[116] العزة بالحق والعزة بالإثم
الْعِزَّةُ فِي الْحَقِّ جِهَادٌ، وَالْعِزَّةُ فِي الْبَاطِلِ نِفَاقٌ، وَالإِنْسَانُ -أَيُّ إِنْسَانٍ- يُحِبُّ الْعِزَّةَ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ الذُّلَّ لَهَا، وَالنَّاسُ يَتَلَمَّسُونَ مَوَاطِنَ الْعِزَّةِ، وَيَطْلُبُونَهَا لأَنْفُسِهِمْ؛ كلٌّ حسب تفكيره، الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، إِلا أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَوِيٌ بِإِيمَانِهِ، عَزِيزٌ بِدِينِهِ، قَدْ ذَلَّ للهِ تَعَالَى؛ فَأَعَزَّهُ اللهُ سُبْحَانَهُ، فَلا يَذِلُّ لِسِوَاهُ، وَلا يَخْشَى غَيْرَهُ.
- التصنيفات: خطب الجمعة -
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ الذي كَتَبَ الْعِزَّةَ لأَوْلِيَائِهِ، وَالذِّلَّةَ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَرَ الله النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ، وَطَاعَةِ أَمْرِهِ، وَتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، وَالاسْتِسْلامِ لِشَرِيعَتِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَسْلِمُوا لأَمْرِهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِشَرِيعَتِهِ، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ استَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحِييكُم وَاعلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيهِ تُحشَرُونَ} [الأنفال:24].
عباد الله، الْعِزَّةُ فِي الْحَقِّ جِهَادٌ، وَالْعِزَّةُ فِي الْبَاطِلِ نِفَاقٌ، وَالإِنْسَانُ -أَيُّ إِنْسَانٍ- يُحِبُّ الْعِزَّةَ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ الذُّلَّ لَهَا، وَالنَّاسُ يَتَلَمَّسُونَ مَوَاطِنَ الْعِزَّةِ، وَيَطْلُبُونَهَا لأَنْفُسِهِمْ؛ كلٌّ حسب تفكيره، الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، إِلا أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَوِيٌ بِإِيمَانِهِ، عَزِيزٌ بِدِينِهِ، قَدْ ذَلَّ للهِ تَعَالَى؛ فَأَعَزَّهُ اللهُ سُبْحَانَهُ، فَلا يَذِلُّ لِسِوَاهُ، وَلا يَخْشَى غَيْرَهُ.
إِنَّ الْعِزَّةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْحَقِّ، فَيَكُونُ صَاحِبُهَا عَزِيزًا وَلَوْ كَانَ ضَعِيفًا مُسْتَضَامًا، لا يَذِلُّ لِلْخَلْقِ، وَلا يَتَنَازَلُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ، عَزِيزٌ بِعِزَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ لأَنَّهُ قَدْ شَرُفَ بِعُبُودِيَّتِهِ لَهُ، وَالانْتِسَابِ لِدِينِهِ، وَالْفَخْرِ بِإِسْلامِهِ، وَتَطْبِيقِ شَرِيعَتِهِ، وَلَوْ سَخِرَ مِنْهُ السَّاخِرُونَ، وَاسْتَهْزَأَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ؛ فَهَذِهِ هِيَ الْعِزَّةُ بِالْحَقِّ.
وَاللهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِالْعِزَّةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لا نَقْصَ فِيهَا، وَلا أَحَدَ أَعَزُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَلْ لا عِزَّةَ لِمَخْلُوقٍ إِلا بِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، وَمِنْ أَوْصَافِ المؤمنين أَهْلِ هَذِهِ الْعِزَّةِ أَنَّهُمْ {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم} [الفتح: 29]، {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَٰفِرِينَ} [المائدة:54]، فَلا يَلِينُونَ فِي الْحَقِّ، وَلا يُدَاهِنُونَ الْخَلْقَ، وَلا يَسْتَكِينُونَ لِلْعَدُوِّ، وَلا يَتَنَازَلُونَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ مَهْمَا رُغِّبُوا أَوْ رُهِّبُوا.
عباد الله، إنّ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَلاَّ يَيْئَسَ لِمَا يَرَى مِنْ عِزَّةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَقُوَّتِهِمْ وَغَلَبَتِهِمْ؛ لأَنَّهُ مُعْتَزٌّ بِاللهِ تَعَالَى، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَهُمْ؛ وَلأَنَّ الأَيَّامَ دُوَلٌ، وَالْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى؛ {وَلا يَحزُنكَ قَولُهُم إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [ يونس:65]. إِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ تَغُرُّهُمْ قَوَّتُهُمْ، وَتُعْجِبُهُمْ كَثْرَتُهُمْ، فَيَعْتَزُّونَ بِهَا، فَيَكُونُ إِعْجَابُهُمْ بِقُوَّتِهِمْ أَوْ كَثْرَتِهِمْ بَاعِثًا لَهُمْ عَلَى رَفْضِ الْحَقِّ، وَالْعُلُوِّ فِي الأَرْضِ، وَالضَّعِيفُ مِنْهُمْ يَعْتَزُّ بِالْقَوِّيِّ منهم، كَمَا اعْتَزَّ السَّحَرَةُ بِفِرْعَوْنَ؛ لأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهُمْ؛ { وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرعَونَ إِنَّا لَنَحنُ الغَٰلِبُونَ} [الشعراء: 44].
وَأَمَّا أَهْلُ النِّفَاقِ فَهُمْ مُعْتَزُّونَ بِالْكُفَّارِ، يَذِلُّونَ لَهُمْ، وَيُسَارِعُونَ فِيهِمْ، وَيُطَبِّقُونَ مَنَاهِجَهُمْ، وَيَتَّبِعُونَهُمْ فِي ضَلالِهِمْ؛ طَلِبًا لِلْعِزَّةِ مِنْهُمْ، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: بَ {شِّرِ المُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُم عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَٰفِرِينَ أَولِيَاءَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ أَيَبتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعا} [النساء:138-139]، وَمَنِ اعْتَزَّ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى ذُلٍّ، وَانْظُرُوا إِلَى حَالِ بَعْضِ طُغَاةِ الْعَصْرِ، كَيْفَ هَوَوْا مِنْ ذُرَى الْعَلْيَاءِ وَالْمَجْدِ إِلَى أَسْفَلِ دَرَكَاتِ الذُّلِ؛ لأَنَّهُمُ اعْتَزُّوا بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى؛ فَأَذَلَّهُمُ اللهُ تَعَالَى، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ مَنِ اعْتَزُّوا بِهِمْ ! وَجَمِيلٌ فِي هَذَا قَوْلُ عُبَيْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : مَنْ طَلَبَ عِزًّا بِبَاطِلٍ وَجَوْرٍ؛ أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلا بِإِنْصَافٍ وَعَدْلٍ.
وَكَثِيرًا مَا تَمْنَعُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ أَصْحَابَهَا مِنْ قَبُولِ الْحَقِّ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْكُفَّارِ، أَمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَمْ مِنْ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا دُعِيَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِلَى الإِيمَانِ وَالتَّقْوَى؛ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَرَفَضَ الانْصِيَاعَ لِلْحَقِّ، وَاسْتَكْبَرَ عَنْ قَبُولِ النُّصْحِ، وَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلا عِزَّتُهُمْ بِالإِثْمِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ} [البقرة : 206]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّة وَشِقَاق} [ص:2]، أَيْ: مَا يَحُسُّونَهُ مِنْ عِزَّةٍ بِالْبَاطِلِ، وَحَمِيَّةٍ لَهُ، يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُضُوعِ لِلْحَقِّ. وَعِزَّتُهُمْ بِالإِثْمِ جَعَلَتْهُمْ يُكَذِّبُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُعَادُونَهُ، وَإِذَا ذُكِّرُوا بِالْقُرْآنِ وَوُعِظُوا بِآيَاتِهِ لم ينتفعوا به، فَأَصَرُّوا عَلَى ضَلالِهِمْ أَنَفَةً وَعِزَّةً وَحَمِيَّةً وَكِبْرًا.
إخوة الإيمان، إن العزة بالإثم تحدث مِن بَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرْفُضُونَ الْحَقَّ؛ عِزَّةً وَكِبْرًا، وَيُخْشَى عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَهْوِي إِلَى دَرَكِ النِّفَاقِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ فِي الْمُؤْمِنِ خُضُوعُهُ لِلْحَقِّ، وَلِينُ قَلْبِهِ لِلذِّكْرِ، وَتَأَثُّرُهُ بِالْمَوْعِظَةِ، وَفِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلُوبُهُم} [الأنفال:2]، قَالَ الإمام السُّدِّيُّ تعليقًا على هذه الآية: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَظْلِمَ مَظْلَمَةً قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ، كَفَّ وَوَجِلَ قَلْبُهُ. وَعَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ أَهْلُ الاسْتِكْبَارِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ {إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ}.
عباد الله، إن الْمُؤْمِنُ إذا أُمِرَ بِالتَّقْوَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُضُوعُ وَالْقَبُولُ لهذه الكلمة العظيمة، وَلَوْ كَانَ هُوَ مُحِقًّا، وَكَانَ آمِرُهُ مُبْطِلا، فَإِنَّهُ مَا أَمَرَهُ إِلا بِحَقٍّ، وَأَتْقَى النَّاسِ وَأَعْبَدُهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى، وَلا يَلْزَمُ لِقَبُولِ التَّذْكِرَةِ أَنْ يَكُونَ مَنْ يُذَكِّرُهُ تَقِيًّا، فَوَجَبَ أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا؛ لَعَظِيمِ مَا ذُكِّرَ بِهِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ مُسْعُودٍ رضي الله عنه: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا إِذَا قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ، غَضِبَ، وَفِي رِوَايَةٍ: كَفَى بِالرَّجُلِ إِثْمًا أَنْ يَقُولَ لَهُ أَخُوهُ: اتَّقِ اللهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، أَأَنْتَ تَأْمُرُنِي؟!، وَتَاللهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ يَرُدُّ بِهَذَا الرَّدِّ إِنْ وُعِظَ أَوْ ذُكِّرَ بِالتَّقْوَى!!. على أن الأولى به إذا أراد جوابا أن َيَرُدُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: رَزَقَنِي اللهُ وإياك التَّقْوَى، أَوَ مَا أَمَرْتَ إِلا بِخَيْرٍ، أَوْ نَحْو ذَلِكَ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ قُلُوبَنَا، وَأَنْ يُلِينَهَا لِلذِّكْرِ، وَأَنْ يُخْضِعَهَا لِلْحَقِّ، وَأَنْ يُزِيلَ عُلُوَّهَا وَاسْتِكْبَارَهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُوهُ، {وَاتَّقُواْ يَوما تُرجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفس ما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ} [البقرة:281] .
أَيُّهَا النَّاسُ: حَفِلَ تَارِيخُ الْبَشَرِ بِقَوْمٍ ذُكِّرُوا بِاللهِ تَعَالَى فَتَذَكَّرُوا، وَدُعُوْا إِلَى تَقْوَاهُ فَاسْتَجَابُوا، وَخُوِّفُوا بِهِ فَخَافُوا؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ . كَمَا وُجِدَ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ أَقْوَامٌ ذُكِّرُوا فَلَمْ يَتَذَكَّرُوا، وَدُعُوا إِلَى التَّقْوَى فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا، وَخُوِّفُوا بِاللهِ تَعَالَى فَلَمْ يَرْتَدِعُوا، بَلْ أَخَذَتْهُمُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ، وَأَصَرُّوا عَلَى الذَّنْبِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ.
وَمِمَّنْ تَذَكَّرُوا وَاسْتَجَابُوا: ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يُحِبُّ ابْنَةَ عَمِّهِ حُبًّا شَدِيدًا، وَرَاوَدَهَا فَأَبَتْ، حَتَّى إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى الْمَالِ شَارَطَهَا عَلَى عِرْضِهَا؛ فَوَافَقَتْ مُضْطَرَّةً، فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَعَظَتْهُ، فَقَالَتْ له : اتَّقِ اللهَ، وَلا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ، فَاسْتَجَابَ لِدَاعِي التَّقْوَى، وَأَسْعَفَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، فَقَامَ عَنْهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا، فَلَمَّا حُصِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْغَارِ؛ فَرَّجَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، مَعَ مَا ادَّخَرَ لَهُ مِنْ ثَوْابِ الآخِرَةِ وَجَزَائِهِا.
وَمِنْ مَشَاهِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّقْوَى فِي هَذِهِ الأُمَّةِ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَعَ قُوَّتِهِ وَعَدْلِهِ وَجَاهِهِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، جاء رَجُلٌ فقَالَ لِعُمَرَ : اتَّقِ اللهَ، قَالَ: وَمَا فِينَا خَيْرٌ إِنْ لَمْ يُقَلْ لَنَا، وَمَا فِيهِمْ خَيْرٌ إِنْ لَمْ يَقُولُوا لَنَا .
وَكَانَ يَقْبَلُ التَّذْكِيرَ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ؛ كَمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : خَرَجَ عُمَرُ رضي الله عنه مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ الْجَارُودُ الْعَبْدِيُّ، فَإِذَا بِامْرَأَةٍ بَرْزَةٍ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا عُمَرُ رضي الله عنه فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَتْ : هِيهْ يَا عُمَرُ، عَهِدْتُكَ وَأَنْتَ تُسَمَّى عُمَيْرًا فِي سُوقِ عُكَاظٍ، تُصَارِعُ الصِّبْيَانَ، فَلَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى سُمِّيتَ: عُمَرَ، ثُمَّ لَمْ تَذْهَبِ الأَيَّامُ حَتَّى سُمِّيتَ: أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي الرَّعِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ خَافَ الْوَعِيدَ قَرُبَ مِنْهُ الْبَعِيدُ، وَمَنْ خَافَ الْمَوْتَ خَشِيَ الْفَوْتَ، فَبَكَى عُمَرُ رضي الله عنه.
وَغَضِبَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي دَوْلَةِ بَنِي العَبَّاسِ عَلَى رَجُلٍ؛ فَأَمَرَ أَنْ يُطْرَحَ مِنَ القَصْرِ، فَقَالَ الرَّجُلُ : اتَّقِ اللهَ، فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ؛ فَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ}[البقرة : 206].
وَفِي مُقَابِلِ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْمًا أَنِفُوا مِنَ المَوْعِظَةِ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلتَّذْكِرَةِ، وَأَخَذَتْهُمُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَبُؤْسًا لَهُمْ؛ مَرَّ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَلَى رَجُلٍ فَرَآهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَكْرَهُ، فَقَالَ : يَا هَذَا، اتَّقِ اللهَ، قَالَ: يَا مَالِكُ، دَعَنَا نَدُقُّ العَيْشَ دَقًّا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الرَّجُلَ الوَفَاةُ، قِيلَ لَهُ: قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، قَالَ: إِنِّي أَجِدُ عَلَى رَأْسِي مَلَكًا يَقُولُ: وَاللهِ لأَدُقَّنَّكَ دَقًّا !. وَقَالَ رَجُلٌ لأَحَدِ الكُبَرَاءِ: اتَّقِ اللهَ، قَالَ: أَوَمِثْلُكَ يَأْمُرُ مِثْلِي بِتَقْوَى اللهِ؟! فَرَدَّ عَلَيْهِ قَائِلاً: لاَ أَحَدَ فَوْقَ أَنْ يُوصَى بِتَقْوَى اللهِ، وَلاَ دُونَ أَنْ يُوصِي بِتَقْوَى اللهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكرام: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ إِذَا أُمِرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نُهِيَ عَنْ مُنْكَرٍ؛ أَسْرَعَ إِلَيْهِ الغَضَبُ، وَعَظُمَ عَلَيْهِ الأَمْرُ، فَأَخَذَتْهُ الكِبْرِيَاءُ وَالأَنَفَةُ، وَتَخَطَّفَتْهُ العِزَّةُ وَالحَمِيَّةُ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ طَيْشُ السَّفَهِ، يَتَخَيَّلُ أن قبوله النُّصْحَ وَالإِرْشَادَ ذِلَّةً تُنَافِي العِزَّةَ المَطْلُوبَةَ . فَحَذَارِ حَذَارِ عِبَادَ اللهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ العِزَّةِ بِالإِثْمِ مَوْعُودٌ بِالعَذَابِ؛ {فَحَسبُهُۥ جَهَنَّم وَلَبِئسَ المِهَادُ} [البقرة : 206].
اللهم إنا نعوذ بك من العزة بالإثم، اللهم ارزقنا التقوى، أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه {سُبحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصَّفات:180].