أعجَزُ النَّاسِ
«أعجَزُ النَّاسِ من عجزَ عَنِ الدُّعاءِ» (السلسلة الصحيحة: 601)
أعتقد أن هذا أحد أهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي يدلنا فيه على حقيقة العجز، بل يبين لنا فيه من هو فعلًا أعجَزُ النَّاسِ، أعجَزُ النَّاسِ إذًا ليس الكفيف أو القعيد أو صاحب العاهة أو الإعاقة!، إنه من عجِز عن الطلب والتضرع للخالق بنصِ كلام مبعوثه عليه السلام، إن هذه الجملة النبوية الجامعة هي للأسف عكس ما يظنه ويعتقده كثيرٌ من الناس، يظنون أن الدعاء هو سبيل العاجز أو حيلة من لا حيلة لهم أو أنه سلبيةٌ وضعفٌ يلجأ إليها الكسالى الذين لا يبذلون وسعهم لبلوغ أمانيهم.
وقد يكون لذلك التصور وجهٌ لو افترضنا أن هؤلاء الذين يرفعون أيديهم متضرعين يكتفون بذلك ويستبدلونه بالعمل والاجتهاد أو أنهم يقصرون في الأخذ بأسباب التغيير ظانين أن ليس عليهم إلا الدعاء، وهذا الافتراض هو توهمٌ معتاد للتعارض والمقابلة بين التوجيهات الشرعية وبين واقع الناس وهو توهمٌ كالعادة محله الأساسي رؤوسٌ مصابة بالحَول الفكري لا تستطيع أن تستوعب الجمع والتفصيل بين الأشياء.
الدعاء ليس ضدًا للعمل كما أن العمل لا يكتمل إلا بالدعاء والعاجز حقًا هو ذلك الذي عجز لسانه وقلبه عن التضرع لربه.
تلك هي القاعدة المحكمة التي أراد منا رسول الله استيعابها، العاجز هو من انقطع عن الاتصال بالقوي القادر العزيز الغني الرحيم واعتمد فقط على أسبابٍ قاصرةٍ لا تَكمل أبدًا مهما عظمت.
لو أن تلك الأسباب الدنيوية التي طمأنت المتخلي عن الدعاء تلخصت مثلًا في قوته فلا شك أنها ستجد من هو أقوى ويستطيع أن يقهر قوته التي اعتمد عليها، كذلك لو كانت أسباب اعتماده تكمن في ماله أو منصبه أو نسبه أو مهارته وحنكته؛ لابد أن لها منتهى وأن هناك من يملك ما هو أعظم منها ويستطيع هضم حقه وإن تضافرت كل تلك الأسباب التي تصور أنها تحميه من العجز، أما أسباب السماء فتلك التي ليس كمثلها أسباب، لو أدرك المرء ذلك لم يكن ليعجز أبدًا عن الدعاء ولاستشعر حقًا قيمة تلك العبادة ولفهم أن العاجز هو فعلًا من عجز عنه، لو أدرك أنه سيطرح حوائجه بين يديه، بين يديه هو..
سيكلمه...سيطلب منه....سيرجوه....من؟!.....الله
أنت أيها الداعي الآن ستكلم وستطلب وسترجو الله، الله القادر فهل تُعجزه حاجتك؟!، الله الكريم الغني فهل حاجتك أعظم من غناه وكرمه؟!، الله القوي العزيز فلمن غيره تلجأ وبمن غيره تستعين وتركن؟!، لكي تترسخ تلك القيم في قلبك أكثر عليك دوما أن تتذكر...
تتذكر نعمه وآلاءه...تتذكر أسماءه وصفاته.....وتدعوه بها، وتتذكر إنه حييٌ يستحيي أن يرفع عبده إليه يدي الضراعة فيردهما صفرًا خائبتين.
وتتذكر إنه قريب...وأنه يجيب، يجيب المضطر ويكشف السوء ويفرج الكروب.
وتتذكر نماذج الذين وثقوا به ولجؤوا إليه ودعوه من قبلك وهم موقنون؛ ماذا صنع لهم؟!
تتذكر من قال: رب {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر جزء من الآية: 10].
ومن {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4].
ومن {قَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص جزء من الآية: 24].
ومن قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء جزء من الآية: 33].
ومن قال: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم جزء من الآية: 48].
ومن قال: رب «اكفنيهم بما شئت» (صحيح مسلم: 3005، قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام).
ومن قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم جزء من الآية: 11].
تتذكر هؤلاء وغيرهم وتستشعر أنك بدعائك الخالص الصادق تسير في ركابهم وتتأمل كيف عاملهم ربهم وتلقى الغني القوي القدير الكريم دعاءهم، حينئذ إن شاء الله ستدعوه وأنت موقنٌ بالإجابة، وحينئذ فقط لن تكون من أعجَزُ النَّاسِ، فأعجز الناس من عجز عن الدعاء.
- التصنيف: