نصيحة للدعاة وطلبة العلم
عبد العزيز بن باز
شاع في هذا العصر أن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم والدعوة إلى الخير يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين، ويتكلَّمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين
- التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة - محاسن الأخلاق -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنـته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الظلم والبغي والعدوان، وقد بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بما بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعًا من الدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى وحده، وأمره بإقامة القسط ونهاه عن ضد ذلك من عبادة غير الله سبحانه، والتفرق، والتشتت، والاعتداء على حقوق العباد.
وقد شاع في هذا العصر أن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم والدعوة إلى الخير يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين، ويتكلَّمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين، يفعلون ذلك سرًا في مجالسهم، وربما سجلوه في أشرطة تنشر على الناس، وقد يفعلونه علانية في محاضرات عامة في المساجد.
وهذا المسلك مخالف لما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم من جهات عديدة، منها:
أولًا: أنه تعدٍّ على حقوق الناس من المسلمين، بل من خاصة الناس من طلبة العلم والدعاة الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس، وإرشادهم، وتصحيح عقائدهم، ومناهجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات، وتأليف الكتب النافعة.
ثانيًا: أنَّه تفريق لوحدة المسلمين وتمزيق لصفهم، وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والبعد عن الشتات والفرقة، وكثرة القيل والقال فيما بينهم، خاصة وأن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة، المعروفين بمحاربة البدع والخرافات، والوقوف في وجه الداعين إليها، وكشف خططهم وألاعيبهم. ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق، أو من أهل البدع والضلالة.
ثالثًا: أن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين من العلمانيين والمستغربين وغيرهم من الملاحدة الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة، والكذب عليهم، والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه، وليس من حق الأخوة الإسلامية أن يعين هؤلاء المتعجلون أعداءهم على إخوانهم من طلبة العلم والدعاة وغيرهم.
رابعًا: أنَّ في ذلك إفسادًا لقلوب العامة والخاصة، ونشرًا وترويجًا للأكاذيب والإشاعات الباطلة، وسببًا في كثرة الغيبة والنميمة، وفتح أبواب الشر على مصاريعها لضعاف النفوس، الذين يدأبون على بث الشبه وإثارة الفتن، ويحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا.
خامسًا: أنَّ كثيرًا من الكلام الذي قيل لا حقيقة له، وإنما هو من التوهمات التي زيَّنها الشيطان لأصحابها وأغراهم بها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات:12] الآية. والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل، وقد قال بعض السلف: "لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا".
سادسًا: وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به، ولا يثرَّب عليه، إذا كان أهلًا للاجتهاد. فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن، حرصًا على الوصول إلى الحق من أقرب طريق، ودفعًا لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين. فإن لم يتيسر ذلك ورأى أحد أنه لا بدَّ من بيان المخالفة فيكون ذلك بأحسن عبارة، وألطف إشارة، ودون تهجم، أو تجريح، أو شطط في القول قد يدعو إلى ردِّ الحق، أو الإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوِّغ لها. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: « ».
فالذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم، أو تلفظت به ألسنتهم، مما كان سببًا في إفساد قلوب بعض الشباب، وشحنهم بالأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال، والكلام عن فلان وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين وتصيدها وتكلف ذلك.
كما أنصحهم أن يكفِّروا عما فعلوا بكتابة أو غيرها، مما يبرؤون فيه أنفسهم من مثل هذا الفعل، ويزيلون ما علق بأذهان من يستمع إليه من قولهم، وأن يقبلوا على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله وتكون نافعة للعباد، وأن يحذروا من التعجٌّل في إطلاق التكفير، أو التفسيق، أو التبديع لغيرهم، بغير بينة ولا برهان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » متفق على صحته.
ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر من كلام أهل العلم أو غيرهم أن يرجعوا فيه إلى العلماء المعتبرين، ويسألوهم عنه ليبينوا لهم جلية الأمر، ويوقفوهم على حقيقته، ويزيلوا ما في أنفسهم من التردد والشبهة، عملًا بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جميعًا، ويجمع قلوبهم وأعمالهم على التقوى، وأن يوفق جميع علماء المسلمين وجميع دعاة الحق لكل ما يرضيه، وينفع عباده، ويجمع كلمتهم على الهدى، ويعيذهم من أسباب الفرقة والاختلاف، وينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.