النصيحة العوراء تفسد الدين ولا تصلح الدنيا
حاتم أبو زيد
ما في شريعة الرحمن أن يرفل أقوام في النعيم والأموال، وأن يتضور آخرين جوعًا ومرضًا
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
بعض المنتسبين للدين والشريعة يقوم في هذه الظروف الاقتصادية العصيبة بتقديم النصيحة للناس بدعوتهم للصبر على ما نزل بهم من بلاء، واليقين في أن الرزق بيد الله، ومطالبتهم بالتوبة والرجوع إلى الله، وكل هذا حق ولكنه ليس إلا وجه واحد من الشرع.
إذ يتغافل عمدًا إما عن خوف أو تدليس عن الوجه الآخر من الشرع؛ فتأتي نصيحتهم عرجاء عوراء يعتريها الخلل، بل قد تدفع الناس دفاع لكراهية الدين.
وفي أحسن الأحوال فأمثال تلك الأقوال تصب في مسار العلمانية، إذ يصبح الدين مجموعة من التمائم والتعويذات والعقائد النظرية التي تخدر المظلوم وتدفعه للسكون أمام الظلم والظلمة من الطغاة المتجبرين. ومن ثم يفرغ الدين من الحلول العملية لتنظيم حياة وشؤون الناس وتلك هي العلمانية في أنصع صورها.
فإن كانت التوبة والرجوع إلى الله هي الحل فأعظم التوبة والإنابة إليه والعبادة له سبحانه: إقامة شرعه وأحكامه سبحانه وتعالي، والتنكب عن ذلك تنكب عن طريق الإيمان ذاته {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
وإقامة حكم الله فيه الرخاء قال تعالي: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة:66]. وعاقبة تنحية الشريعة هي البلاء المبين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
فعندما تكون السلطة ظالمة محاربة لشريعة الرحمن فتمام النصيحة أن يقال للناس السبب الحقيقي لما هم فيه، وأن يخبروهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «ألَا لا يَمنعنَّ أحدَكم هيبَةُ الناسِ أنْ يقولَ الحق إذا رآه أو شهده فإنَّه لا يُقرِّبُ من أجلٍ ولا يُباعدُ من رزقٍ أنْ يقولَ بحقٍّ أو يُذكِّرَ بعظيمٍ» (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة:8/67).
هذا في العموم أما في الخصوص، فما في شريعة الرحمن أن يرفل أقوام في النعيم والأموال، وأن يتضور آخرين جوعًا ومرضًا. وإن كان هذا يجري بمقادير الإله سبحانه، فذلك لابتلاء كلا الفريقين في الاستجابة للأمر الشرعي.
فالأموال والنعم هي ملك لله {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، {آتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، والله عز وجل يحكم في ماله كيف يشاء والمستخلف في المال عليه تنفيذ أمر المالك والملك سبحانه.
ففرض مالك الملك الزكاة، وعاقب الممتنع عن أدائها بأخذ نصف ماله. فإن لم تكفي لسد الحاجة فمازال في المال حقا {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19].
وعن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجلٌ على راحلة له، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: م «ن كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زادٍ فليعد به على من لا زاد له» (صحيح أبي داوود:1663)؛ قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر ، حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في فضل. ومنعت الشريعة من إنفاق السيء والرديء من المال {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267].
ورتبت أمورًا عديدة حتى لا يكون المال (دولة بين الأغنياء) وحسب. فمنعت الاحتكار قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» (صحيح مسلم:1605) وجاء الإجماع على تحريم الاحتكار في أقوات الناس كلبن الأطفال، والأرز ونحوه كالدواء.
وحكى النووي الإجماع: "على أنه لو كان عند إنسان طعام، واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه دفعا للضرر عن الناس". والمراد طبعًا بيعه بمثل قيمته، لا بالسعر الذي يفرضه هو كمحتكر.
ووفرت للناس مصادر العمل والإنتاج الأساسية لا أن تجعلهم في معسكر اعتقال جميعًا تحرمهم من كل شيء ثم تقول اصبروا، فقال صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ» (مجموع الفتاوى:29/219)، وهؤلاء يسقون الناس مياه المجاري ويمنعون الماء على المزارعين. ويرفعون دعم الكهرباء ويستولون على ثروات الغاز والنفط من دون بقية الشعب، ويحتكرون ما يقرب من خمسة أرباع الأرض.
كل ذلك من الشريعة غير القائمة بل والمحاربة لأنها تكبل يد الظالمين وتساوي بين الناس فكلهم عبيد للملك الحق. وهنا الابتلاء للفريق الآخر المستضعف، في استجابته لأمر الله بمجاهدة الظالمين وإقامة الشرع واسترداد الحقوق. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب» (صحيح أبي داوود:4338).
ولا نعلم أحدًا من أهل العلم طالب المظلومين والجوعى بالصبر على الجوع حتى الموت، وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظلمَتِه فهوَ شهيدٌ» (صحي الجامع:6447).
قال ابن حزم: "من عطش فخاف الموت ففرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده وأن يقاتل عليه. ولا فرق بين ما يدفع عن نفسه الموت من العطش و ما يدفع به عنها الموت من الجوع والعري. وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود، وإن قتل المانع فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقا، وهو طائفة باغية".
وفي مغنى المحتاج للشافعية (6/ 162): "يجب على المضطر أن يستأذن مالك الطعام أو وليه في أخذه. فإن امتنع صاحب الطعام أو وليه غير مضطر في الحال من بذله بعوض لمضطر محترم؛ (فله) أي المضطر (قهره) على أخذه، وإن احتاج إليه المانع في المستقبل".
روى ابن أبي شيبة والبيهقي: "أن رجلا استسقى على باب قوم، فأبوا أن يسقوه، فأدركه العطش فمات، فضمنهم عمر الدية". وذلك لأنه اعتبرهم قتلوه بالخطأ. وبه قال الإمام أحمد. (مسائل أحمد وإسحاق بن راهوية ، مسألة [2616]). قال ابن حزم: وهكذا القول، في الجائع، والعاري، ولا فرق - وكل ذلك عدوان. المحلى، مسألة (2104).
وأما من حبس إنسانًا أو شعبًا ومنعه الطعام أو الشراب أو الدفء في الليالي الباردة حتى يموت فهو قاتل متعمد. وهذا رأي مالك والشافعي وأحمد والظاهرية، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة، رحمهم الله جميعًا.