصلّيَ ركعتي الضّحى؛ وأن أُوترَ قبل أن أنام» [صحيح البخاري: 1981]، ويحسن أن يكون صيام هذه الأيام الثلاثة في الأيام البيض؛ الثالثِ عشر والرابعِ عشر والخامسِ عشر؛ من كل شهر، وإلا الاثنين والخميس؛ وإلا غيرها.

عباد الله؛ ولئن انقضى قيامُ رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة؛ أقله ركعة؛ وغالب فعله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة، ويبدأ وقت قيام الليل من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، وأفضله في الثلث الأخير من الليل؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينـزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» [صحيح البخاري: 1145]

كما شُرع لنا أيضا من الصلوات النوافل قبل الصلواتِ الخمس وبعدها، أربعٌ قبل الظهرِ؛ وركعتان بعدها؛ وركعتان بعد المغرب؛ وركعتان بعد العشاء؛ وركعتان قبل الفجر.

كما أن الله سبحانه من كريم فضله جعل لنا من الأعمال الصالحة مالا ينقطع بالموت، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو عِلم يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له» [صحيح ابن حبان: 3016]

فلنحرص عباد الله على صالِح الأعمال، ولندخر لأنفسنا قبل مماتنا، ولنعمر أوقاتنا بطاعةِ ربّنا لتكونَ حياتنا حياةَ خير وسعادة في الدنيا والآخرة. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا.

  • 2
  • 1
  • 3,362
المقال السابق
[98] السعادة
المقال التالي
[100] السنة شرفها وحال الناس معها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً