قِبلةُ الهَمّ.. و قِبلةُ النُّور!
تغلق عينيها لعلها تنام، تناديه أن هلمَّ يا نومُ أقبِلْ، بيد أن النوم قد نام عنها!، تتقلب على جنبها الآخر ثم تعود على جنبها الأول، تضغط أناملَ اليمنى بأناملِ اليسرى تقبض يدَها ثم تبسطها، تفرك ذقنَها ثم تتركها وتدور عينُها وتدوروتدور....
تحدق في السقف..
تضطرب عينها وتدور حائرةً في محجرها كل دقيقة، تشهق وتزفر وتزفر وتشهق، قلقٌ واضطرابٌ ولظىً في القلب، والفكر مستعر، تعاود النظر بتوتر في الساعة، بقيت نصف ساعةٍ على الفجر، دفنت الساعة تحت وسادتها وودت لو هشّمتها بقبضة يدها، ثم مجدداً تيمَّمت السقف في سواد الغرفة تبثُّه نظراتها المتشنجة المتململة، تغلق عينيها لعلها تنام، تناديه أن هلمَّ يا نومُ أقبِلْ، بيد أن النوم قد نام عنها!، تتقلب على جنبها الآخر ثم تعود على جنبها الأول، تضغط أناملَ اليمنى بأناملِ اليسرى تقبض يدَها ثم تبسطها، تفرك ذقنَها ثم تتركها وتدور عينُها وتدوروتدور.
أخرجت الساعة من تحت وسادتها، بقيت ربع ساعة على الفجر، وهي لا تدري ماذا تنتظر؟ بل لم تتظر في الساعة أصلاً!؟
هل هي على موعدٍ مع الفرج و قد تأخر مثلاً؟، أم على موعد مع النوم في وقتٍ معلومٍ وغير معلوم؟، أم تراها تنتظر الفجر ليكون قد فات ذاك الوقت الذي يسبقه، فينتهي الصراع بين النفس والروح والهوى والشيطان باستسلام الروح لخروج الوقت الكريم؟
تهرب من إجابة هذا السؤال الأخير خجلاً، لكن الإجابة تطارد كل ذي عقل وبصيرة..
أطلقتْ زفرةً، أزاحت بها صخرة هَمِّ القلب شِبرًا، استغفرتْ فأزاحت الصخرة شبرًا آخر، ثم طرحت غطاء فراشها جنباً و قامت قاصدةً ماء الوضوء فانزاحت الصخرة كاملة، وانشرح القلب الذي ما كاد ينشرح!
استدبرتْ قِبلة الهمِّ واستقبلتْ قِبلة النور عز وجل، السكون والظلام يطرزان كل أجواء البيت، وقفت وهي تشعر بالخفة و الشفافية والعلو والنوووور.....
الله أكبر..
قالتها وضمت قلبها بكفيها فاستكان أكثر وابتسمت دقاته طربًا للنعيم القادم خلال اللحظات التالية..
بدأتْ ترتل آيَ أمِّ الكتاب ثم دلفت إلى سورة الأعلى، و تغنت بحروفها كما لم تسمع نفسَها ترتل من قبل، والقلب يعلو مع آيات "الأعلى" كعروسٍ ترتقي درجات قصرٍ سعادتها درجةً درجةً، وكلما رتلت شعرت وكأنها تقترب من ضوءٍ هائلٌ سناه، يلوح شعاعه لها من بين الآيات خلسةً كل لحظة، ويزدان بياضه شيئاً فشيئاً في آخر كل آية...
حتى وصلت لآية {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ} [الأعلى: 14] !، فبُهِتت.. حرفيًا قد بُهِتت، و اقشعر منها القلبُ والبدنُ، ها هنا المولى يتكلم عن الفلاح الذي طال ليلها في البحث عنه، ثم قرأتْ ما تلاها بقلبٍ ينبض بالفضول { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} [الأعلى: 15]!.
يا الله..! أنت معي..! آلله بهذا القرب..؟! سبحانك ربي!..
هكذا حدثتْ نفسها..
قد كانت منذ دقائق وليمةً لقلقٍ يقتات على نبض قلبها و زفرات روحها و دوران عينها وعضات أناملها، تخشى أمراً ما في مستقبلها ولا تعرف أي السُّبل تمكنها من النجاح فيه والفلاح بيقين، ثم جاءت المرحلة الفاصلة بين عهد القلق والتوتر، وعهد السكينة والفلاح، مرحلة { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}.. !
ورب جبرائيل ورب إسرافيل ورب البيت المعمور:
أفلح في دنياه وآخرته من وفقه الله لنور القيام في ظلمة الليل وحيداً بين يديه عز وجل، وأي وحدة نشكو مع النور، ظلت تردد تلكما الآيتين فقط، وتدندن بهما وتتغنى بغننهما وتمدُّ مُدودَهما مدًّا..وقلبها طَرِبٌ سَكرانٌ مُنتَشٍ..
{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} تكررها مراراً وتحدث نفسها قائلة "أنا أنا.. الحمد لله هذا أنا إن شاء الله وبفضله عز و جل.. ذكرت اسمك يا ربي فنسيت همي وصليت"، ثم تركَتْهما و أكملتْ في طلب المزيد من حبات ذُيَّاك النور، وأكملت ترتل ما تلاهما، فقلبها يحدثها أن ثمة كنوزٌ أخرى في الطريق، يخفق معها القلب خفقان الحياة بالحياة، فإذا بالقشعريرة تستلم بدنها من جديد من منابت شعرها إلى أخمص قدميها، إذ قرأتْ التالية: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [الأعلى: 16-17]
توارت عيناها خجلاً و امتناناً، خجلاً من ذاك العلي القدير الذي يعلم ما فينا من شهواتٍ تختبئ خلفها النفس متزرعةً بكل أعذارِ ذوي الهمم الدنية، و امتنانًا لربٍّ كريمٍ أعان على النفس وشهواتها و ستر و وفَّق لشرف القيام بين يديه ليعين على الفلاح الذي نبحث عنه في سقف الغرفة في الظلام وهو على سجادة الصلاة و بين دفتي مصحفنا ينادينا دوماً أن حي على الفلاح، بوابته فقط ماءٌ طهورٌ و ركيعات من نور في جوف الليل بين يدي النور..
حدثت نفسها "تبت إليك يا ربي وعرفت أين فلاحي و أين الحل، قد علمت ما ظل يحجزني عن ذاك النعيم من أول ليلِ القلق، وكدت أُحرَمُ منه بسببه، قد آثرتُ الفراش والراحة والكسل عن طلب الفلاح بمناجاتك، تخيلت أن فلاحي في كثرة التفكير وسهر الليل بأكمله أعض أناملي وأحصي الدقائق في فراشي الناعم الوثير في انتظار الفلاح، توهمتُ أنْ بما أني صاحبة هم وغم فمن حقي إذًا أن أرتاح وأُكفَى رَهَقُ القيام إذ يكفيني رَهَقِي!..
وما علمتُ أن فيه الراحة من رَهقي..! إي و ربي...تعلمت الدرس يا ربي..
فكل ما يحول بيننا وبين فلاحنا والله هو دوماً الركون إلى الدنيا والاستسلام لزخرف قولها وإلهائها للحيارى عن دروب الفلاح، و أحمدك ربي أن أوقدتَّ فراشي عليَّ نارًا تلظَّى لا أكادُ أسكنُ فيه على جنبٍ حتى انتبهتُ وهببتُ لأقفَ بين يديك آخذة بأسباب الفلاح".
القيام نعمةٌ، مخذولٌ من حُرِم إياها، خذوا بأسباب الفلاح، والقيامُ من الأسباب، فربك قد قال "قد أفلح" ولا أصدق منه قيلًا..يا همٌّ كبيرٌ: الله أكبر..!
أيا كل إنسان لديه أمر يخشى الإخفاق فيه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}
أيا كل أم تخشى ضلال سعيها مع أبنائها: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}
أيا كل عائلٍ مهموم بتدبير قوت عياله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}
وإن أبيتم... فاعلموا أنما تؤثرون الحياة الدنيا... {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}
ولا يسأل أحدكم حينها "أين السعادة"؟ أين أنت من مصحفك؟!
- التصنيف: