أزمة الأمة بين التيارات
الإسلام الصحيح (أهل السنة) يأخذ بطرفي الأدلة ويثبت إرادة الله الكونية والشرعية وإرادة الانسان
يشن كثير من الأخوة ورموز ما يسمى بتيار السلفية الجهادية حملةً واسعةً من الانتقاد لفصائلٍ من المعارضة السورية المسلحة التى تقبل التعاون مع ما تسميه السلفية الجهادية بالطاغوت التركي والطاغوت السعودي والدخول فى ما أطلقوا عليه "التحالف التركي الصليبى"، وفى الواقع فإن ما يهمنا فى هذا المقال هو تبيان الخطأ المنهجي الشرعي في الدعاوى التى يطلقها هؤلاء الأخوة، لأن هؤلاء الأخوة ورموزهم الفقهية (بجانب تيار الإخوان المسلمون) هم من أشاعوا السطحية في الفكر السياسي الإسلامي لشباب الحركات الإسلامية المعاصرة.
فرموز السلفية الجهادية وعلى رأسهم أبو محمد المقدسى وأبو قتادة ومن لف لفهم يأخذون أدلة الجهاد والبراءة من الشرك والمشركين وتحريم الموالاة ونحو ذلك ليجعلوها حالةً عامةً لا يجوز غيرها تحت أي ظروف.
ورموز الإخوان المسلمين يأخذون أدلة مراعاة المصالح والمفاسد وتقدير المآل والأحكام الشرعية المستنبطة من صلح الحديبية وعرض النبى صلى الله عليه وآله وسلم ثلث ثمار المدينة على غطفان فى غزوة الخندق ليجعلوا هذا حالة عامة تبرر التمييع الدائم والعام وأحياناً الانبطاح التام للعدو (كما فى حالة العراق وأفغانستان مثلاً).
وهو خطأ منهجي قديم، فالجبرية أخذوا بأدلة قدرة الله وتقديره الكوني ليعمومها على كل شئ بينما عكسهم المعتزلة بأخذهم الطرف الآخر من الأدلة وهي الخاصة بإرادة الله الشرعية وإثبات إرادة الانسان لينفوا إرادة الله الكونية.
ولكن الإسلام الصحيح (أهل السنة) يأخذ بطرفي الأدلة ويثبت إرادة الله الكونية والشرعية وإرادة الانسان.
ونفس الخطأ فعله الخوارج بأخذهم أدلة الوعيد وتعميمها مع إهمال أدلة الوعد والمغفرة فكفروا بالمعصية، وعكسهم المرجئة أخذوا بأدلة المغفرة فأخرجوا الأعمال من مسمى الإيمان ونفوا زيادة الإيمان ونقصانه.
وهنا أيضا يبرز صحة منهج أهل السنة بالإسلام الصحيح الآخذ بجميع الأدلة دون إهمال طرفٍ منها، فأجروا حكم أدلة الوعد والوعيد معاً، دون إخلالٍ بأي منها فلم يكفروا بالمعصية ولم يقولوا "لايضر مع الايمان ذنب لمن عمله".
واليوم لدينا مشكلة أكبر بسبب هذين الفصيلين العظيمين من المسلمين "الإخوان المسلمون" و "السلفية الجهادية"، إذ كل منهما اكتفى بالأخذ بأحد طرفي الإسلام في السياسة الشرعية ونبذ الطرف الآخر، وبجانب هذا فإن الميوعة السياسية (بل والانبطاح أحياناً) التى مارسها ومازال يصر على ممارستها الإخوان المسلمون دفعت متهورين لأن يدعوا للكفر بقواعد شرعيةٍ ثابتة ولا خلاف عليها في فقه السياسة الشرعية من مثل تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينها، ومن مثل تقدير المآل ونحو هذا فأصبحت الشجاعة المفرطة التي تصل للتهور بل وأحيانا تصل للحمق هي الجهاد الشرعي الحقيقى عندهم ولا جهاد غيره وذلك لكى يباينوا منهج وطريقة الإخوان التى افتضح فسادها التطبيقي فى العديد الأماكن والمناسبات.
والجانب الآخر من المشكلة أن إعلاء أدلة المولاة والمعاداة والجهاد والشهادة دون ضوابطها أظهرها بصورة التهور والحمق لدى كثيرين فجعلهم لا يبحثون ولايميلون للخيارات الجهادية والكفاحية فى سلوكهم السياسي، وهذا أيضا خطأٌ ضخم.
وباتت شعاراتٌ كثيرة ترفع من كلا الطرفين لا تمثل حقيقة أحكام السياسة الشرعية كما كان هدى النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ففريق ليس عنده غير القتال ثم القتال ثم القتال والفريق الأخر ليس لديه سوى الهدنة والمصالحة والتمييع دائماً وأبداً ولا خيار آخر عنده.
وهنا نريد أن نوضح بصراحة أن كلا الفريقين لم يصب هدى النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
فالنبى صلى الله عليه وآله وسلم سلك مع المشركين الوثنيين خمس حالات هى:
السكوت عنهم (لفترة ما) دون هدنة ولا صلح ولا قتال.
القتال المنتهي بهدنة أو صلح.
القتال المنتهي بفتح للإسلام واستسلام العدو.
عقد اتفاقية هدنة أو صلح دون أن يسبقها قتال.
عقد اتفاقية هدنة أو صلح وتلاها قتال.
كما أن النبى النبى صلى الله عليه وآله وسلم سلك نفس السلوك مع أهل الكتاب بنفس الحالات السابقة.
فمن يحق له أن يضيق واسعاً فيرجح حالة القتال المنتهي بفتحٍ إسلامي واستسلام العدو وينفي الحالات الأخرى؟
لا أحد يحق له هذا لكن السلفية الجهادية ومشايخها مصرون على ذلك، ومن يحق له أن يضيق واسعاً فيرجح حالة الصلح والمهادنة على بقية الحالات؟ نعم الإخوان المسلمون وتيارهم يفعلون ذلك ومن المضحكات المبكيات أنهم حتى لا يستعملون حالة السكوت بل يبادرون دائماً باطلاق االخطابات التميعية ويستدلوا بالمصالح وتقدير المآل ونحو هذا فيشوشون عقول الشباب بشان الفهم الصحيح لأحكام الإسلام السياسية.
ويأتى هذا ليفقد الأتباع أي رؤى سياسية وعسكرية وإستراتيجية لأن هذه العلوم تقتضي تنوع الأدوات واستخدام وحشد وتعبئة كل الأدوات والاختيار من بين أوسع طيف من الخيارات، إلا أن أصحاب هذين المنهجين مصرون على تكبيل عقول أتباعهم ومنعها من التفكير والإبداع للخروج بالأمة من أزمتها.
أعرف أن هؤلاء وهؤلاء سيقولون نحن نتخذ هذا التوجه بضوابطه الشرعية..الخ، ولا أريد الدخول فى تفصيلات تبعدنا عن لب المشكلة التى تعيشها الأمة الإسلامية بسبب سيطرة هذين الفصيلين على العقول ولم يعد ينافسهم سوى بعض الأغرار الذين يستغلون هذه الأزمة لنقد الواقع وادعاء امتلاك الحل السحري رغم أنهم ليس لديهم تجربة ولا علم ولا يسعون للارتقاء بأنفسهم علمياً وعملياً كي يكونوا متأهلين للتصدر، وقد كتبنا عنهم سابقاً وسنكتب عنهم ان شاء الله لاحقاً.
نحن نعلم أن هذين المذهبين في العمل الإسلامي قد ترسخا ولن يقتنع أئمتهم بإصلاح الخطأ، كما نعلم أن الأغرار الذين يحاولون استغلال الأزمة للتصدر لن يتوبوا ولن يفيدوا أو يستفيدوا، ولكننا نكتب لمن يريد أن يحل الأزمة متجرداً للدليل الشرعي والفهم الصحيح للواقع المعاصر.
- التصنيف: