حال رجلٍ في ألف رجل
{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}
"حال رجلٍ في ألف رجل خير من قول ألف رجلٍ في رجل"
هذه المقولة المنسوبة لسيدنا علي بن أبي طالب تتكرر دومًا على لسان الدعاة والمصلحين لتحث أهل التدين على التحلي بالأخلاق الحسنة والخصال الحميدة والانتباه للمعاملات، وألا يكتفي المتدين بالكلام ولكن يجتهد بأفعاله وتصرفاته في أن يكون واجهةً مشرفةً تأخذ بقلوب الناس إلى الدين.
مثلها المقولة المنسوبة للكثيرين: "رأيت في الغرب إسلامًا بلا مسلمين" يُقصد بها الإشارة إلى وجود أخلاقٍ حميدة دعا إليها الإسلام هناك بينما افتقد كثير منها في بلاد المسلمين، هذا الخطاب على حسن مبدئه وصحة كثير مما فيه يعتبر في رأيي سلاحًا ذا حدين، أُقر بأنها دعوة مهمة -دعوة الحال أعني- لكن من يسرف كثيرًا في هذا الخطاب ينسى أمرين في غاية الأهمية:
-الأمر الأول: أن الشخص المتدين هو في النهاية بشرٌ عاديٌ لن يتحمل طويلًا هذا الشعور الثقيل بأنه مراقب وهذا للأسف جزءٌ مهمٌ مما يبثه هذا الخطاب: الناس كلها باصة عليك، الخلق يراقبونك، أنت محط أنظار الجميع،
هذه خلاصة جزء لا يستهان به من المشاعر النابعة عن هذا النوع من التوجيه، وبخلاف ما قد يعتري إخلاصه ونيته جراء ذلك الشعور وما قد يطرأ عليه من الإعجاب بالنفس والشعور بالعلو على الناس والانفصال عنهم وعن حياتهم لمجرد تسميته بالملتزم أو هيئة التدين التي التزم بها؛ فإنه لن يتحمل طويلًا أن يعيش في هذا التكلف وأن يحيا كممثلٍ في مسرحيةٍ طويلةٍ جمهورها هم كل من لا يشبهونه!
وكأن لسان حاله كلما فعل فعلًا أو قال قولًا او تخلق بخلقٍ: انظروا إليّ، تأملوا روعتي، تعلموا من أخلاقي، هل لاحظتم تلك الحركة الإيمانية أو هذه الفعلة الأخلاقية، هيا اقتدوا وسيروا على خطاي تفلحوا...
تمثيليةٌ طويلةٌ ثِق أنه لن يتحمل العيش في ظلالها طويلًا، ينبغي أن يكون حال المرء نابعًا من تغييرٍ حقيقيٍ في أخلاقه وسلوكياته وليس فقط من منطلقٍ متصنعٍ يدور حول نظر الناس والشعور بأنه قدوة ورأس تُتابع وتُتَّبع
ببساطةٍ جامعةٍ مانعة يتلخص هذا المعنى في قوله تعالى : {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص جزء من الآية: 86]
-الأمر الثاني: يتعلق بالناس الذين يعتني بنظرتهم وبإعطائهم النموذج الطيب الذي يقتدون به، هؤلاء بحاجة إلى رؤية نماذج بالفعل لكنها ليست نماذج خارقة، بل من أهم ما ينبغي بثه في أذهانهم ووعيهم الجمعي أن الأمر طبيعي، المتدين شخصٌ طبيعيٌ مثلهم، الأمر ليس مستحيلًا، أحيانًا تكون تلك الطبيعية بل أحيانًا تكون الأخطاء البشرية والزلات غير المقصودة سببًا في طمأنتهم وإشعارهم أن المطلوب منهم ليس أن يكونوا معصومين
أن تدينهم وتسننهم لن يجعل منهم روبوتات جامدة المشاعر آلية الحركات مبرمجة على عدم الخطأ.
رسالة ضمنية تصل إليهم من خلال عدم التكلف مفادها: الأمر ممكن ويسير والخطأ واردٌ ويمكن إصلاحه
ما أود قوله للمتدين باختصار وتبسيط:
- أولا: أنت شخص عادي وتدينك ليس معناه إن حضرتك نجم النجوم ووحيد زمانك وأن الخلق وقفوا جميعًا ينظرون كيف تبني قواعد المجد وحدك فبلاش تعيش في الدور أوي..
- ثانيا: كن على طبيعتك وإجعل الأخلاق الحسنة والسلوك الطيب جزءًا من هذه الطبيعة، قد تحتاج أن تتكلف الأخلاق الحسنة في البداية لكن أن يكون هدفك أن تتحول في النهاية إلى سجيةٍ وطبيعةٍ وليس أن تكون دومًا جزءًا من فيلم أو تمثيلية أنت تلعب دور البطولة فيها، ببساطة لأن الأفلام والتمثيليات مسيرها تخلص والتتر ينزل والحقيقة تظهر.
- ثالثا: لا داعي لأن تشعر دومًا أنك مختلفٌ وغريبٌ وأنك شيئٌ آخر غير أولئك الذين لا يشبهونك وأن أغلبهم مساكين ضلال وأنت بحركاتك وسكناتك من ستهديهم لأنه -صدقني- هذا الشعور سيجعل بداخلك صنمًا يتعاظم يومًا بعد يوم اسمه صنم الإعجاب بالنفس، وصدقني أيضًا، هذا الشعور يصل للناس وينفرهم منك بدلًا من هدايتهم التي تبتغي.
أخيرا اجعل تلك الجملة القرآنية الجامعة التي أشرت إليها منذ قليل شعارًا في حياتك وإجعلها حقيقة حالك
جملة: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}.
- التصنيف: