حديث النسوة الكاشيرات!
مِن عادة "كليلة ودمنة" أن يجتمعَا كلَّ مساء فيتجاذبَا أطرافَ
الحديث، ويجعلاَ الشأنَ العامَّ هو محور حديثهما، وقد يتَّفقان حينًا
وقد يختلفان حينًا آخر، ولقد كان مِن حديثهما ذات مساء:
أنْ قال كليلة:
• أمَا بلغَك حديثُ الشارع السُّعودي هذه الأيَّام؟
قال دِمنة:
• أيُّ حديث، فالأحاديثُ كثيرة؟
• الموضوع الذي تناولتْه وسائلُ الإعلام وجرَتْ فيه وقائعُ صحفية
وإلكترونية، وأُشْرِعتْ فيه أسِنَّة الكاتبين، وأُطلِقت فيه ألسِنةُ
المتناظرين.
• كأنَّكَ تريد ذلك الضجيجَ حولَ عملِ بعض النسوة في متْجَر بوظيفة
"كاشيرة"؟
• إي! هو هو.
• ذاك نبأٌ قديم، وإن تأخَّر زمانُه!
• كيفَ قِدَمُه وتأخر زمانه يا صاحبي؟
• هو حديثٌ معاد، وكلامٌ مكرور في قضيةٍ لم ولن تنتهي.
• إنَّ الأمر لم يحصلْ إلا مِن أسابيع؟ أعندَكَ عِلمٌ بحصوله من
قبلُ؟
• لم يحصلْ عينه ولكن نظيره، والقضية واحدة "تغريب المرأة السعودية"؛
لتخرجَ من جلدها وتعيش بمسلاخٍ غربي يحبُّه العلمانيُّون
واللبراليُّون، وترضى به عنَّا أوربا وأمريكا؛ حتى لا يقال عنَّا:
"متخلِّفون".
وما قضية "قيادة السيارة"، و"الاختلاط في التعليم"، و"الأندية
الرياضية النسائية" إلا حلقات في سلسلة، فقضية المرأة الكاشيرة حديثٌ
مكرور لا رَيْب، سيعترِض عليه المتدينون لمخالفته الشرع، ويُهلِّل له
الليبراليُّون والعلمانيُّون؛ لأنَّه يخدم أيديولوجيتهم الرامية
للتخلُّصِ مِن ربقة الشرع، وغل الحلال والحرام و"تابو" نصوص الكتاب
والسُّنَّة، ونير الحدود الشرعيَّة - كما يَزْعمون.
وإنْ كنتَ ذا لبٍّ فاعتبر بأمر النِّسوة اللاتي يزعمْنَ المشاركة في
نظافة جدَّة، فيخرجنَ في الشوارع سافرات مُتَجملات لتلتقطَ لهنَّ
الصحف والكاميرات صورًا وهُنَّ يُمسكن بمقشَّات القمامة، فيقال: قد
نظفْنَ وشاركْنَ، وإن فتشتَ عن إحداهنَّ لوجدتها تأنف أن تساعدَ
أمَّها، فضلاً عن خادمتها في نظافةِ بيتها، ولكن كما قيل: لأمرٍ ما
جدع قصير أنفه!
• لكن القوم زعَموا أنَّ القضية وطنية، وأنَّ هاجس المدافعين عنها -
لا سيَّما الكتَّاب والصحفيون وهم ليبراليون خُلَّص - كان وطنيًّا
تُحَرِّكه مصلحة الوطن؛ إذ إنَّ عجلة الإنتاج لن تسيرَ إلا بالمرأة،
كما أنَّ مِن حقِّ أولئك النسوة اللاتي سيعملْنَ في ذلكم المتجر
الحصولُ على فرصة عمل، فربَّما كانتْ إحداهنَّ تَعُول أسرةً
كاملة.
• ما شأنُكَ يا كليلة؟ صرتَ تُصدِّق كلَّ ما يقال وإنْ كان أسمجَ مِن
دعوى أمريكا غزوها العراق مِن أجْل عيون الحريَّة، وتخليص العراقيِّين
من ظلم الدكتاتوريِّين!
• أنت في شكٍّ إذًا مِن مُبَررات القوم ومِن دعاويهم وحَدَبهم مِن
وراءِ تلك القضية؟
• أنا لستُ في شكٍّ من ذلك، بل أنا على يقين مِن أنَّ القضية على ما
وصفتُ، وهم على يقين مِن ذلك أيضًا، ويَعرِفونه كما يَعرِفون أنفسهم
وأبناءَهم، بَيْدَ أنَّ المرء قد يكذب على نفسه، ويُمعِن في ذلك حتى
يُصدِّقَ نفسه، ويظهر له أنَّه صادق، وفي حقيقةِ الأمر ما هو
بصادِق.
• كيف تقرأ إذًا قيامَهم في هذه المعركة واستماتتهم مِن
أجْلها؟
• المقصود الأكبر هو القضاءُ على ظاهرةِ الفصْل بيْن الرجال والنساء
ومنْع الاختلاط، وهو ما كانتْ تتميَّز به المملكةُ دون سائرِ الأقطار
العربية التي نجَح علمانيُّوها في القضاء على تلك الظاهرة بما يتوافَق
مع الأفكار العلمانيَّة التي لا تُريد رقيبًا على أمورِ الاختلاط بيْن
الرجال والنساء، موكلة ذلك لحرية الفَرْد ورغبته، وإنْ كان فيما
يمقُتُه الله - تعالى - ويأباه شرعُه ودِينُه، فالمطلوب في السعودية
ألا يصبح هناك شيء اسمه اختلاط وخلوة؛ فلتعملِ المرأة بجانبِ الرجل،
وفي نفس مكانه وفي ذات مِهنته؛ إذ لا فضلَ له عليها، ولا لها عليه،
فإذا كان بالقطاع الصحِّي اليوم اختلاط؛ فالطبيبُ يعمل بجوارِ
الطبيبة، والممرِّض بجوارِ الممرضة، فليكن كذلك في المدرسة غدًا،
فالمديرُ رجل، والوكيل امرأة، والمدرِّسون من الرجال والنساء والطلاب
كذلك، وليكن ذلك الاختلاطُ في السوق والمتاجر بعدَ غد، ثم بعدَ ذلك في
المطاعم والاستراحات، وساعتها سترى الشابَّ جالسًا بجوار محبوبته التي
لا يربطُه بها إلا الغرام، وكفَى به عند اللبراليِّين وثاقًا
مُقدَّسًا، وعندئذٍ ليس لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن
تضبطَ أحدًا في حالة خلوة غيْر مشروعة أو اختلاط مريب؛ لأنَّ كلَّ شيء
قد أضْحَى مختلطًا، فتصبح حركةُ الحياة في جدَّة والرياض كهي في باريس
ونيويورك، وتلك أمنية يَنام العلمانيُّون واللبراليُّون ويَستيقِظون
عليها؛ رجاءَ تحقيقها.
• أهكذا الأمر يا دمنة؟!
• إي! دعْنِي أسألك كم فُرصةَ عملٍ للمرأة ستتوفَّر من تلك الوظيفة؟
وهل تلك الوظائف المعدودات تَسْتدعي كلَّ هذه الضجة والنصرة؟
ثم أليستْ تلك الوظائفُ على حساب أعدادها من الشباب العاطل؟ وما
عسانا قدَّمْنا لو أعطينا "هندًا" فرصة عمل بعد أن فصَلْنا "عَمرًا"
مِن هاتيك الوظيفة؟!
ثم هاتِه الوظيفة أيُّ شيء هي؛ ليقال عنها كل ذلك مِن كونها حقًّا
للمرأة لتُثبتَ وجودها، وتُبيِّن إبداعَها، وتقوم بدورها في خِدمة
وطنها... إلخ تلك الشعارات الجوفاء؟!
أهي وظيفةٌ كيمائيَّة في مُفاعِل نووي؟! لو جِئنا برجل أُميًّ له
حظٌّ مِن ذكاء أو امرأة أُميَّة حاذقة وأريناهما كيف التعامُل مع آلة
"الكاشير" لعَرَف الواحد منهما هذه المهنة وأجادها وبَرَع فيها مع
مرورِ الوقت! فما كلُّ تلك الكتابات والأطروحات حولَ هذه الوظيفة
كأنَّ المرأة إذا حازتْها ستخرُج من ظلمات التخلُّف إلى نور التحضُّر
والرُّقي؟!
• أَجَلْ إنَّ عدد تلك الوظائف محدودٌ محصور لا ريبَ، وهي أيضًا
ليستْ بالوظيفة المهمَّة، لكن أما علمتَ حديث بعض المنظَّمات
النِّسائية تعليقًا على فتوى للجنة الدائمة بتحريمِ عمل المرأة
كاشيرة؟
• كيف كان حديثُها؟
• قالت معلقةً على الفتوى: إنَّ شأن هذه الوظيفة تُقرِّره المرأة
العامِلة ووزارة العمل، لا دخلَ لجهات أخرى فيه.
•إنِ احتكَمْنا إلى الليبرالية والعلمانية، فالأمر على ما قالوه،
فكلُّ إنسان حرٌّ في امتهان ما يشاء مِن مِهَن، وفي توظيفِ مَن يشاء
مِن موظَّفين، أمَّا إنْ كنا سنتحاكم إلى الشَّرْع، ونحن نزعم
تمسُّكَنا به، فلا بدَّ أن يكون الإسلام مهيمنًا على كلِّ صغيرة
وكبيرة في حياتنا؛ يقول فيها قولتَه، وليس لأحدٍ أن يُقدِم على شيءٍ
إلا بعد أن يَعرِف حُكْمه في الشرْع.
ودونك مثال: الرَّقْص الشرقي العاهِر الذي هو فجورٌ وخنَا في الشرع،
مِهنة محترمة عند الأنظِمة العلمانية، بَيْدَ أنَّ على الراقصة أن
تدفع الضرائبَ للدولة!
وفي أمرٍ كقضية الكاشيرات لا يُقدِّم الشرع مسألةً دُنيوية غير
ملحَّة، ويُمكن الاستغناءُ عنها ببديل شرعي لا إثْمَ فيه، مقابلَ
الوقوع في محظورات شرعية لعلَّها تؤدي بالناس إلى سخط الله وعقابه،
فيَخْسَروا آخِرتهم، وهي باقية - في سبيلِ دنياهم - وهي زائلة، لكن
لَمَّا كان إيمانُ الليبراليِّين بالجنة والنار ضعيفًا، وربما
معدومًا، قدَّموا كل مصلحة دنيوية - مهما كانتْ تافهةً - على المصالح
الدِّينيَّة والأُخروية - مهما كانتْ عظيمة.
• لكن يا دمنة، لو كان المتجرُ المذكور لن يستفيدَ من أولئك
النِّسوة، ويجد عندهنَّ ما لن يجدَه عند توظيف الذكور لَمَا قام
بتوظيفهنَّ، وأنت بِجَشَعِ أرباب الأموال عليمٌ؟
• بل هذا يؤكِّد كلامي بأنَّ الأمرَ لا علاقةَ بتوظيف ولا يحزنون، بل
هو خُطوةٌ يريد الليبراليُّون أن يَقطعوها في مشوارهم ومشروعهم
التغريبي العلماني الطويل، وقد قيل: إنَّ طريق ألف ميل يبدأ
بخُطوة.
أمَّا ما زعمتَ من حِرْص المتجر على الرِّبح قبلَ كل شيء وأن لا بدَّ
له في توظيفه الفتيات دون الرِّجال مِن فائدة، فإن شئتَ الصِّدقَ فلن
يَعْدُوَ ذلك كون استعمالهنَّ مصيدةً للزبون، تجذبه وتربطه بالمتجر،
فيأتي المراهِق - مثلاً - وكم من كبيرٍ في عمره هو مراهِق في عقله
وقلْبه، فيقوم أمامَ الكاشيرة الجميلة، ذات الحُسْن والزِّينة، التي
وضعتْ أحمر شفاه، وأبانت عن خُصْلة شعرِها المصبوغ، واستعطرتْ بأجمل
عطر، فيدفَع إليها النقود ثم يجد الشوقَ يحدوه؛ ليفعلَ ما يفعله
أبطالُ الأفلام المصرية الهابطة، فيعود ليشتريَ أخرى وثالثة ورابعة
ليُمتِّعَ ناظريه بالكاشيرة الحسناء، ويواظب على التردُّدِ على المتجر
يوميًّا أو أسبوعيًّا، فيكثر الزبائن، ويعمر المتجرُ بالرواد.
• اتَّقِ الله يا دمنة، فالنِّسْوة لسْنَ سافرات، بل يُغطِّين
وجوههنَّ.
• هكذا البداية دائمًا، وإذا أسفرْنَ غدًا فمَن الذي
سيمنعهنَّ؟!
• لا تتشائم.
• إنَّها مأساةٌ مضحِكة! وإن شئتَ فانظر حكايتَها في مقالة تحت
عنوان:
"المرأة السعودية الجديدة طموحات وتحديات".
كتبه علي حسن فراج
- التصنيف:
الشافعى احمد
منذ