الحب في شريعتنا
وأما مظاهر الحب المعاصر فقد أفسدها زخم الجنس، والاستحضار الوثيق للمصالح المادية والاجتماعية.
قصص الحب التركية والهندية ملأت الدنيا وشغلت الناس!
أينما وليت وجهك داهمتك تعبيرات الحب التي شلت اهتمام الناس وإرادتهم، وهان لأجل اتباعها الوقت والجهد والتفكير في ما هو أبعد بقليل من شجون القلب!
هل ما يحاصرنا اليوم هو الحب حقًا أم هامش إلهاء جديد يخدر العقول كي لا تنشغل بما حولها من أوجاع، وتتعطل حركة الحياة في مجتمعاتنا بفعل اللهاث خلف صراع الديكة في كل عمل درامي؟
لا شك أن لكل أمة تقاليدها الخاصة بالحب، وتعبيراتها المتفردة والخاضعة لطقوس ومثُل وقيم دينية وأخلاقية محددة. وما يجري اليوم من استهلاك درامي مفرط لقصص الحب، إنتاجًا وإخراجًا ومشاهدة، هو تذويب للاختلاف في بوتقة حب معولم، لا يستهدف في حقيقة الأمر سوى تحرير هذا الشعور من نبله وسموه ليُتخذ وسيلة لتفتيت منظومة القيم، وتحييد الإباحية لتصبح مشهدًا اعتياديًا على الشاشات وفوق الأرصفة. وقد كان حريًا بكتاب السيناريو والمخرجين والمنتجين ممن يزعمون السعي البريء لتحريك المشاعر الإنسانية في عالم المادة الجلف الغليظ أن يطلعوا على ما في خزانة الأمة من تقاليد حب امتزجت فيها المشاعر بمثالية خلقية قوامها الطهر والعفاف، واستوعبتها الرسالة المحمدية بمزيد من التهذيب والسمو، فتشكلت صورة عامة للحب تتسامى فوق الغرائز، وتوازن بحرص بين دفقات الشعور ومتطلبات عالم الحس والمادة!
شهدت البادية العربية قديمًا قصص حب ملهمة، وجديرة بأن تستعاد اليوم ضمن سياق تهذيبي يحفظ خصوصية المجتمع المسلم. قصص يتجلى فيها الحب الروحي الذي وإن كان يأخذ في الغالب منحى مأساويًا حزينًا إلا أنه جسد مثالية بالغة السمو في صون المحبوب عن كل دنيئة أو إثم. طبعًا لم يكن الحب العفيف هو التمظهر الوحيد للعلاقة بين رجل وامرأة، لكن بعض القصص التي خلدها التاريخ أسست لنموذج مثير في فضاء جاهلي لم يتوان عن استباحة جسد المرأة وتسليعه.
ومن أقدم النماذج التي حفظها ديوان العرب: قصة عروة بن حزام الذي أحب ابنة عمه عفراء، وبذل وسعه لتتويج حبهما الطاهر بالزواج، لكن أسرة الفتاة غالت في المهر، فلم يجد عروة بدًا من السعي خلف المال في كل مكان. وفور عودته تم إيهامه بأن عفراء ماتت، إلا أن خبر زواجها من أحد أغنياء الشام تناهى إلى سمعه، فرحل إليها، واحتال لرؤيتها ثم عاد مجددًا إلى قبيلته بني عذرة حرصًا على سمعة محبوبته، وإكرامًا لزوجها الذي أحسن وفادته. وفي أرض الوطن هاجت العاطفة مجددًا، ففزع إلى الشعر يبث في قوافيه آلامه وأشجانه قبل أن تسوء حاله، ويسلمه الوجد والأسى للموت. وما كاد نبأ وفاته يبلغ عفراء حتى أودى بها الجزع للحاق به!
إن أشعار عروة بن حزام جسدت قيمًا أخلاقية لم تحل العاطفة المتأججة دون الوفاء لها، ولم تفلح المنظومة المترهلة للجاهلية في إفسادها. نحن هنا أمام محبٍ يرضى بالحرمان ويأنف من ارتكاب حماقات تخدش سمعة محبوبته، فلا يحرضها على الهرب وإجبار الأهل على الرضوخ للأمر الواقع، ولا يفسد زواجًا فرضته مشيئة الأهل والعوائد والتقاليد. وهي الحماقات التي تشيد بها الدراما المحلية أو المستوردة باسم الحب!
يصف عروة حاله بعد عودته من الشام، وما يضطرم في فؤاده من لواعج الأسى قائلًا:
تحملتُ من عفراء ما ليس لي به *** ولا للجــبـالِ الراسـيـاتِ يــدانِ
كــأن قطـــاة عُلقـت بجــناحـــها *** على كبدي من شدة الخفقانِ
جعلـتُ لعـرّاف اليمامةِ حكـمـــه *** وعـــراف نجـد إن همـا شفياني
فقالا: نعم نشفي من الداء كله *** وقــــاما مــع العُـــواد يـبتـــدران
فـمـا تـركــا مــن رقيــة يعلمانها *** ولا سُـلـوة إلا وقــد سـقيـانــي
وما شـفيـا الـداء الذي بي كلــه *** ولا ذخــرا نــصحـًـا ولا ألـــوانــي
فقـالا: شفاك الله، والله ما لــنـا *** بمـا ضُمنت منـك الضلـوع يــدان
وعلى منوال عروة وعفراء نسجت البادية العربية قصصًا عفيفة نذر أصحابها حيواتهم لصون الرباط المقدس، وبذل ولاء عجيب للمُثل في خضم جاهلي يسترخص كل ما حوله في سبيل شهوة طاغية أو أنانية لا تفتر!
فكان تمسكهم بالطهر والعفاف يسمو بهذه النماذج فوق مستوى الغرائز،حتى لو خلا أحدهما بمحبوبه! يقول جميل بثنية:
وكان التفرق عند الصبـــا *** ح من مثل رائحة العنبر
خليلان لم يقربــا ريــبــة *** ولم يستخفا إلى منكر
ومع ظهور الإسلام استشرفت النفوس آفاقًا جديدة للحب. وهيأت لها كلمات القرآن معرفة أعمق بالله والنفس والعالم من حولها، فسلك العربي مسالك الهدى والنور ليتخذ مثالًا أعلى يتناسب مع عظمة الرسالة. ولم تعد قصص الحب مدعاة للتيه والشرود في الأودية والقفار بعد أن اتسع نطاقه، وارتقت به تعاليم الدين نحو السعي خلف حب الله؛ ذاك الحب العلوي الذي تصل به النفس غاية الصفاء لتمسك بطرف ملائكي شفاف!
بادر الإسلام إلى تهذيب العاطفة ووصل المشاعر بالقيم. ونهى عن الإسراف في كل شيء لتستعيد النفس توازنها، والعاطفة حدودها المرسومة. وكان السبيل إلى ذاك التهذيب هو الحث على جعل الدنيا مزرعة للآخرة، ولزوم ما يتطلبه حب الله تعالى من اتباع أمره، واجتناب نهيه، والتأسي برسوله، والتحذير من بذل الأوقات في غير ما يعود على المؤمن بخير العاجل والآجل. وتتابعت الآيات والأحاديث التي تقرن الحب بمعان إنسانية أخرى يشرف بها كالرحمة والعدل والصدق، حتى لا يبلغ الحب الفطري بالنفس السوية مرتبة الغلو والإفراط. يقول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]. وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة وصححه الألباني يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: «لم يُر للمتحابين مثل النكاح» (صحيح الجامع:5200). وجسدت معاملته لزوجاته أمهات المؤمنين إطارًا للحب في شريعتنا؛ حب يسمو بالنفس، ويوازن بين انجذابها لاهتزازاته، ومقتضيات الحرص على آصرة الزواج المقدسة والنهوض بحقوقها وواجباتها. إنه حب مقرون بالرحمة لا بالشهوة فحسب، لأن شرارة الانجذاب تخفت وتزول، ويبقى لزامًا على المحب قيامه بالحقوق!
وأما مظاهر الحب المعاصر فقد أفسدها زخم الجنس، والاستحضار الوثيق للمصالح المادية والاجتماعية. فمنذ الثورة الجنسية التي شهدها العالم نهاية القرن الثامن عشر ارتخت قبضة التعاليم والقيم، وأصبح ما يسميه جيل ليبوفيتسكي (الاستثمار الزائد للحب) عنوانًا على مرحلة جديدة لا تطمح فيها النفوس لغير سعادة قوامها الحب والاكتمال الحميمي، حتى وإن تطلب الأمر ثورة على القيم والمُثل، وتفجيرًا للنشاط الجنسي خارج مؤسسة الزواج، وقفزة نوعية في أعداد المواليد غير الشرعيين!
إنه الحب الذي يعبر عن أنانية مفرطة في العيش بانفصال عن المجتمع بأسره. وهو الحب الذي يخلف آلامًا وأوجاعًا وتبديدًا للأواصر الاجتماعية، ثم يختتم دورة استحالته بأبشع المآسي.
وهو الحب الذي يحرر غريزة العنف من إسارها، ويئد على نحو مفجع معاني الرجولة والشهامة والمروءة، حين يبيح للحبيب أن يشعل الحرائق في البلد سعيًا خلف محبوبته.
قديما سُئل رجل من بني عذرة: ممن أنت؟ فأجاب: أنا من قوم إذا أحبوا ماتوا!
وحالنا اليوم يكشف عن مجتمع إذا أحب فتيانه وفتياته أهلكوا، وأتعبوا، وأماتوا!