عالَم أبي ذر

منذ 2016-11-02

لقد كان أبو ذر آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر ولم يكن ثوريًا، وكان زاهدًا ولم يكن اشتراكيًا، فشتان بين من يلذع الحاكم وولاته بسوط كلماته دون أن يفكر ولو للحظة بشق عصا الطاعة، ومن يؤلب العامة لقلب الأوضاع ولو سالت لتحقيق بغيته أنهار الدم.

الصحابة تلك الجماعة الملتفة حول الدعوة في مهدها؛ تلك القامات التي ضربت أروع أمثلة التضحية والفداء في سبيل ما آمنت به، ومن آمنت بنبوته !

تلك الأسماء التي مهرت بسيرتها ومواقفها سجل الإنسانية،وهيأت للخلَف ممشى إلى عالم مثالي لم يشهد التاريخ نظيرًا له، تقف اليوم حائرة في المفترق بين خطيب أو داعية يُخرجه من طور البشرية حين يجعله أيقونة هلامية معلقة بين السماء والأرض، فيوصد دون سابق إصرار باب الاقتداء، وباحث مولع بالنظريات والمقاربات الفلسفية والتاريخية التي تجرد الصحابي من أوسمة الوحي وبركات الصحبة، لتضعه في مصاف الأتباع المشدودين بخيط الولاء إلى زعيم! وفي المفترق ضاعت على ناشئتنا محطة هامة في مسارهم التربوي، يقتبسون منها شحنة روحية وحيوية دافقة يسهل بفضلها تشرب المبادئ الإسلامية.

إن لكل صحابي وصحابية عالمه الخاص، ورحلته المتفردة في بلوغ الهداية والامتثال الطوعي، والإقبال الشغوف على مبادئ جليلة صاغها الوحي في كلمات، وترجمها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلق وهدي وعزم لا يلين. وما أعنيه بالعالم الخاص هو ذاك النسق المشتمل على الخط الفكري للصحابي قبل إسلامه، والاختبارات النفسية التي حررت شخصيته من انفعالات الجاهلية ومقاييسها في السلوك والحكم وردود الفعل، ثم سجل إنجازاته ومواقفه التي أفرزها المخاض الجليل للرسالة المحمدية. وهذا العالم الخاص ينحو في الحقيقة منحى القراءة المتجددة للسياق الاجتماعي، والاستعدادات الذاتية التي حملت ذاك الجم الغفير على الالتفاف المجيد حول دعوة التوحيد الغضة في خضم الوثنية الهائل، حيث الأصنام لا تغذي الحاجة إلى التدين في نفس كل فرد بقدر ما توفر غطاء اقتصاديًا وسياسيًا للملأ !

لم تكن شبه الجزيرة العربية فضاء أجرد، تعبره القوافل التجارية دون أي أثر للبُعد الروحي أو الفكري، بل كانت أيضًا ملتقى للتيارات الدينية والآراء والعقائد التي نتج عنها تفاعل ذهني ولد إنكارًا متزايدًا للوثنية، وتعبيرًا عن حالة القلق الديني التي عاشها عرب ما قبل الإسلام. وتعد ظاهرة الأحناف التي تشير إليها المصادر التاريخية في رصدها للوضع الديني والاجتماعي قبل الدعوة المحمدية، أبلغ تعبير عن هذا القلق والسعي إلى التحرر من وثنية لا تغذي الإيمان العميق في النفوس، ولا تقدم إجابات واضحة عما يثيره أتباع العقائد الأخرى من قضايا الألوهية والبعث والآخرة وغيرها. ولا شك أن لخروج هؤلاء النفر عن الوثنية، ودعوتهم العلنية إلى تجديد الصلة بما رسب في الذاكرة من بقايا ملة إبراهيم الخليل عليه السلام أثرًا في خلق آفاق جديدة من التفكير، تحمل ذوي العقول على التماس حقائق عليا تبدد الشك والارتياب فيما بين أيديهم من حجارة وخشب، وقد كان أبو ذر الغفاري أحد هؤلاء العقلاء !

في قبيلة غفار التي كانت ممرًا للقوافل التجارية، ومضرب المثل في السلب والنهب وقطع الطريق.

في هذا الفضاء المسكون بهاجس الجوع وقلة ذات اليد،حيث الخشونة والقسوة عنوان البقاء، وُلد جندب بن جنادة الغفاري ليحيا كأقرانه متلمسًا لقمة العيش في الإغارة على قطيع من الأغنام، أو سلب تجار ساقهم الحظ العاثر إلى طريقه. وفي هذا الفضاء ستتشكل معالم الخط الفكري لرجل نبذ الأوثان وتأله قبل أن يشرق على مكة نور الهدي المحمدي، فابتدع صلاته الخاصة التي يتوجه بها إلى الله عشاء حتى آخر الليل! وليس في الأمر ما يدعو للإثارة إذا ربطنا خطه الفكري بالسياق العام الذي أنضجه، والمرتبط بالدعوة العلنية للأحناف إلى استعادة عقيدة التوحيد التي نصت عليها ملة إبراهيم الخليل، واستبدال شعائر الوثنية بأخرى هداهم إليها تفكيرهم الخاص. إذ كان زيد بن عمرو بن نفيل على سبيل المثال يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحته قائلًا: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم. وكان إذا حج يقف بعرفة ويلبي فيقول: لبيك حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا، البر أرجو لا الخال، وهل مهجر لمن قال. عذت بما عاذ به إبراهيم، مستقبل الكعبة وهو قائم (1).

شكل الأحناف إذن استفزازًا للشرك والوثنية رغم حاجتهم الشديدة إلى تعاليم محددة وتوجيه سماوي، لذا كانت مسارعة أبي ذر إلى التحقق من مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة عن طريق أخيه أنيس دليلًا على توافر الاستعداد القلبي والذهني لاعتناق دعوة تمنحهم ما يغذي نشاطهم التوحيدي، أي الكتاب السماوي والشعائر الواضحة والمحددة.

وفي عالم أبي ذر لا تحتاج الحقائق العليا إلى أخذ ورد أو مفاصلة، إذ يكفي أن تلامس شغاف القلب لينقاد لها بوداعة من كان حتى الأمس القريب يثير الرعب في طرق القوافل. أتى النبي صلى الله عليه وسلم برفقة علي بن أبي طالب فقال: اعرض علي الإسلام، فعرضه علي فأسلمت، فقال: اكتم إسلامك وارجع إلى قومك. قلت: والله لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء في المسجد فقال: يا معاشر قريش أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا، فضُربت لأموت، فأدركني العباس فأكب علي وقال: تقتلون، ويلكم رجلًا من بني غفار، ومتجركم وممركم على غفار؟فأطلقوا عني. ثم فعلت من الغد كذلك، وأدركني العباس أيضًا (2).

إن هذا التحدي العلني لسدنة الشرك في توقيت لم تكن خلاله الجماعة المسلمة مهيأة للمواجهة يعكس رغبة جامحة في كسر الطوق النفسي الذي فرضه صناديد قريش، وتبديد المخاوف التي قد تصد آخرين عن اللحاق بركب التوحيد.نفس الإقدام سجله عبد الله بن مسعود حين جهر بالقرآن عند المقام بمكة،فلما ضربه المشركون حتى أثروا بوجهه قال أصحابه: هذا الذي خشينا عليك، فرد قائلًا: ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدًا! ثم الفاروق رضي الله عنه الذي جاهر بإسلامه في بطحاء مكة فثار عليه الناس،فقاتلهم وقاتلوه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وهو يردد: اصنعوا ما بدا لكم، فأقسم بالله لو كنا ثلاثمئة رجل تركتموها لنا أو تركناها لكم !

ومن زاوية أخرى فإن هذه الندية كانت تستجيب لمطلب ملح آنذاك هو رسم الحدود الفاصلة في أذهان المشركين بين ما عهدوه من سخط جماعة الأحناف الذين توقفت ردود أفعالهم عند البحث عن بدائل أخرى لتحقيق حاجاتهم الدينية، وبين الإسلام الذي يبشر بعقيدة توحيد نقية تمهد لاقتلاع الشرك، ومنهج حياة يجتث الفساد الاجتماعي من جذوره، ويحرر العربي من عزلته بين كثبان الرمال ليحمل مشعل الحضارة إلى كل أصقاع الدنيا.

تساوقت الفكرة مع الفطرة في قلب أبي ذر، وهيأت له رسالة الإسلام ما يروي ظمأ تألهه الحائر، فانبرى لجهاد الدعوة وسط قبيلته، وترقب موعد الهجرة إلى يثرب حيث المنعطف الثاني في عالم أبي ذر؛ منعطف بالغ الحسم يتحقق معه استكمال الولادة الثانية لرجل سيصير لاحقًا أمة وحده. وفي يثرب ستبدأ الصحبة لرسول الله صلى الله علي وسلم، وتبدأ معها سلسلة اختبارات نفسية يطابق خلالها وجدان أبي ذر فحوى الرسالة المحمدية، وتتوارى جرأة اعتراض القوافل لتظهر الشجاعة النادرة في الصدع بالحق، والزهد في المتاع، والنصح لأئمة المسلمين قبل عامتهم.

شكلت يثرب مدرسة ثانية لمن لم يواكب أحداث مكة، ولم ينصهر مع الجماعة المستضعفة آنذاك في بوتقة الاحتدام اليومي بين التوحيد والوثنية. وكان أبو ذر أحد هؤلاء الذين فاتهم المنعطف الحاسم في تاريخ الدعوة ممثلًا في موقعة بدر وأحد والأحزاب، إلا أنهم لم يخطؤوا موعدهم مع صحبة النبي صلى الله عليه وسلم التي هيأت لكل فرد عناصر تربية فريدة، طهرت النفوس من رواسب الجاهلية لتعلن ميلاد جيل من العظماء. والحق أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشكلوا كتلة متجانسة إلا على مستوى العقيدة و نصرة الدعوة، أما على مستوى الإسهام في البناء المجتمعي وصنع القرار فقد كان كل صحابي عظمة بمفرده، ونموذجًا فائقًا أسعفه المنهج التربوي النبوي لتحرير ملكاته وتحقيق ولادة ثانية غيرت مسار الحضارة الإنسانية. وإن شئنا الدقة في القول فإن كل صحابي عايش الرسول صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله قد نال حظه من الوصايا والتوجيهات التي هزت كيانه، وحررت نفسه وعقله من عبودية أرباب أربعة استعبدت الإنسان العربي أمدًا طويلًا: ربوبية الأصنام والجن وغيرها من المعبودات، وربوبية القبيلة، وربوبية العادات الموروثة عن الأجداد و الآباء، وربوبية الهوى والشهوات(3). ولم يكن التهذيب النبوي معارف تشحذ الذهن فحسب،بل توجيهات حية تنتشل الحس المتبلد بالمألوف والعادة من خموله ليسترد حيويته وفاعليته. وكان حظ أبي ذر من هذا التهذيب وافرًا بالنظر إلى سلسلة الاختبارات النفسية التي وجهت قدراته وملكاته على نحو لازمه حتى وفاته،كما حددت له الإطار الذي ينبغي ألا يفارقه حين يتغير ما حوله ومن حوله ليظل أبو ذر أمة وحده،كما أشار إلى ذلك الحديث الشريف، يمشي وحده.. ويموت وحده.. ويُبعث وحده !

لمس النبي صلى الله عليه وسلم في شخص أبي ذر صدقًا وزهدًا وطهارة نفس، فكانت توجيهاته ترعى هذه المفاتيح الثلاث، وترشده إلى حيث يستثمر حدته وجرأته في بناء المجتمع الجديد وصيانته. ولنلق نظرة على بعض الأحاديث النبوية،سواء التي نقلها أبو ذر كتوجيه لعامة المسلمين، أو تلك التي كان معنيا بها في المقام الأول:

عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب فخذه فقال:   «كيف أنت يا أبا ذر إذا بقيت في قوم يؤخرون الصلاة؟ فصل الصلاة لوقتها ثم ائتهم، فإن كنت في المسجد حين تقام فصل معهم» ( مسلم:648).

• وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل لنفسه يحبه الناس على ذلك ؟ فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» (مسلم:2642).

وعن أبي ذر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي مُجدع الأطراف. (البيهقي:8/185)

• وعن أبي ذر قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان فقال: يا أبا ذر أتدري فيم ينتطحان؟ قلت: لا، قال: «ولكن ربك يدري، وسيقضي بينهما يوم القيامة» (صححه الألباني:1588).

• وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يسرني أن لي أحدا ذهبا، يأتي علي ثالثة وعندي منه دينار -أو قال: مثقال- إلا أن أرصده لغريم» (أحمد:21360).

• وعن أبي ذر أنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر». وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر (البخاري:5827).

• وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟ قلت: إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي، ثم أضرب به حتى ألقاك أو ألحق بك. قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ تصبر حتى تلقاني». ( أحمد: 21598).

• عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله استعملني، قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة فهي يوم القيامة خزي وندامة،إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (الحاكم:4/92).

إن النبي صلى الله عليه وسلم، عبر هذه المواقف و(الاختبارات)، يرصد درجة الاستعداد النفسي لدى أبي ذر لمجابهة أوضاع مائلة، ينحرف فيها الواقع عن النص،وترتخي قبضة المسلم على القيم و التعاليم الدينية. وهذه النماذج تقربنا من إحدى خصائص المنهج النبوي الذي يعتمد الوضعية- المشكلة كأسلوب تربوي، يقيس رد فعل الصحابي قبل أن يعمد إلى تثمينه أو تهذيبه. وفي حالة أبي ذر فإن جرأته في الحق وروحه الوثابة لن تتلاءم لاحقًا مع ما سيشهده المجتمع المسلم من تقلبات سياسية واقتصادية و اجتماعية، لذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تغذية صفتين أساسيتين تجعلان أبا ذر بمنأى عن المتغيرات وهما: الزهد و الصبر!

إن عالم أبي ذر بسيط في ظاهره، عنوانه التقشف الطوعي والإقلال من متاع الدنيا حتى يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحال التي فارقه عليها، أما باطنه فيغلي بالحق والتصدي دون هوادة لأي زيغ عن التعاليم. وإذا كان زهده وإعراضه عن زهرة الحياة الدنيا وسام استحقاق أدناه من مرتبة عيسى بن مريم عليه السلام، إلا أن جرأته في الإنكار على الولاة، وترهيب من يكنزون المال بكلمات تلذع كالسياط قد جرأ عليه نقمة هؤلاء زمن عثمان بن عفان فاختار منفاه بالربذة حتى يلقى الله وحده!

«أفلا أدلك على خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني»

صبر أبو ذر طاعة لرسول الله فلم ينل شيئا من رغد العيش، وأقبلت الدنيا عليه فأعرض عنها وذم أصحابه الذين رضوا منها باليسير. مر يومًا بأبي الدرداء رضي الله عنه وهو يبني بناء فقال له: قد حملت الصخر على عواتق الرجال، فرد أبو الدرداء: إنما هو بيت أبنيه، فقال أبو ذر مثل ذلك، فقال: يا أخي لعلك وجدت علي من ذلك، فقال أبو ذر: لو مررت بك وأنت في عذرة أهلك كان أحب إلي مما رأيتك فيه!(4).

حتى اليسير من متاع الدنيا لا يرضاه أبو ذر لصحابة رسول الله، لأنهم النماذج الفائقة التي ينبغي أن ترتفع دوما عما ينحدر إليه الناس من سعي خلف النعيم الزائل. وفي عالم أبي ذر لا تحتمل النصوص غير ما فهمه ووعاه قلبه وفكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا ارتخت قبضة الناس بفعل الزمن وتبدل الأحوال بعد اتساع رقعة الإسلام، فإن صحبه أولى الناس بلزوم سنته والعض عليها بالنواجذ. إن هذا ما يفسر معارضته الشديدة لنمط الحكم الذي تبناه الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، تلك المعارضة التي تعد أهم إنجاز في سجله، والدليل الساطع على أن الصحبة أثمرت رجلا بألف، يمهر التاريخ بتوقيع خاص في مرحلة تمخضت عنها أحداث جسام.

لقد كان أبو ذر آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر ولم يكن ثوريًا، وكان زاهدًا ولم يكن اشتراكيًا، فشتان بين من يلذع الحاكم وولاته بسوط كلماته دون أن يفكر ولو للحظة بشق عصا الطاعة، ومن يؤلب العامة لقلب الأوضاع ولو سالت لتحقيق بغيته أنهار الدم.

شتان بين من نذر ما فضل من أيامه ليعلم الناس الزهد والصدع بالحق والثبات على المبدأ، ومن يتوارى دون حياء خلف سُنة ميكيافيللي المرذولة: الغاية تبرر الوسيلة!

إن عالم أبي ذر الغفاري يؤسس للون من العظمة التي تشرئب إليها الأعناق كلما انحسرت تعاليم هذا الدين في وجدان الناس وواقع الحياة اليومية. عظمة الصدق الذي لا يفتر قائله حتى يؤثر في خط سير الأمة، وعظمة الزهد الذي يستوي عند صاحبه التراب بالتبر، فلا يبقى للنفس مطمح إلى فضول عيش يصرفها عن النصح للأمة وتصويب المسار.

إنه عالم أبي ذر الذي أشرق بالكلمات الخالدة في ديوان النبوة: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر» (صحيح الترمذي:3801).

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- د. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. ج6.ص 473-474

2- شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء. جزء السيرة النبوية. مؤسسة الرسالة. ص 136

3- محمد قطب: منهج التربية الإسلامية ج2. دار الشروق 1982. ص 23

4- أحمد بن حنبل: كتاب الزهد. دار الكتب العلمية. بيروت 1999. ص 120

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي

  • 3
  • 0
  • 6,691

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً