[104] الشمائل المحمدية
يزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل الإسلام حقائق دينهم وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص ولا تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى
أما بعد: ليس هناك أحدٌ من البشر نال من الحب والتقدير ما ناله المصطفى صلى الله عليه وسلم، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، ولذكره تهتزّ قلوب الملايين، والعبرة يا عباد الله بتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق لكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق تبارك وتعالى مبينًا معيار المحبة الصادقة له جل وعلا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31].
إخوة الإيمان، ولم تكن حاجةُ الأمة في عصرٍ ما إلى الاقتباس من مشكاة النبوة والسنة المباركة ومعرفة السيرة العطرة معرفة اهتداء واقتداء أشدَّ إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألوانًا من التصدي السافر والتحدي الماكر والتآمر الجائر من قبل أعداء الإسلام الذين رموه عن قوس واحدة، والذي تولى كبره منهم {مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّـٰغُوتَ} [المائدة:60]، من اليهود المعتدين والصهاينة الغاشمين، ويوالي مسيرتهم دعاةُ التثليث وعبدة الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم المتأثرون بعفن أفكارهم وسموم ثقافاتهم، من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
ويزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل الإسلام حقائق دينهم وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص ولا تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وقد صح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صحيح مسلم: 1718]
» [أيها الإخوة، يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقف مع مقتطفات من السنة العطرة والسيرة المباركة، والشمائل النبوية والآداب المحمدية، فهي ينبوع صافٍ متدفق، يرتوي مِنْ تَمَيُّزِه كلُّ من أراد السلامة، ولئن فات كثيرين رؤيتُه صلى الله عليه وسلم بأبصارهم، فإنه لم يفتهم التأمُّلُ في شمائله وسنته وهديه والتأسي به.
يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة، محدودة بعلمٍ أو عبقرية أو حِنكة. وإنما رسولنا صلى الله عليه وسلم قد جمع نواحي العظمةِ الإنسانية كلِّها في ذاته وشمائله وجميع أحواله، توجها اصطفاء الله له بالنبوة والرسالة، وهو مع ذلك ليس ربًا فيُقصَد، ولا إلهًا فيُعبَد، وإنما هو نبي يُطاع ورسول يُتَّبع، خرَّج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » [صحيح الجامع: 7363].
إن من المؤسف حقًا أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم صلى الله عليه وسلم حقَّ قدره حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حبٌّ سلبي لا صدى له في الواقع، ولا أثر له في السلوك.
إخوة الإسلام، تأملوا هديه وشمائله ـ بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ـ في جوانب الدين والدنيا بأسرها.
في مجال توحيده لربه صدَع بالتوحيد ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بمكة وعشرا بالمدينة، ولذلك فإن أول واجب على محبيه أن يُعنَوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرةِ كلِّ ما يخدش صحيح المعتقد وصفو المتابعة، من ضروب الشركيات والبدع والمحدثات.
وفي مجال عبوديته صلى الله عليه وسلم لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غَفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول:«صحيح البخاري: 6471].
» [وفي مجال الأخلاق نجده صلى الله عليه وسلم في قمة الكمال البشري في رقة القلب، وسماحة اليد، وكفِّ الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس، واستقامة السيرة. كان عليه الصلاة والسلام دائم البشر، سهل الطبع، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح. وقد نال أعظم شهادة في الأخلاق ، بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم} [القلم:4]، يقول أنس رضي الله عنه: "ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألينَ من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أحسنَ من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍ قط، ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا. وكان يقول صلى الله عليه وسلم: « » [سنن الترمذي: 3895]. وتصف عائشة رضي الله عنها خُلُقه؛ فتقول: ( كان خلقه القرآن ) .
وهكذا في حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء رسالة الله وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى بالحكمة والرحمة. ومن النماذج التي تذكر في حكمته ورحمته ورِفقه في الدعوة قصته مع الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، حين نهره الصحابة رضي الله عنهم، فقال صلى الله عليه وسلم: « »، أي: لا تنهروه « » وأرشده برفق وحكمه، وكان من النتائج أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا [صحيح مسلم: 285].
ومن الشهادات التي نالها من ربه؛ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وقال لقريش حينما فتح مكة وقد تمكن منهم: « » [فقه السيرة: 382].
إخوة الإيمان {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.
الخطبة الثانية
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، وروّوا قلوبكم وأرواحكم من شمائل نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وتأمَّلوا خصاله العظيمة وشمائله الكريمة، واربطوا بها أنفسكم وناشئتكم وأُسَرَكم وبيوتكم ومقار أعمالكم وكل أوقاتكم رباطًا محكمًا وثيقًا؛ يسمو عن التخصيص في أوقات، والتعيين في مناسبات، فليس هذا من منهج السلف الثقات.
واعلموا - رحمكم الله - أن هذه الشمائل المحمدية والسجايا النبوية ينبغي أن يكون لها تأثير عملي في إصلاح المنهج، وأثرٌ تطبيقي في إحكام المسيرة ، في عصرٍ كثرت فيه المتغيرات، وتسارعت فيه المستجدات، وتضاعفت فيه الفتن والمشتبهات، فالسنة خير عاصم من شرور هذه القواصم.
وإن كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام في خدمة دينه وعقيدته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بحسب مكانه ومسؤوليته واستطاعته. فأروا الله من أنفسكم خيرًا.
اللهم وفقنا للتأسي بنبينا في دعوته وعبادته وأخلاقه وفي كل أحواله. اللهم ارزقنا شفاعته؛ وأوردنا حوضه؛ واسقنا منه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا.