من الذي أدخل الخنزير؟!

منذ 2016-11-08

إن عملية إدخال الخنزير ثم سحبه ما كانت في الحقيقة إلا مخدرًا نفسيًا وتشتيتًا فكريًا استطاع من خلاله الحاخام أن يخفض سقف طموحات الرجل وأن يكسر أحلامه في عيش كريم يحتوي على الحد الأدنى من معايير الحياة الإنسانية والحقوق البشرية

لم تكن حياة ذلك الرجل اليهودي سهلة مطلقًا.. حجرة ضيقة يعيش فيها هو وأمه وزوجه وأولاده السبعة.. لقد صارت الحياة لا تطاق وصار الانتقال إلى منزل أوسع ضرورة ملحة.. لكن كيف والفقر صاحبه والعوز وقلة ذات اليد رفاق دربه؟
ما كان من الرجل إلا أن ذهب إلى حاخام القرية يشكو إليه حاله ويسأله المشورة قبل أن يطيش عقله ويقدم على فعل جنوني لا تحمد عقباه.. طلب منه الحاخام أن يمهله إلى الغد حتى يأتي لزيارته وفي جعبته الحل.. جاءه الحاخام في اليوم التالي طارقًا بابه ومعه ذلك المخلوق العجيب.. ما هذا؟
هل يعقل أن يُهدينا الحاخام خنزيرًا؟!
هكذا سأل أهل الحجرة أنفسهم في دهشة وهم يرقبونه يدلف إلى غرفتهم الضيقة وهو يدفع ذلك الخنزير المقزز أمامه..
- "لكنها ليست هدية".
رد الحاخام بتلك الجملة على تلك التساؤلات التي تتقافز من أعين الأسرة البائسة.
- "إنه الحل الذي طلبتموه يا سادة".
- الحل الذي ستفرَّج به هموم حياتكم الفقيرة.
-ما عليكم إلا الاحتفاظ بهذا المخلوق في غرفتكم أسبوعًا واحدًا ثم يكون لنا حديث آخر بعد ذلك.
ولكن...
يا سيدي...
إنه خنزير...
غادر الحاخام الغرفة ولم يلق بالا بهمهماتهم المستنكرة ولا نظراتهم الذاهلة المستغربة التي ظلت تلاحقه حتى غاب عن الأبصار وابتلعته شوارع القرية المزدحمة..
التفت سكان الغرفة إلى تلك المصيبة التي تركها الحاخام ومضى..
أي حلٍ هذا أيها الحاخام في وجود ذلك المخلوق القذر بيننا؟؟
أي انفراجة في وجود حيوان كريه يؤرق بخواره مضاجعنا وينشر نجاسته على فُرُشنا ثم يعود ليطعمها في مشهد مقزز يحيل حياتنا جحيما لا يوصف؟!
لم تكد تنقضي المهلة حتى سارع رب الأسرة لاهثًا إلى الحاخام وما إن دخل عليه المعبد حتى صاح فيه قائلا بصوت متهدج: أدركنا يا سيدي.. الحياة صارت لا تطاق.. أرجوك اسحب خنزيرك الذي دمر حياتنا الهانئة!!
الهانئة؟!!
ابتسم الحاخام ابتسامة ذات مغزى ثم رافق الرجل في شوارع القرية ماضيًا معه إلى حجرته الفقيرة..
استرد رجل الدين اليهودي خنزيره ثم قال للفقير البائس: انتظر يومين ثم ائتني بعدهما في المعبد.
مضى اليومان ودخل الرجل على الحاخام بوجه غير الوجه..
- مالي أراك متورد الوجنتين متهلل الأسارير؟
رد الرجل الفقير: لقد صارت الحياة جنة يا سيدي.. لكأن غرفتنا الصغيرة أضحت قصرًا منيفًا مترامي الأرجاء.. لقد كنا في نعيم لم ندركه إلا الآن.
هنا تنهد الحاخام في ارتياح وقال للرجل بصوت يبدو عليه السرور: ألم أقل لك إن هذا الخنزير هو الحل المثالي لكل مشاكلكم.
أومأ الفقير برأسه موافقًا ومقرًا لكلامه في سعادة وغادر وقد اطمأنت نفسه ورضي بحياته البائسة.
إلى هنا تنتهى تلك القصة القديمة التي قد يخرج منها البعض بمواعظ وحكم عن الرضا بالمقسوم والقناعة بالرزق وما إلى ذلك من أمور هي بلا شك جيدة في أصلها وبها يستطيع الإنسان إكمال حياته صابرًا محتسبًا..
لكن هل فعلا كانت عملية سحب الخنزير -كما يطلق عليها- هي الحل؟!
هل كانت حيلة الحاخام الماكر تشكل الإجابة العملية لمعضلة حياة الرجل الفقير؟!
هل تغير شيء في واقعه الأليم وتحول ضيق عيشه إلى سعة وهناء كما تصور في نهاية الأمر؟!
الجواب ببساطة: لا.
إن عملية إدخال الخنزير ثم سحبه ما كانت في الحقيقة إلا مخدرًا نفسيًا وتشتيتًا فكريًا استطاع من خلاله الحاخام أن يخفض سقف طموحات الرجل وأن يكسر أحلامه في عيش كريم يحتوي على الحد الأدنى من معايير الحياة الإنسانية والحقوق البشرية. وثمة فارق واضح بين تذكير الناس بالرضا والقناعة -وتلك معانٍ إيمانية مطلوبة ومهمة- وبين أن تكون هناك مشكلة حقيقة ويتم علاجها بوهم في وجود علاج حقيقي وتلك في رأيي خديعة وخيانة للأمانة؛ لكنه أبدًا ليس علاجًا.. بل هو خداع مكتمل الأركان إذا كان في حالة وجود علاج حقيقي أو حلول واقعية كما بينت..
وهذا ما فعله الحاخام ويفعله كثير حاخامات العصر.. فليس من حق أحد تخدير الناس وقتل أحلامهم وتمزيق أمانيهم حتى يتحسروا على السيء ويرضوا بالهوان ويتمنوا المرَّ خوفا مما هو أمرَّ منه.. وإن مطالبة الإنسان بحياة محترمة وعيش كريم ليست عيبًا، ورغبة المرء في تحسين أحواله ليست جريمة تستدعي عقوبة أو تستحق عذابًا يجعله يندم على تفكيره يومًا في الارتقاء وعلى طموحه في عيش أفضل ويدفعه دفعًا لأن يتحسر ويترحم على تلك الأيام التي سبقت دخول الخنزير إلى حياته فيصير كل همه ومنتهى أمله وغاية حلمه أن تعود تلك الأيام وترجع غرفته على أي هيئة كانت حتى لو كانت ضنكًا وشظفًا.. المهم أن تكون بدون خنزير، وينسى تمامًا أن يسأل نفسه السؤال الأهم: من الذي أدخل الخنزير؟!

  • 3
  • 0
  • 1,508

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً