قفزة ثقة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد..

فلا أزال أذكر قصة عجيبة حكاها لى صديق كان من الناجين من حادثة العبارة ( سالم إكسبريس ) وقد حكى لي عن تجربته مع هذه الحادثة، وهي - من وجهة نظري - من التجارب التي تكفي لأن يولد المرء من جديد، تجربة تكفي ليصاغ المرء من جديد.


حكى لي أهوالاً تكفي لتجعل كل من عاشها شخصاً آخر، لكن لأن مغاليق القلوب بيد الملك لا تفتح إلا بإذنه فإن كثيراً من الناجين من هذه الكوارث وغيرها - وللأسف - يستعيدون كل مساوئهم بعد أيام قليلة إلا من رحم الرحمن.


المهم، مما حكاه لي هذا الصديق أنه بينما كان على العبارة وهي تغرق والصراخ والعويل والناس لا يلوون على شيء، جاءت سفينة أمريكية ليست بالكبيرة وبدأت في عملية إنقاذ للركاب، وبدأ الركاب يقفزون إلى الماء ثم إلى السفينة. يقول: أما أنا فكنت أنظر إلى الماء وإلى السماء فينتابني الرعب وأتراجع عن القفز، وبعض الركاب شغلته أمتعته وتحويشة عمره عن القفز وأصر على أن يصحبها معه، وكنت أقف (الكلام ما زال لصديقي) على ظهر العبارة أنظر بذهول للركاب الذين قفزوا ونجحوا في الوصول إلى سفينة الإنقاذ وأقول لنفسي: ياااه، بيني وبين النجاة أمتار قليلة، بيني وبين النجاة قفزة، كانت أغلى أمنية في حياتي فقط أن أكون على الجانب الآخر وكنت أحتاج إلى قفزة فقط قفزة، قفزة ثقة وأكون هناك مع الناجين لكن همتي وقوتي يوشكان أن يخوناني و يهلكاني فأموت على الجانب الخطأ.


دعونا من هذا الصديق وأظنني لا أحتاج أن أكمل القصة ليعرف القراء مصيره لأنه مادام عاش ليحكي لي بنفسه هذه الأهوال فهذا معناه أنه فعلها! نعم فعلها: قفز ونجا! بل قفز فنجا.


أقول نعود للشاهد من القصة هذه القفزة (قفزة الثقة) أو (قفزة العمر) أو (قفزة الخلاص) تلك القفزة التي يحتاجها كل منا لينتقل من حياة التفريط والتضييع والتعذب بالتكاليف والعيش لأجل الدنيا والمنصب والزوجة والسيارة ومستقبل الأولاد، ينتقل من هذه الحياة المريرة ومن هذا الجانب المظلم إلى هناك، حيث لا شيء إلا السعادة والفرح والسرور والحبور، حيث: "ما دخلت وقت صلاة حتى اشتقت إليها"، و"أشتهي أن أقوم حتى أشتكي" و"اللهم إن كنت آذناً لأحد أن يصلي في قبره فأذن لي" و"ما فاتتني تكبيرة الإحرام منذ أربعين سنة" وحيث "ماذا يفعل بي أعدائي أنا جنتي معي بستاني في صدري"، هناك حيث يقول أهل هذا الجانب: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منها ولم يذوقوا أجمل ما فيها" هناك حيث يقول أهل هذا الجانب "لولا لقاء الإخوان وقيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا".


قفزة واحدة وننخلع من سفالة الهمم وتفاهة الأحلام ولغو الحديث إلى هناك حيث الأحلام كلها علوية والهمم كلها عالية والأحاديث كلها طيبة، حيث لا غيبة ولا نميمة ولا كذب، هناك حيث يرى المؤمن ذنبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه فيهلكه، هناك حيث لا شيء اسمه ذنوب صغيرة أو هذا مكروه وهذا مستحب بل حرام وحلال، هناك حيث لا يشبع واحد وجاره قد عضه الجوع، هناك حيث رجل يخرج من نصف ماله ورجل يزوج ابنته لأجير عنده.


قفزة واحدة وتودع النكد والكدر والنصب إلى هناك حيث: « عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته ضراء صبر وإن أصابته سراء شكر».

قفزة واحدة وتصبح هناك: هل تعرف معنى هناك هذه؟


هناك حيث للثلث الأخير قيمة عند أهل هذا الجانب، وساعة الإجابة يوم الجمعة، والوقت بين الصبح وطلوع الشمس، وبين الآذان والإقامة، هناك حيث الهدوء النفسي والصفاء الذهني، هناك حيث الراحة مهما بلغت مكدرات الدنيا فلا حزن ولا سخط بل رضا وصبر جميل، هناك حيث حسن الظن من إخوانك وصلة الرحم من أرحامك وحقوق الجار من جيرانك.


هناك، هل تعرف ما معنى هناك هذه؟ هناك هذه معناها أن تصبح واحداً من الذين أحبهم الرب!!! نعم أحبهم الرب هل تستوعب هذا؟ هل تفهم هذا؟ هناك هذه يعني يكون الرحمن سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به ويدك التي تبطش بها ورجلك التي تمشي بها!!! هناك هذه يا عبد الله حيث تسأله فيعطيك وتستعيذه فيعيذك، يالله !!
قولوا لي بالله عليكم وبسرعة كيف لي بهناك هذا؟


بقفزة ثقة يا عبد الله، لكنها ليست ثقتك بنفسك بل لو وثقت بنفسك وكلت إليها وإن وكلت إليها هلكت.
قفزة ثقة في مولاك الذي هو مع المحسنين والمتقين والصادقين الذي هو أكرم من أن يخذلك إن رأى منك الصدق.
نعم أنت تحتاج إلى قفزة ثقة وإن شئت فقل أنت تحتاج إلى قفزة توفيق!! نعم قفزة توفيق، آه لو وفقك، وآه لو أخذ بيدك.

كيف السبيل؟

اطرح نفسك على أعتابه، والزم بابه، وادعه حتى ينقطع صوتك، فلو أخذ بيدك ووفقك إلى هذه القفزة فهنيئا لك، وحمداً لله على سلامتك.

إذا فلتكن هذه القفزة شعار المرحلة والحلم الذي يملأ عليك حياتك فينسيك كل شيء إلا قفزة الخلاص.


خالد الشافعي
[email protected]

المصدر: خالد الشافعي - خاص بموقع طريق الإسلام