مجرد شغف! 2

منذ 2016-11-13

علينا أن نبحث عن وقود الشغف وأن نسلك طرق العشق فيما ينبغي أن يُعشَق ويُحَب وأن نسعى جاهدين لإحياء موات قلوبنا وعباداتنا وواجباتنا ومسؤولياتنا.

لم يكن أحد يتوقع أبدا أن يهجرها أو تهجره، أن يحدث الانفصال بينهما وينهدم البيت وتمحق الأسرة، لطالما كانت العلاقة بينهما مضربا للأمثال، كان كما يقال: يكاد يوقد لها أصابعه العشرة شمعا وكانت لا تتدخر وسعا هي الأخرى لإرضائه، كان حقا سعيدا بزواجهما، محبا لبيتهما؛ بل لفظ الحب يعد قليلا بالنسبة لما كان يشعر به ويظهره لها ولكل من يعرفهما؛ كان شغوفا بها وبوجوده معها وكانت هي الأخرى مولعة به.

ثم زال الشغف!
رحل من بيتهما تدريجيا، ثم رحل بعده الحب، ثم رحلا هما بعد ذلك، لم يعد باستطاعتهما المكث في حياة تختلف عما تعودا عليه، حياة تخلو من الشغف، لقد تصورا للأسف شيئا يخالف الحقيقة.

تلك الحقيقة التي تقول ببساطة: ليس بالشغف وحده يحيا الإنسان، قد يبدو هذا الكلام مناقضا لما كتبته في الجزء الأول من هذا المقال، حيث اجتهدت لإثبات أهمية الشغف الفائقة وكيف أنه وقود الحياة
وهذا لم يزل بعد ما أراه.

الشغف والحب والعشق والحماس كل ذلك هو روح الأشياء وما يعطيها حلاوتها وقيمتها، لم أزل أعتقد أن الفارق بين وجود الحياة في أي شيء من عدمه هو ذلك الشغف، من دون ذلك الشغف وجذوته ستجد الرتابة والملل، ستجد التثاؤب والكسل، ستجد أعمالا صورية تخلو من حقيقتها وعلاقات سمجة سطحية تقوم على شفا جرف هار من الفشل المتوقع، ستجد تدينا سطحيا يفتقد الروح وعبادات تفتقر للحياة والحب، فقط واجبات روتينية والتزامات أثقل ما تكون على النفس وتباطؤ وتلكؤ وتكاسل يشوب أي حركة فقدت وقودها، فقدت الشغف.

لكن هل هذا كله على أهميته يعني أن فقدان الشغف يعني فقدان الشيء؟!

الحقيقة أن هذا هو السؤال الأهم الذي ينبغي أن نسأله لأنفسنا ونحن بصدد الحديث عن الشغف بدلا من السؤال الآخر الذي طُرح بكثرة بعد المقال السابق وهو كيف نصل إلى الشغف ونجدده إن خبا بريقه؟!

وهذا السؤال الأخير على أهميته وبديهيته إلا أن إجابته صعبة للغاية إذ الشغف في الأصل ليس كسبيا ويصعب تكلفه وحتى إن سلك الإنسان سبل الوصول إلى حب الشيء فيصعب أن يصل عبرها لوهج العشق وحماس الشغف.

جزء كبير من ذلك الشغف متعلق بطبيعة الإنسان والجزء الأكبر متعلق بهبات ربانية لا كسب للإنسان فيها
قد ينتقل الشغف كما قلت في المقال السابق من شخص إلى آخر عبر الكلام والأفعال فمعايشة الشغوفين تعكس شيئا من شغفهم بلا شك لكن يظل السؤال الأخطر، ماذا لو لم يأت الشغف؟! ماذا لو فُقد؟!

هنا يبرز وقود آخر في غاية الخطورة يتعلق به الاستمرار والثبات وتستطيع أن تفرق به بين الصادق والكاذب، بين الناضج والأرعن، بين من يستطيع تحمل المسؤولية ومن لا يعتمد عليه، بين العاقل الذي يدرك أهمية الأشياء وخطورتها بغض النظر عن لذتها وبين الشخص الهوائي أو المزاجي الذي لا يتحرك إلا بقلبه وحسب. هذا العامل الذي يفرق بين كل زوجين من الأصناف السابقة هو وضوح الغاية والإخلاص لبلوغها.

والحقيقة أن الإخلاص ليس نقيضا للشغف أو مضادا له وكم من شغوفين كان إخلاصهم وقودا لشغفهم كما كان شغفهم مجددا لإخلاصهم، لكن الإخلاص هو معيار الثبات والاستمرار الأهم.

أن يدرك المرء لماذا يفعل هذا الشيء أو ذاك، أن تبدو له القيمة الكائنة وراء الأشياء، أن يستشرف الأهداف العظيمة والغايات النبيلة والنيات الشريفة التي يؤدي إليها عمله، عندئذ يثبت حتى لو لم يعشق ويحرك الشغف قلبه، وهذا هو؛ رجل أو امرأة المهام الصعبة، هذا هو من يعتمد عليه حقا.

فلئن كان الشغف هو وقود الحياة وسر بهجتها ولذتها واستشعار جمالها فالإخلاص هو وقود استمراريتها وسر الإكمال في طريقها، حتى لو لم يوجد الشغف.

تخيل شخصا كان في البداية شغوفا بما يفيد كرياضة مثلا أو معرفة واطلاع ثم زال الشغف فزالت علاقته بما يفيده وأهمل جسده وعقله هل هذا هو المراد؟!

أو تخيل العكس كأن ينتقل الشغف إلى ضار أو محرم أو سبب إسرافا في شهوة أودت بدينه أو دنياه، هنا يتحول الشغف إلى سكين يذبح.

تأمل شخصا ربط كل حياته بوجود الشغف وحسب فلما رحل عن علاقته بزوجه كما في المثال الذي قدمت به، رحل هو معه ولم يلتفت إلى بيته أو أبنائه أو تلك القيمة العظمى التي بناها عبر سنوات، قيمة الأسرة.

في هذا السياق -سياق الحديث عن الزواج- تبرز الآية الجامعة {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].

تأمل... هذا النموذج القرآني لم يفقد الشغف وحسب بل حلت الكراهية ومع ذلك لم يكن التوجيه الرباني هو الانفصال ولكن تمت الإشارة إلى أهمية الاعتبارات الأخرى حتى لو لم يدرك المرء بعضها، اعتبارات الخير الكثير الذي يلوح في الأفق، وهذا ما يستشرفه المخلصون، أولئك الذين يدركون حقائق الأشياء ويبتغونها ولو لم تعجل لهم لذاتها ولم يستمتعوا بتفاصيلها فإن النهاية والهدف والغاية تطل عليهم من بعيد وتبعث في قلوبهم وأوصالهم وقودا آخر يحركهم لبلوغها.

نعم علينا أن نبحث عن وقود الشغف وأن نسلك طرق العشق فيما ينبغي أن يُعشَق ويُحَب وأن نسعى جاهدين لإحياء موات قلوبنا وعباداتنا وواجباتنا ومسؤولياتنا.

لكن... إن لم نستطع ولم يتسرب الشغف لقلوبنا أو تأخر فعلينا أن ندرك دوما الحقيقة، حقيقة أن ليس بالشغف وحده يحيا الإنسان.

  • 1
  • 0
  • 7,423

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً