مصارع الكبار والتضليل الإعلامي
خالد سعد النجار
لقد أضحت الدعاية فنًا له ثقله في العملية الإعلامية، وله قواعد وأسس تحكمه وتتحكم فيه مدارها على محاولة كسب تعاطف الجمهور بأي وسيلة شريفة كانت أم وضيعة، هذا مع مقومات أخرى مثل البساطة والتكرار لاختراق أذهان الناس، والولوج إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وكثرة، مع استخدام الرموز وضرب الأمثلة، فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن، وأن تستدعي الصور ذات الدلالة المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروثة أو المكتسبة.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
ما هو الدافع الجبار القادر على تحريك الآلة الإعلامية العالمية المهولة لكي تبث خبرًا بمقتل جندي أمريكي واحد أو روسي أيضًا؟!
وما هي الرسالة التي يريدون أن يبثوها للعالم أجمع عامة والعربي خاصة؟!
فلقد أعلنت قيادة قوات المهام المشتركة الأمريكية في العراق، عن مقتل جندي أمريكي، متأثراً بإصابة تعرض لها في مهمة غير قتالية أو عمل معاد بحسب وصفهم.
وذكر بيان صادر عن القيادة، أن "الجندي لقي حتفه جراء تلقيه إصابة دون ذكر معلومات إضافية حول مكان وزمان وكيفية الإصابة التي تعرض لها".
وبمقتل هذا الجندي يرتفع عدد قتلى العسكريين الأمريكيين إلى اثنين خلال أسبوع واحد، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية على لسان المتحدث باسم التحالف الدولي، عن تفاصيل مقتل عسكري أمريكي في 3-5-2016 بتلسقف، وأكد المتحدث أن هجوم تنظيم داعش كان عنيفًا في محاولة للثأر من الفشل الذي تعرض له خلال الأيام الماضية.
وقال المتحدث باسم التحالف، ستيف وارن، في مؤتمر صحفي بمقر السفارة الأمريكية ببغداد، في 5-5-2016 إن "الجندي الأمريكي الذي قتل في هجوم داعش على جبهات قوات البشمركة في تلسقف في 3-5-2016، هو تشارلز كيتنغ ويبلغ من العمر 31 عامًا وهو من مدينة سان دييغو"، مضيفا أن التحالف قام إثر مقتل المستشار العسكري الأمريكي بقتل 58 عنصرا من داعش.
وفي خبر آخر:
لقي جندي روسي مصرعه في هجوم قرب مدينة حلب شمالي سوريا، مما يرفع خسائر روسيا منذ تدخلها العسكري هناك إلى نحو 15 قتيلاً خلال عشرة شهور تقريبًا.
وقالت وكالة تاس للأنباء أمس نقلاً عن وزارة الدفاع الروسية إن الجندي كان في محيط مدينة حلب عندما انفجرت عبوة ناسفة قرب قافلة تحمل الغذاء والماء للسكان المحليين، وكان الجيش الروسي يرافق قافلة المساعدات، وفق ما نقلت الوكالة.
وكانت المعارضة السورية المسلحة أكدت قبل أيام أنها استهدفت موقعاً عسكريًا في تلة الشيخ يوسف شمال حلب مما أسفر عن مقتل ضباط روس كانوا في الموقع مع عناصر من قوات النظام السوري.
وقبل بضعة أسابيع أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن مقتل جندي، وقالت أيضًا إنه كان يرافق قافلة إنسانية.
وقتل في وقت سابق من هذا الشهر طياران روسيان كانا على متن مروحية عسكرية تشارك في عمليات ضد تنظيم الدولة الإسلامية شرق مدينة تدمر بريف حمص وسط سوريا. وتبنى تنظيم الدولة إسقاط المروحية، وعرضت وكالة أعماق التابعة له حطامها.
من جهتها أعلنت وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا أن أميركيًا يدعى ليفي جوناثان شيرلي من كولورادو كان يحارب في صفوفها قتل في المعارك مع تنظيم الدولة بمدينة منبج شرق مدينة حلب. وقالت في بيان إن هذا المقاتل الأميركي لقي حتفه منتصف هذا الشهر.
بالطبع هذه الصورة الإعلامية مفادها أن الجندي الأمريكي أو الروسي له ثمن وقيمة لأنه من منظومة الكبار، وهي رسالة ضمنية بأن مقتل هذا الجندي بمثابة مقتل جيش أو أمة بأسرها، ولذلك لا حرج في أن تتحرك الآلة الإعلامية وتبث الخبر عالميًا بما فيها منطقتنا العربية التي تعودت على موت العشرات والمئات وربما الألوف من أبنائها، ورقم واحد ومفرداته من الكسور الإعلامية المهملة عندنا والتي لا تستحق ذكرًا ولا بثًا ولا حتى انزعاجًا من الأمين العام للأمم المتحدة.
ثم إن الحبكة الإعلامية لم يغيب عنها تطعيم خبر مقتل الجندي الروسي بأنه كان في رفقة قافلة مساعدات أو قافلة إنسانية!! متغافلاً عن الاجتياح الروسي الغاشم لسوريا ومقتل ألوف الأبرياء بمن فيهم الأطفال والنساء تحت ذريعة محاربة الإرهاب.
أما مقتل الجندي الأمريكي فقد عرض موقع الإذاعة البريطانية على الإنترنت الخبر برفقة صورة لضابط أمريكي وهو يدرب أحد الجنود العراقيين على استخدام السلاح، ومرفق مع الصورة هذه العبارة الإنسانية النبيلة: "تساهم قوات أمريكية في تدريب الجنود العراقيين وقوات البشمركة".
إن مكمن الخطورة في انسلاخ الرسالة الإعلامية عن مضمونها الإنساني والمعرفي، وتحويل مسارها الطبيعي والأخلاقي في نقل الوقائع والمعرفة إلى منحى خاص يخدم أهداف معينة ويتبنى أجندات خاصة، خصوصاً -كما يقول أ. عماد أحمد- وأن رؤوس الأموال التي تقف وراء الكثير من الوسائل والرسائل لم تعد حكراً على استثمارات تجارية أو اتجاهات سياسية، بل أن بعضها يعتمد على أموال ذات مصادر دينية أو طائفية أو استخباراتية أو حتى إرهابية خطيرة، ومن أجل الحصول على أصوات داعمة، تلجأ هذه المصادر إلى نزع الإعلام من سياقه الإخباري واستخدامه كسلاح فعّال وكفخ محكمٍ للاصطياد، متخذة الدعاية والتضليل والحذف والقص والتقزيم والتضخيم وجلد المتلقي كذباً والتلاعب بالصورة .. أدوات لتحقيق مآربها ودس سمومها في عقلية ونفسية المتابع لما يُعرض عن الحدث.
ووسائل التضليل الإعلامي متشعبة تشعب الباطل نفسه، لكن نخص بالذكر منها (لغة التبرير) أو ما يحلو للبعض أن يسميها (النجومية)، كما قال الرئيس الأميركي السابق (جون كينيدي) بعد فشل الهجوم على كوبا في خليج الخنازير: "للنصر مائة أب، فيما الهزيمة يتيمة".
وفي عام 1917 أعلن (آرثر بلفور) وزير خارجية بريطانيا الوعد المشؤوم المشهور باسمه (وعد بلفور) بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان الهدف منه جعل بلاد فلسطين ملك اليهود، بإنشاء وطن قومي لهم في قلب العالم الإسلامي وفي أرض الإسراء، فقال الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) في رسالته المشهورة إلى الرئيس الأمريكي (جون كينيدى) في مايو سنة 1962م : "لقد أعطى من لا يملك، وعداً لمن لا يستحق، ثم استطاع الاثنان من لا يملك ومن لا يستحق بالقوة وبالخديعة، أن يسلبا صاحب الحق الشرعي حقه، فيما يملكه وفيما يستحقه". كلمات رنانة .. لكن تبقى في النهاية الهزيمة هزيمة، وتضخم إسرائيل مستمر، رغم تلك التصريحات النارية والبريق الإعلامي المطبل لها والمزمر.
ومن وسائل التضليل (الدعاية) التي هي في جوهرها عملية إقناع ممنهجة، وصارت ركنًا ركينًا من العملية الإعلامية، وتتبنى بالأساس الظهور بمظهر الصدق وإخلاص النصح -حتى ولو كانت تبطن الشر- من أجل كسب ثقة المتلقي والاستحواذ على فكره، وتلك سنة إبليسية، كما قال تعالى في شأن الملعون مع آدم وحواء: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] أي أقسم لهما بالله، وهو كاذب في هذا.
لقد أضحت الدعاية فنًا له ثقله في العملية الإعلامية، وله قواعد وأسس تحكمه وتتحكم فيه مدارها على محاولة كسب تعاطف الجمهور بأي وسيلة شريفة كانت أم وضيعة، هذا مع مقومات أخرى مثل البساطة والتكرار لاختراق أذهان الناس، والولوج إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وكثرة، مع استخدام الرموز وضرب الأمثلة، فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن، وأن تستدعي الصور ذات الدلالة المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروثة أو المكتسبة.