حرق المصحف.. هزيمة الغرب الحضارية
منذ 2010-09-26
نشهد هذه الأيام حملة مسعورة على الدين الإسلامي بكافة مقدساته، بدءًا من الرسوم المسيئة، ومرورًا بالحملة على النقاب، وانتهاء بالحملة التي تدعو إلى حرق المصحف في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، وكلها مؤشرات تدل على أن الإسلام طرق باب أوروبا ودخل وهدد أصل
نشهد هذه الأيام حملة مسعورة على الدين الإسلامي بكافة مقدساته، بدءًا من الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومرورًا بالحملة الشرسة على النقاب في أوروبا، وكذلك تصاعد المد اليميني المعادي للمهاجرين، وانتهاء بتلك الحملة التي تدعو إلى حرق المصحف في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، وكلها مؤشرات تدل على أن الإسلام طرق باب أوروبا ودخل وهدد أصل حضارتهم، وأن ردرود الفعل تلك ما هي إلا مؤشرات يائسة للحفاظ على البقية الباقية من مكونات حضارتهم الغربية، والتي هي في صراع مع الحضارة الإسلامية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عما يسمى بـ "صدام الحضارات" بعدما صك ذلك المصطلح صمويل هنتنجتون في التسعينيات بعد انتهاء الحرب الباردة، والذي قسم فيه العالم إلى سبع حضارات مختلفة، وقال أن الصراع حتمي بين الحضارتين الغربية والإسلامية، وقال أن العالم في السابق كان في صراع بين الممالك ثم بين الدول القومية، ثم بين الأيدلوجيات لتنتهي تلك الحقبة مع انهيار الشيوعية، ليبرز عهد جديد يدور فيه الصراع بين الحضارات، وقال أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي الخطوط الأمامية للحروب في المستقبل، وقال أيضًا أن الحضارة الإسلامية تمتلك حدودًا دامية في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وأنها في صراع مع كافة جيرانها. وقد أثبتت الأيام صحة بعض مقولات هنتنجتون، ولكنها أثبتت كذلك خطأ الكثير منها.
فقد أصاب في أن العالم بدأ يبحث عن جذوره الحضارية والالتفاف حولها، وانزوى ما يعرف باسم الدولة القومية وانزوت كذلك الأفكار التي تدعو إلى الشوفونية وحب الأوطان والتمسك بهوية الدولة، فرأينا الدول تمحورت حول كيانات كبيرة، مثل الاتحاد الأوروبي الذي استطاع أن يصهر الهويات القومية في بوتقة الهوية الأوروبية الجامعة، وكذلك رأينا الغرب يتحول إلى كيان واحد بأوروبا في الشمال والولايات المتحدة في الغرب وأستراليا في الجنوب، وبقية الدول التي تنتمى إلى منظومة الحضارة الغربية، كما رأينا أيضًا زيادة الرجوع إلى الأصول الحضارية في العالم الإسلامي، ورأينا عودة تركيا إلى أصولها الحضارية والتي هي مبنية على الإسلام بالأساس، وبدأت تنأى عن أوروبا وريثة الحضارة الغربية، والتي كان لها دورًا كبيرًا في صد تركيا عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لأسباب حضارية أيضًا، تتعلق باختلاف الهوية التركية عن الهوية الأوروبية، في الوقت الذي ضمت فيه دولاً من أوروبا الشرقية كانت في السابق معادية لها سياسيًا، ولكنها لا تختلف عنها كثيرًا من حيث الهوية الحضارية، بالرغم من اختلاف المذهب الديني لبعض تلك الدول، مثل الدول الأرثوذكسية التي تنتمي بالأساس إلى الحضارة السلافية الأرثوذكسية التي تحمل لوائها روسيا في عالم اليوم.
وبات الناس يبحثون أكثر عن هوياتهم الحضارية، والمكونة أساسًا من الدين ومن الثقافة ومن اللغة ومن التاريخ المشترك، وفي العالم الإسلامي ازدادت الصحوة الإسلامية نفوذًا في عدد من البلدان العربية واكتسح الإسلاميون الانتخابات في عدد من البلدان من المغرب إلى الكويت إلى الأردن إلى فلسطين إلى تركيا، ولو أقيمت انتخابات نزيهة في بقية البلدان لرأينا نمطًا مشابهًا في الدول الأخرى، وذلك لأن الشعوب ـ وليس النخبة فقط ـ بدأت البحث في جذورها العربية والإسلامية، وبدأت في التمحور حول ذاتها وحول هويتها الأصلية.
ونحن اليوم أمام لحظة كاشفة في سلسلة صدام الحضارات، فقد بدأ الغرب بالشعور بقوة الإسلام على أراضيه، في شوارعه ومحاله التجارية، بل وفي بيوته أيضًا، وبات الإسلام أسرع الأديان انتشارًا في العالم، وبدأ الغرب يشعر بتهديد هويته الحضارية، فبدأ باتخاذ خطوات دفاعية ورأينا أحزابًا يمينية في صعود في أوروبا تعارض استقدام المهاجرين وتهدف إلى منع تركيا من دخول الاتحاد الأوروبي، بل رأينا موجة من الهجوم على الإسلام بدءًا من الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، والهجمات على النقاب والحملات ضد المهاجرين كما أسلفنا، وانتهاء بحرق المصحف الشريف، وكلها مؤشرات تدل على الضعف وليس على القوة، وتدل على أن الإسلام بات يمثل تهديدًا حقيقيًا للغرب، يهدد أصل حضارته وهويته، ويهدد بأن تتحول أوروبا إلى الإسلام في غضون سنوات، كما حذر بذلك بابا الفاتيكان مؤخرًا.
ولكن تلك اللحظة الكاشفة أظهرت بجلاء الفرق الواضح بين الحضارتين الغربية والإسلامية، ففي الوقت الذي دعا فيه الجميع إلى حرق المصحف بما في ذلك أقباط المهجر من الكنائس الشرقية، لم نر دعوة واحدة لحرق الإنجيل أو التوراة ردًا على ذلك، وكان يمكن بسهولة أن يخرج أي فرد ليعلن ذلك وكان سيرى في حينه على أنه إجراء مشروع ورد مكافئ، من شأنه أن يوقف حالات الجنون التي انتابت أوروبا لحرق المصحف الشريف، ولكن المسلمين امتنعوا عن ذلك، والسبب الرئيس هو أن حضارتهم الإسلامية تمنعهم من تلك البربرية، وأن مكوناتهم الثقافية والحضارية يهيمن عليها الدين الإسلامي الذي ينهانا عن أن نبادل المشركين بالإساءة، فقط لأننا أعلى حضارة منهم، ولأن دورنا هو إخراجهم من الظلمات إلى النور، ولأننا نعلم جيدًا أن منطلقاتهم من حرق المصحف تنبع من جهلهم بالإسلام، والدليل على ذلك أن تلك الحملات المسعورة لحرق المصحف أدت إلى حملات مباركة لمحاولة معرفة المزيد عن الإسلام، بل دخلت أعداد كبيرة من الغربيين في دين الله، فقط لأنه يحمل مكونات الحضارة الأعلى، وبمجرد أن يقرأ الغربيون عن الإسلام فإن المنصفين منهم لا يمتلكون سوى الاعتراف بأن الإسلام هو الدين الأرقى بين الأديان السابقة، وأنه يخلو من الممارسات الجاهلة والشركية مثل عبادة الأصنام والأيقونات التي تمارس في الكنائس والمعابد باسم الدين، بل ويخلو من الممارسات الشركية التي تمارسها مختلف الكنائس شرقًا وغربًا مثل السجود والنذر لغير الله، وأن الفطرة السليمة السوية تنحاز إلى الإسلام فور قراءة القرآن والسنة النبوية المطهرة.
فتلك الحادثة ـ حرق المصحف ـ كانت نقطة صدام أخرى بين الحضارتين الغربية والإسلامية، وتلك النقطة الفارقة جاءت في صالح الإسلام وليس ضده، وجاءت لتثبت من جديد أن بيدينا سلاحًا ناعمًا نستطيع به غزو أوروبا إذا أحسنا فهمه وتطبيقه والدعوة إليه، وأن الإسلام هو القوة الأولى التي بين أيدينا، وهي التي تستطيع أن تقف أمام المد الغربي، والذي يهدف إلى نشر حضارته وتغلغلها بين بلاد المسلمين، عن طريق الترويج لبضائعهم ونمط حياتهم الاستهلاكي، وعن طريق الترويج لمسلسلاتهم وأفلاهم لنشر نمط حياتهم السائد في مجتمعاتهم الغربية ونقلها إلى بلداننا الإسلامية، وكل تلك من الأدوات الناعمة للحضارة الغربية والتي تمارسها على بلدان المسلمين من خلال ما يسمى بالعولمة في الاقتصاد والإعلام والسياسة.
فمكونات الحضارة الغربية تشتمل على أن الإنسان هو سيد هذا الكون وأن كل شيء مسخر لرفاهيته، ومن الأسس التي تقوم عليها الحضارة الغربية هو النزعة المادية في كل شيء، بالإضافة إلى أنها تقوم على الصراع من أجل التغلب على الآخر وأن العالم كله في حالة دائمة من الصراع، وأن البقاء للأقوى كما تقول به الدارونية الاجتماعية، وهو المذهب الاجتماعي الذي استقى مبادئه من كتاب أصل الأنواع لتشارلز دارون الذي أسس نظرية النشوء والارتقاء والتي تفيد بأن الصراع دائم بين الأجناس وأن البقاء للأقوى في النهاية.
أما الحضارة الإسلامية فتنشر نورها على الجميع، وشرع جهاد الطلب بالأساس من أجل كسر الحواجز التي تحول بين توصيل كلمة الله إلى مختلف الأجناس حول العالم، لإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وهدايتهم إلى صراطه المستقيم، ففور أن تتم إزالة تلك الحواجز والتي كانت تتم قديمًا بالوسائل العسكرية، كان المسملون يضعون أسلحتهم في أغمادها ويتواضعون مع السكان المحليين وينخرطون بينهم ويؤاكلونهم ويشاربونهم ويتاجرون معهم في كل البلدان شرقًا وغربًا، يعاملونهم بالحسنى ويتولون حمياتهم وكفالة الحياة الكريمة لهم، بل والعدل بينهم وبين المسلمين أمام القضاء، يعاملونهم بتلك الحضارة الأرقى التي كانت تمثل صدمة حضارية للآخر فور مخالطته للمسلمين، فيكتشف فورًا أن كافة الأنماط السائدة المسبقة التي كانوا يحملونها على الإسلام والمسلمين قد انهارت، ويبدو أمامهم ذلك النموذج الحضاري الناصع، الذي لا يصارعهم في الدنيا ولا ينافسهم فيها، ولا يقوم على إقصاء الآخر وإزالته أو الانتصار عليه أو العلو عليه بعنصرية، بل كان المسلمون نموذجًا للرقي الحضاري في المعاملة وفي الإحسان، بل وفي العلوم أيضًا، حيث نقل العرب المسلمون إلى أوروبا الكثير من المخترعات التي لا تزال تمثل دعائم العلوم الطبيعية والإنسانية في عالم اليوم، بسلسلة كبيرة من العلماء في كافة أفرع المعرفة.
والتسامح هو جزء أصيل من الحضارة الإسلامية: فمن يريد حرق مصحفنا نعامله بالحسنى ونهديه نسخة لكي يقرأها أولاً، ومن يجهل علينا نحلم عليه لأنهم قوم لا يعلمون، وكانت النتيجة أن دخل الآلاف في دين الله أفواجًا حول العالم بعد الحادثة الأخيرة لحرق المصاحف، بل ضرب المسلمون مثالاً في التسامح وفي حب الآخر، ورأينا أمثلة منصفة من الغرب أيضًا، في الولايات المتحدة وفي غيرها من بلدان العالم الغربي.
إن أقوى سلاح يمتلكه المسلمون هو دينهم المكون لحضارتهم الإسلامية، والذي يعد وسيلة غزو ثقافي وحضاري للغرب، ويمثل سلاحًا هجوميًا ودفاعيًا في الوقت ذاته، بل ويمثل مكونًا أساسيًا من عوامل الانتصار في القرون القادمة، وقد نبأنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أسوار روما ستسقط بالتكبير وليس بالسلاح، فالتلاقي بين الحضارتين الغربية والإسلامية سوف يصب في مصلحتنا في النهاية، فقط إذا التزمنا بديننا وبشريعتنا، وبالعناصر الأخلاقية المكونة لحضارتنا الإسلامية، والحملة على النقاب في الغرب ستظهر للعالم كيف أن المسلمات ملتزمات بدينهن وأنهن أنفسهن من يقمن بالتظاهر وليس الرجال الذين يفترض الغرب أنهم يجبرون نسائهم على لبس النقاب، بل إن صورة المرأة المسلمة وهي تتظاهر من أجل الحفاظ على عفتها وعلى حجابها لهي رسالة أخرى للغرب بأن الإسلام بعيد كل البعد عن قهر المرأة وعن استغلالها كما يحدث في الغرب، من امتهان للمرأة التي تعتبر سلعة تباع وتشترى وتستغل في أقذر وأحط المهن إذا جاز تسميتها مهن، وأن الحضارة الإسلامية تظل أعلى وأرقى من الحضارات الأخرى، وذلك كان السبب الرئيس في انتشارها قديمًا، وأن المؤشرات والأحداث ـ إلى جانب النصوص الشرعية ـ تؤكد على انتشارها حديثًا، وأن المستقبل.. لهذا الدين.
المصدر: محمد سليمان الزواوي - موقع مفكرة الإسلام
- التصنيف: