الحجامة.. من الأجداد إلى الأوليمبياد

منذ 2016-08-25

لم ينصَبّ الجانب الأكبر من التعليقات على مدى مهارة وإبداع وحسن تحضير واستعداد مايكل رياضيًا لانتزاع هذا الإنجاز الذي يبدو أنه لن يكون الأخير في مسيرته الحافلة، فقد كان للرأي العام الجمعي المتابع للحدث ما يشغله من مايكل أشد مما سبق؛ إنها تلك (الكدمات؟!)..

كانت البارجة الأمريكية البشرية تمزق كعادتها صفحة الماء في حمام السباحة الأوليمبي، إنه مايكل فيليبس معجزة الرياضة البشرية الحديثة ينتزع ميداليته الذهبية الأوليمبية رقم 19 في أعظم الألعاب البشرية.

لكن هذه المرة في ريو 2016 لم ينصَبّ الجانب الأكبر من التعليقات على مدى مهارة وإبداع وحسن تحضير واستعداد مايكل رياضيًا لانتزاع هذا الإنجاز الذي يبدو أنه لن يكون الأخير في مسيرته الحافلة، فقد كان للرأي العام الجمعي المتابع للحدث ما يشغله من مايكل أشد مما سبق؛ إنها تلك (الكدمات؟!) / البقع / الوحمات الحمراء التي ازدحمت على ظهر وكتف البطل الأمريكي، والتي أثارت فضول وتساؤلات الكثيرين شرقًا وغربًا من المحيط إلى المحيط.

حجامة!، تخيلوا يا سادة أن عنوانًا يحمل كلمات الحجامة والأوليمبياد وأمريكا، هو عنوان منطقي هذه الأيام في غالب الصحف والمواقع المتابعة لريو 2016!

اعتدنا أن يرد ذكر الحجامة في الجدالات الرومية بين بعض مشايخنا ومثقفينا، بين فريق يعتبرها من أقداس وأركان الدين لانتسابها إلى سنة الرسول الكريم، والآخر يصاب بفرط حساسية قاتل لمجرد ذكر اسمها، ويعتبر أن مجرد الحديث عنها غوص حتى النخاع في مستنقع التخلف الذي تغرق فيه أمتنا.

وعالميًا لم يكن يردُ لها ذكرٌ إلا في سياق المناظرات بين المؤمنين بوجود طب بديل موروث لا يتعارض ككل مع الطب التجريبي الحديث، والمؤمنين أن هذا عبث وخرافة، وأنه لا طب إلا بالتجريب العلمي والبحوث الحديثة وآلياتها واستنباطاتها.

لكن أن تحظى الحجامة بكل هذا الاهتمام الواسع، وتُسْتَقْبَل بقدر من الاستغراب المشوب بالاحترام أكثر من الاستتقبال الاستنكاري الاستهجاني المعتاد، فلابد أن وراء هذا قصة أو قصص.

جولة تاريخية خاطفة
لا تكاد تخلو أمة من أمم الدنيا من عادات وتقاليد متوغلة في القدم، ومتغلغة في وعي ولاوعي شعوبها. ومن أخطر هذه العادات ما يتصل بصحة الإنسان من ممارسات تثير الكثير من اللغط قديمًا وحديثًا، والإنسان مجبول على التقليد، وعلى احترام ما أتى به الأجداد، وأشده ما اكتسى بصبغة دينية حتى ولو تعارض بشدة مع منطق العلم الحديث.

وتكاد هذه الممارسات الطبية التقليدية تتناسب طرديًا مع مدى أصالة وقدم حضارة الأمة، ولذا فلا غرابة أن يكون الموروث الصيني القديم، وكذلك الفرعوني، هما الأكثر غنىً وتنوعًا واكتظاظًا بها.

وتُرجِع أكثر المصادر التاريخية نشأة الحجامة كممارسة طبية تقليدية إلى أطباء الصين القديمة منذ ما يربو على 7 آلاف سنة، حيث كان أطباء الهان –المكون الأصلي للشعب الصيني– يعتقدون أنها تتخلص من سوائل النفس الفاسدة؛ فتصفو الروح، وتعتدل الأمزجة، ويستعيد الجسم طاقاته وعافيته؛ حيث كانوا يعتقدون بوجود ما يسمى (كاي) والتى تسري في كل كائن حي، وهي توازي في ثقافتنا النفس أو طاقة الروح الكامنة، وأنها لكي تواصل سريانها السلس في الأجساد الحية فلا بد من التخلص من الفساد باستخدام الحجامة.

ويبدو أن شهرة هذه الممارسة قد طبَّقت الآفاق حتى استحوذت على مكانة مماثلة لدى الكثير من الشعوب القديمة، ليستمر توارثها إلى الآن خاصة في جوار الصين في آسيا وفي منطقة الشرق الأوسط لدينا.

وقد احتوت البردية المصرية القديمة ذائعة الصيت Ebers Papyrus –والتي تعد مرجعًا هامًا عن الطب لدى الفراعنة– على ذكر الحجامة وكيفية ممارستها وفوائدها، وهذه البردية يعود تاريخها إلى 1500 عام قبل الميلاد.

كما تشير كتب السيرة إلى أنها كانت تستخدم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وتنقل لنا بعض الآثار عنه أنه مارسها بشخصه وحث عليها، ومن هنا كان منبع الجدل المعاصر عندنا فيها بين من أخذ بظاهر المنقول واعتبرها سنة وعبادة إنكارها من أشد المنكرات، وبين من اعتبرها ممارسة موقوتة بزمانها وسقف التقدم فيه، كركوب الإبل مثلاً أو الطرق التقليدية في الزراعة والصناعات البدائية، ..إلخ.

ولكن كيف يتم ممارسة الحجامة؟
عندما تداويكَ جروحك
لا يخلو الأمر من بعض الشاعرية؛ فالمفترض أن تلك الجروح والندوب التي تُحْدثها الحجامة في جسمك ستداوي آلامك، وتنقي دمك، وتصفي روحك، وتجدد طاقتك.

هناك نوعان من الحجامة كما يخبرنا المعالجون بها؛ الحجامة الجافة وغير الجافة.
يشترك النوعان في أن عمادهما هو القيام بما يشبه شفط الجلد في عدة مواقع من الجسم خاصة الظهر والكتف، وذلك باستخدام ماصات خاصة على شكل كاسات تقوم بتفريغ الهواء vacuum suction؛ مما يسبب شفط الجلد إلى الخارج وذلك لمدة من 5 إلى 10 دقائق، وهذا الشفط الشديد للجلد والذي يؤدي إلى تمدد إجباري شديد لأوعية الجلد الدموية واحتقانها بالدماء، هو ما يسبب الكدمات الحمراء الشهيرة التي تناقلت مختلف وسائل الإعلام صورها على ظهر بعض لاعبي الأولمبياد. وقبل اختراع الماصات البلاستيكية الحديثة، كانت طريقة الأجداد تعتمد على إيقاد مادة مشتعلة داخل كوب من الفخار مثلاً، ثم وضعها مباشرة على الجلد. هذا الحريق المحدود سيستهلك الأكسجين الموجود داخل الهواء المحصور تحت الكوب فتنطفئ النار ولا تضر الجلد، وبمجرد أن يبدأ الهواء المحصور في البرودة والانكماش فإنه يُحدث ما يشبه الضعط السلبي negative pressure مما يسبب شفط الجلد إلى الخارج.

تزيد الحجامة غير الجافة Wet cupping في أن المعالج يقوم بإحداث جروح سطحية في الجلد قبل أو بعد شفطه، هذه الجروح سيتم منها التخلص من الدم (الفاسد) حسبما يزعم ممارسوها.

تبدو الممارسة سطحية للغاية، بل ومؤذية. لكن المدافعين عنها ينافحون بأن الجلد يعود إلى طبيعته تمامًا في معظم الأحوال خلال 10 أيام، وأن مراكز الحجامة الراقية (لا تستغرب الكلمة، فهناك في الخارج معاهد «طبية» ضخمة لممارسة ولأبحاث الحجامة) تطبق قواعد مكافحة العدوى الطبية العالمية في تعقيم وتنظيف الجروح والأدوات.
لكن ما فائدة كل هذا؟.

الحجامة في ميزان الطب
تدعي الجمعية البريطانية للحجامة أن ممارسة الحجامة سببت تحسنًا ملحوظًا في بعض الحالات المرضية الجسدية والنفسية رغم اعترافها بفقر الأدلة العلمية البحثية على هذا.

يُعتقد أن هذا الاحتقان الدموي الذي تحدثه الحجامة في أماكنها يزيد تدفق الدم بما يحمله من مغذيات وخلايا مناعية في الأماكن المستهدفة، كما أن هذه الجروح المتعمدة تتخلص من بعض الدم الوريدي العائد من خلايا الجسم محملاً بمخلفاتها –من المعروف أن الحجامة تتجنب أماكن الشرايين التي تحمل الدم المؤكسج المفيد-، فتقوم مخازن الجسم بدفق احتياطي الدم الجديد إلى الدورة الدموية لتعويض الفاقد (ألا يكون التبرع بالدم أجدى كثيرًا من هذا المنظور؟!).

الحد الأدنى من الفائدة كما يقولون هو تجديد النشاط، والاسترخاء، والتخلص من آلام الظهر والمفاصل التي يعاني منها أغلبنا، خاصة الآلام المزمنة التي قد لا تجدي معها المسكنات المعتادة، كبعض أمراض المناعة الذاتية أو تيبس العضلات fibromyalgia،..إلخ.

لكنهم يدعون أن الاستفادة طالت أمراضًا مؤرقة كالروماتويد rheumatoid arthritis قاهر المفاصل، وحساسية الجلد المفرطة eczema، والربو الشُّعبي bronchial asthma، وارتفاع ضغط الدم، والصداع النصفي migraine، وحب الشباب acne، وكذلك العقم، بل ومرض وراثي خطير كالهيموفيليا التي تسبب سيولة الدم، وبالطبع للأمراض النفسية نصيبٌ وافر، خاصة الاكتئاب والأرق المزمن، وفرط القلق generalized anxiety disorder.

لكن المشككين في الأمر –وهم أكثر– يضعون كل ما ينسب للحجامة من فضل تحت خانة ما يسمى في الطب placebo effect، وهو ما يمكن لتقريب الأمر ترجمته بالتأثيرات المتوهمة أو النفسية، وهي أن يُحدث دواءٌ ما أثرًا ليس من صميم وظيفته، وإنما مدار الأمر على إيمان المتعاطي واعتقاده الشديد في جدوى الدواء. فمثلاً قصة ذهاب الآلام المزمنة مع الحجامة، لا يوجد جهاز أو وسيلة قاطعة لقياس شدة الألم، وبالتالي فادعاء المرضى التحسن معها لا يمكن قطعيًا التثبت منه.

ويستندون في دعواهم ضدها كذلك إلى الكم الهائل من الدجالين والمشعوذين الذين يتلاعبون بعقول وأحلام البسطاء والقانطين، ويفيدون على حسابهم من وراء الحجامة وغيرها من ممارسات الطب البديل.
للأسف لا توجد دراسات قوية على أسس البحث العلمي المنهجي تختص بالحجامة وتحسم جوانبها سلبية أو إيجابية، وبالتالي سيظل الأمر في خانة اللغز والجدال وعدم الحسم إلى أمد غير قريب.

لكن يُجمع الكل على وجوب عدم ترك العلاجات اليقينة التي قتلت بحثًا من أجل علاجٍ ذي فائدة مختلف فيها، وكذلك ضرورة الالتزام التام بقواعد مكافحة العدوى والتلوث، ويُنصَح – إن كنت لابد فاعلاً – بأن تتعامل مع مختص، فإن لم تستفِد، فعلى الأقل لا تخرج بأضرار.

في دائرة الضوء
أعاد فليبيس ونظراؤه الرياضيون الممارسون للحجامة تسليط الأضواء على قضية الطب البديل ككل، فاندلعت المعارك المعروفة بين طرفي النقاش، كما اندلعت معارك أخرى في تفسير لجوء لاعبين على مستوى هائل من إمكانات التدريب وتطوير القدرات إلى مثل هذه التقاليد غريبة الأطوار عن العرف الرياضي العام.

شخصيًا أرى في جانب من الأمر تعبير عن حاجات روحية ملتبسة لدى الأجيال المعاصرة لم تشبعها أضواء وإنجازات هذا الزمان الحافل المتسارع، بل يبدو أن هذا الزخم المادي المعاصر قد أجّج هذه الحاجات المعنوية.
لكن ما يعنيني حاليًا هو ألا يكون – كالمعتاد – مثارًا للتنطعات والجدالات العقيمة، وأن يستفاد منه في الانفتاح على كل مختلف، واستيعاب آراء واعتقادات الغير، وعدم أخذ مواقف قطعية مسبقة استنادًا إلى آراء أولية.
سؤال أخير مفتوح الإجابة: لو كان أصحاب الظاهرة الحالية من اللاعبين العرب والمسلمين، هل كان الأمر سيحظى برد الفعل شبه الإيجابي – أو محدود السلبية – الحالي، أم حينها سيكون للأمر وجهة أخرى؟!.
----
* المصدر: موقع إضاءات. 

 

محمد صلاح قاسم

المصدر: موقع مجلة المجتمع الكويتية
  • 2
  • 0
  • 2,544

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً