نقض الفكرة أم إعادة التفسير

منذ 2016-11-07

في عصر الاستضعاف ظهر اتجاهان لدى الجماعات الإسلامية

في عصر الاستضعاف ظهر اتجاهان لدى الجماعات الإسلامية:
- اتجاه بات مقتنعًا بنظرية التغيير من داخل المنظومة الجاهلية والنظام العالمي الضارب بأطنابه، الراسخ بقواعده، الصلب بتماسكه.
- واتجاه يرى استحالة التغيير من داخل المنظومة ذات الحلقات المحكمة، لأن ممارسة السياسية مهما يكن لن تكون إلا من الثغرات التي يتيحها لك هذا النظام والنتائج لن تكون إلا بناءًا على  المقدمات والقواعد التي يفرضها النظام العالمي بل هذا التيار لا يرى جواز ذلك أصلاً ولو كان ممكناً واقعاً باعتباره وسيلةً غير شرعية والشريعة تؤكد دائمًا على شرعية الغاية والوسيلة معاً.
ولعل من يعبر عن التيار الأول هم عموم تيار ما بات يعرف بالإسلام السياسي، ومن يعبر عن الثاني عموم تيار ما بات يعرف بالإسلام الجهادي.
إن تاريخ الأفكار ينبي أن لكل عصرٍ من العصور فكرةٌ مركزيةٌ تشع  بوميضها  وتخطف الأبصار  ببريقها وتغزو الثقافات الأخرى بسعة انتشارها، فتكون بمثابة قطب الرحى الذي يجتذب إليه الشوادر الضعيفة  لتلحقها في فلك مدارها، كما سادت من قبل  فكرة القوميات ردحاً من الزمن ثم العلمانية  ثم الشيوعية والاشتراكية  ثم العولمة ونحن اليوم على عتبة ما بعد الحداثة وعند البعض فقد وصلنا إلى نهاية التاريخ والإبداع البشري للأنظمة وطريقة الحكم، فلم يعد بمقدور الإنسانية أن تبدع نظاماً يفوق الليبرالية الغربية بقدرتها على تحقيق تطلعات الشعوب، هنا يقع كثير من الشعوب في شَركِ هذه الفكرة التي تمثل صنم العصر وتسحر أولي الألباب.
وترتمي بها كما يرتمي الفَراش في النار مسحور بوهجها ولايدري ما ينتظره فيها من هلاك.
ويظهر التحدي الجلي ماثلاً أمام المفكرين والمثقفين في قبول أو رد هذا الجديد في مقاومة أو تبني ما يغزو فضاءنا الفكري من جديد الأفكار.
إنه من الطبيعي أن ينقسم المفكرون عند كل جديد إلى خيارين كلاسيكيين:
1_ تيارٌ مع خيار الاصطدام والمقاومة لها وغزوها في عقر دارها ونقض مكوناتها في حرب صفرية يظهر فيها بوضوح الغالب والمغلوب.
وهذا التيار يقوم على شيطنة كل ما يأتي من الغرب وذم وقدح كل الانبعاثات الحضارية الغربية إلى درجة الابتداء بالمواقف السلبية حتى من أدواتها ومنتجاتها المادية .
وقد تبلورات الأفكار السياسية  لهذا التيار في رفض الديمقراطية والعلمانية والمشاركة السياسية والتغيير من داخل المنظومة أو أي شكل من الإلتقاء أو المهادنة مع الجاهلية حتى ولو كان تحت ضغط الإضطرار إلى درجةٍ قد تصل إلى التكفير الصريح لمن يحاول ذلك ولو كان تحت ضغط الإكراه والضرورة. 
2_ وبين تيار يفضل خيار التبني  للفكرة والاعتقاد بها والدفاع عنا والانبهار بها وذلك يكون لا بنقض التراث  برمته والقطيعة معه، وإنما بالاتجاه  لإعادة تفسير  التراث والكر على النص الديني  لتأويله بما يتوافق مع الوافد الجديد .
ولكن قراءة الإسلام تحت ضغط  مثل هذه الأفكار المهيمنة على العالم وهي تتبهرج  بزينتها الخلابة، تجعل من مجموع القراءات الحاصلة بين الحقب التاريخية المتفاوتة والمختلفة تبعًا لاختلاف الثقافة السائدة تكذب بعضها بعضًا وتعود على بعضها بالنقض.
فمن كان مصابًا بلوثة الليبرالية وجاء ليعيد قراءة النص الديني خرج بقراءة على  مقياس ما تقرره الليبرالية  وتختاره من  الدين وهو ما لا يمس جوهر الليبرالية بسوء فهو لا يقرأ إلا ما يعصف في نفسه لما تشكله الهزيمة الفكرية من عائقٍ أمام القراءة الحرة والنظرة الموضوعية ومن تلقي على عين الحاذق البصير من غشاوة تلون وجه الحقيقة وتضفي على الأفكار لون الغشاوة الملتاثة بصنم العصر والتي تعكر صفاء الرؤية والبصيرة لديه.
فكثير من هؤلاء المنهزمين أمام الصنم العصري يجعلون من الثقافة المهيمنة كعبة الحقيقة وبوصلة الاتجاه ومقياس الخطأ، والصواب ومنها تصنع خيوط الغربال وتحدد حجم ثقوبه ليغربل به التراث فما بقي في الغربال هو الصالح وما سقط منها هو الطالح.
ومن هنا ظهرت كتابات كثيرة لكتاب إسلاميين عن العروبة والإسلام واشتراكية الإسلام، والإعجاز العلمي والعددي في القرآن، وحداثة الإسلام ,وديمقراطية الإسلام، والفن في الاسلام، وإعادة الاجتهاد في أصول الفقه وانكار جهاد الطلب. كل هذه القراءات حصلت في بعد انزواء الحضارة الإسلامية قيادة العالم  لتعلم مقدار الضغط الذي أخرج مثل هذه القراءات الشاذة والتي كان يمثلها التيار الحداثي المتصالح مع الهوية الاسلامية .
أمام  هذا الاستقطاب الحاد بين التيارين السالفين  بين تذويب الفكرة المعادية وبين الذوبان فيها.
3_يظهر لدينا تيارٌ ثالث يرى ما في المنظومة الفكرية الجديدة من سلبيات ومثالب واهدارٍ للهوية وزعزعة للثوابت لديها ويرى أيضًا ما فيها من حسنات لا تنكر، ويرى بالمقابل عبثية التصدي لها بالمواجهة المباشرة وهي تمر في مرحلة الهجوم والاكتساح العنيف والموجات الهائجة.
ولما لهذه المنظومة الفكرية التي تهب كالريح المرسلة حراسها الأوفياء وسدنتها الأشداء المستميتين في الدفاع عنها  وما لها من تجذر في دول عميقة تمسك بالمفاصل الصلبة للدول.، لجأ هذا الفريق من المفكرين لخيارٍ أخر أكثر حنكة ودهاءً، فلم يتورطوا بحرب استنزافٍ طويلة الأمد مع الفكرة المركزية التي تصيغ شكل النظام العالمي وتلقي بجناحها على دوله القُطرية الوظيفية، ولم يتورطوا في الانقضاض على التراث تحت ضغط الشعور بالهزيمة لإعادة تفسيره بما يتلاءم مع هذه المنظومة العالمية المتوحشة، وإنما سلكوا طريقاً مغايراً واستراتيجية تقوم على الاشتباك القريب ومن خلال الأسلحة الناعمة وتصفير مسافة التسديد مع العدو وتفتيت الفكرة من داخلها  وإزاحة هذه الصخرة الكأداء من طريق نهضتهم دون مصادمةٍ مكلفة وذلك من خلال حيلةٍ بسيطةٍ تجمع بين حربين متعاكسين لهذه الفكرة وهي التصالح مع الفكرة في السطح ومحاربتها في الغور بتفكيك هذه المنظومة الفكرية ثم إعادة تفسير الفكرة بدلًا من نقضها ثم إعادة إنتاجها من جديد كما يستحيل الخمر خلاً . واستبعاد نظرية تذويب الفكرة أو الذوبان بها وإنما توظيف ما يمكن توظيفه من الفكرة والاستعانة به لإنهاء وضرب ما تبقى منها.
وهذا الأمر ليس  بدعاً من القول أو ضرباً من الخيال، فرسول الله صلى اله عليه وسلم أعاد تفسير قواعد راسخةٍ من قواعد الجاهلية مثل قاعدة انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قالوا كيف ننصره ظالمًا قال بأن ترده عن ظلمه
وقد رأينا بعض الصوفية كيف يعتذرون لكلام شيوخهم الذي يحمل في ظاهره على الكفر فصرفوه عن ظاهره لمعنىً يسوغه الشرع وتجيزه  مجازات اللغة وإن كان في بعض الحيان يأتي متكلفاً.
وفعله بعض السلفية مع كلام مشايخهم الذي كان ظاهره التكفير فصرفوه عن ظهره وقيدوه بكلامٍ أخر للشيخ يجعل المراد من كلامه مقيداً بقيودٍ ينزع عنه غُلوه.
وهذا ما يتجه إليه كثير من الإسلاميين اليوم في طريق التصالح مع مفرزات الحداثة والتحرك ضمن حلقاتها المحكمة والأسوار الصلبة للنظام العالمي من خلال تفكيكها والبحث عن ثغرات للنفاذ منها أو إعادة تفسير مضمونها.
ويدلل هذا الفريق على صنيعه بما فعله صلاح الدين الأيوبي عندما دخل في سلك الدولة الفاطمية وبدأ مسيرته الإصلاحية من دخل دولةً بدعية تصل فيها البدع إلى ما هو مكفر لكنه استطاع النفاذ من ثغراتها الضيقة وكان وزيرًا للخليفة الفاطمي واستطاع في النهاية أن يعد الحكم فيها سنياً خالصاً.
وهذا ما أشار إلى جزء منه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في رده على سؤال مذيع الجزيرة على الضفيري عن العلمانية هل أنت علماني؟ فقال مجيبًا:

أولًا: أنا مسلم
ثانياً:  لقد قمنا بإعادة التفسير للعلمانية وإعادة التفسير للديمقراطية.
تبقى المعضلة أمام هذا الخيار في إيجاد الإطار الفقهي لتسويغ الخطة شرعاً بناءً على فقه الاستضعاف وحالة الاضطرار وتحقيق الممكن.
ومن ثم معرفة قواعد واستراتيجية الخصم السياسية المناوئة وجدوى المواجهة معه بهذه الطريقة التي ربما وبخطأ واحد تتحول إلى عملية انتحار سياسي وفكري.

عباس أبو تيم شريفة

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 1
  • 0
  • 2,907

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً