موت المستعلن بالفجور
خالد بهاء الدين
إذا مات المجاهر بالفسق، الذي لم يؤثَر عنه إلا الفجور، وظلم النفس، والإفساد في الأرض، وانتهاك العورات، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وحبّ ذلك، فإننا والله نرجو أننا من العباد الذين يستريحون بموت مثل هذا. فبموته ذهب أحد أسباب نزول بلاء عامّ، وتخفّفنا من بعض الواجب علينا من إنكار المنكر، وزال سبب من أسباب منع الرّزق، وحلول الضّنك. ويستريح بموته البلاد.. والشجر والدّواب.. وعباد الله يستريحون بموته.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
هذه أربع مسائل تتعلّق بموت بعض المشهورين بالإثم، المستعلنين بالفجور، المحترفين له.
والمقصود بالكلام: من لم يؤثَر عنه سوى الفجورِ الظّاهر، وظلمِ النّفسِ، والإفسادِ في الأرضِ، وانتهاكِ العوراتِ، وإشاعةِ الفاحشةِ في الذين آمنوا، وحبِّ ذلك؛ أو فيمن غالبُ حالِه الظّاهرِ لنا منه كذلك.
أمّا المسائل الأربعة فهي:
- في حكم الفرح بموته، وإبداء الارتياح لذلك.
- في حكم تعزية أهله وذويه.
- في حكم الدعاء له بالرحمة.
- في حكم تعزية المسلمين بعضُهم بعضًا في وفاته، وإظهار الحزن والحسرة على فقده، وإشاعة ذلك.
1- في حكم الفرح بموته، وإبداء الارتياح لذلك: مُستراحٌ منه؛ روى البخاريُّ ومسلمٌ في الصَّحيحين: أنّ جنازةً مرَّت على النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «مُستَريحٌ ومُستَراحٌ منه»؛ فقال الصّحابة: يا رسول الله، ما المُستَريحُ والمُستَراحُ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العبدُ المؤمنُ يَستريحُ مِن نَصَب الدُّنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبدَ الفَاجرُ يَستريحُ منه: العبادُ، والبلادُ، والشَّجرُ، والدَّوابُّ»!!
قلت: العبد الفاجر، لماذا (يَستريحُ منه العباد)؟
الجوابُ:
* قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "قال الداودي: أمّا استراحةُ العبادِ فلمَا يأتي به مِن المُنكَر، فإنْ أَنكروا عليه؛ آذاهم، وإن تَركوه؛ أثِموا"!!
* ومثلُه قول الإمام النّوويّ رحمه الله في شرح مسلم: "وأما استراحة العباد من الفاجر، معناه: اندفاعُ أذاهُ عنهم.
وأذاه يكون من وجوه:
- منها ظلمُه لهم.
- ومنها ارتكابه للمنكرات، فإن أنكروها: قاسَوا مشقّةً من ذلك، وربّما نالَهم ضررُه، وإن سكتوا عنه؛ أثِموا" اهـ.
أقول:
** فالعبد الفاجرُ الذي يرتكب المنكراتِ ويشيعها ويستعلن بها، شؤمٌ ونكد على العباد، فلذا يستريحون بموته كما أخبر النّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
** والعبدُ الفاجر المستعلنُ المُجاهرُ بالمعاصي؛ شؤمٌ في كلِّ أحيانه على كلِّ مَن حولَه، فهو كما قال النّوويُّ، سببٌ في المشقّة أو الضَّرر أو الإثم!
** فنَحن نحمَد اللهَ على ما أراحنا، ونفرَح بما يُنعِم به علينا بإهلاك الفسّاق والفجّار والمستعلنين بالمعاصي، الذين يمنعون نِعمَ الله بمعاصيهم تلك.
وكيف لا نفرح، وقد كانوا سببا في المشقّة أو الضّرر أو الإثم؟!
** ولا يعني هذا أنّنا في نقاء من المعصية، غيرَ أنّنا لا نحبُّها، ولا نُحبُّ من يَستعلنُ بها، وإذا اقترفنا شيئًا منها: اعترفنا بتقصيرنا، ودعونا الله أن يتوب علينا، ورجوناه أن يستر علينا، وخشينا أن يفضحنا، ولذا فلا نعلن بالمعصية أبدا، خاصّة تلك التي اتفق أهل الإيمان على أنها منكرة تغضب الله، ونرجو أن نموت على ذلك!!
** ففرق بين من يفعل المعصية وهي غير غالبة على إرادته، ولا يستعلن بها، ويحزن، ويتوب، أو: يعرف أنه مفرّط في جنب الله وإن أقام على المعصية. وبين من يفعلها ممنهجة، ويحترف المعصية، ويدافع عنها، ويعيش حياته كلَّها يُظهرها، ويفخر بها، ويعين عليها.
ويعلم المتأمّل الفطن، أثر الإعلام الفاسد، وأفلام حقبة السبعينات وما بعدها في إفساد الناس، إفساد تديّنهم، وعقولِهم، مع حرب السلطة ضد القيم والأخلاق والدّين، وأنّ الأمر هو (سياسة الفجور وتقنينه).
ويعلم أيضا أنّ أثر هذا باق إلى اليوم، ومستمرّ، ويتطوّر، ومن فتّش في هذه البيئة علم ما هم عليه من وباء المعصية، ونسأل الله لهم الهداية، ولنا العافية.
فالذي هم عليه من أعظم الجناية المتعدّية، فهم ضالّون فاسدون، مُضِلّون مُفسِدون، مشيعون للفاحشة مستعلنون بها، داعون إليها.
والعبد الفاجر كيف (يستريح منه البلاد)؟
الجواب عن الداودي أيضًا في فتح الباري: "استراحة البلاد ممّا يأتي به من المعاصي، فإنّ ذلك ممّا يحصُل به الجدبُ فيَقتضي هلاكَ الحرثِ والنّسلِ".
** أقول: ولسنا بحاجة إلى الدّاوديّ رحمه الله، ولا غيره، حتى نعلمَ أنَّ ظهورَ الفسادِ وشيوعَه، كما كان يفعل المتوفّى المقصود وأمثالُه؛ مِن أسباب نكد العيش!
قال الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41].
وقال الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[الأعراف:96].
والتّقوى معلومٌ ما هي، والمتوفَّى المذكور معلومٌ ما هو!
** وحتى لا يأتي أحمقُ ويقول: إنني أعلّقُ الفقرَ وضنك المعيشة، بالأفلام الماجنة والفسق وحدَه، فهذا تصريح منّي للأحمقِ: الفسقُ والفجورُ وذهابُ التّقوى في ظاهر المجتمع، وشيوع الفاحشة: من الأسباب، وليس السببَ الوحيد، وهو سببٌ منصوص عليه في القرآن والسنّة، وأقوال السّلف والأئمّة .. وليس كلَّ الأسباب..
لأنني اعتدتُ في الحقيقة على تعقيبات جهلة حمقى، آخرها متعلّق بفتوى تحريم الضرائب، من أخ جاهل، لا هو يعرف الشّرع وأحكامه، ولا يعرف الدّولة الحديثة ومكوّناتها، ولا الإشكالية بين القيمتين. فهو لا يعرف فيما كتبه إلا الافتراء على خلق الله، لكنّني تجاهلتُه، فليس لكلامه أثرٌ إلا عند قلّة ممن هم على شاكلته، والحمد لله.
** وأخرج الطّبريُّ عن مجاهدٍ رحمه الله قال: "البهائمُ: الإبلُ، والبقرُ والغنمُ، فتَلعنُ عصاةَ بني آدمَ إذا أجدبَت الأرضُ".
** وأخرج عن عكرمة قال: "يلعنهم كلُّ شيء، حتى الخنافس والعقارب، يقولون: مُنِعنا القطْرَ بذنوبِ بني آدم".
وهذان وغيرُهما كثيرٌ عند تفسير قول الله: {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
ومثل هذا عن السّلف والأئمّة كثير.
وقال الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]
ونصوص الوحيين، وأقوال الصّحابة والسّلف والأئمّة في هذا أكثرُ من أن تُحصى، وأرجو أن المعنى واضحٌ، بلا إشكال.
** فإذا مات المجاهر بالفسق، الذي لم يؤثَر عنه إلا الفجور، وظلم النفس، والإفساد في الأرض، وانتهاك العورات، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وحبّ ذلك، فإننا والله نرجو أننا من العباد الذين يستريحون بموت مثل هذا. فبموته ذهب أحد أسباب نزول بلاء عامّ، وتخفّفنا من بعض الواجب علينا من إنكار المنكر، وزال سبب من أسباب منع الرّزق، وحلول الضّنك. ويستريح بموته البلاد.. والشجر والدّواب.. وعباد الله يستريحون بموته.
فلماذا لا نفرح؟؟ فالظاهر أن الفرح بموت الفاجر، كما في النصّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، مما يقع للعباد الصّالحين بطبعهم، والله أعلم.
** والفرح بزوال بعض أسباب المعصية بموت المسلم الفاجر، والكافر الفاجر؛ لا يتنافى مع الشفقة عليهم، خاصّة الكافر، شفقة لما هو مقبل عليه من الوعيد، وربما الحزن والتألّم على القرابة إذا ماتوا على كفر أو معصية، بسبب ما هم مقبلون عليه من الوعيد، لا سيّما إذا لم يكونوا ممن يشيع الفاحشة ويفسد الناس، ويتخذ الإفساد حرفة.
وهذا كما بكى النبيُّ صلى الله عليه وآله سلم عند قبر أمّه عندما زاره، وكما رُوي في رقّته عند موت عمّه أبي طالب، وقد كان يرجو له الإسلام، حتى نزل قول الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56]
فهذه جهة أخرى منفكّة عن الاستراحة بموت الفاجر.. وكلاهما وارد عن المعصوم صلى الله عليه وآله وسلّم، فافهم، وتأمّل ولا تكن من الغافلين.
** وأنا أشهد على نفسي أنّني عندما بلغني موت الممثّل المقصود، قد اعترتني كآبة، لما ظننتُه أنّ الرجل قد مات جاهلا، بكثير من أحكام الدّين، نعم بتفريط منه وتقصير. وجزء أكبر من الكآبة التي اعترتني، كان بسبب هيبة الموت المعتادة عند سماع خبر كل ميّت، والله يرحمنا ويرحم المسلمين، ويثبّتنا بالقول الثابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة، ولا يضلّنا مع الظالمين!
2- في حكم تعزية أهله وذويه:
** لا يختلف أصحابنا الشّافعيّة في (استحباب) تعزية أهل ذاك المتوفَّى، كغيره، فهذا عامّ يتناول كل ميّت، وكذا يستحب عند التعزية الدعاءُ لهم وللمتوفّى.
** قال أصحابنا: ويتأكّد الاستحباب إذا كان فيهم صلحاءُ، أو ضعفاءُ عن تحمّل المصيبة.
** قال الشافعي والأصحاب: إلا المرأةَ الشّابّةَ، فلا يُعزّيها إلا محارمُها فقط.
** قالوا: ويكره التعزية بعد مرور ثلاثةِ أيّامٍ.
** فكل هذه أحكام تتناول كلّ ميّت، لا فرق فيها بين ميّت فاسق وغير فاسق، بل نصّ أصحابنا على الألفاظ التي تقال عند تعزية الكافر.
في تفاصيل ليس هذا محلها.
3- في حكم الدعاء له بالرحمة:
** لم أجد فرقًا بين الفاسق المجاهر بالمعصية، الذي سبق وصفه، وبين أيّ مسلم في مشروعيّة الدعاء له بالرحمة، في أقوال أهل السنّة، خلاف بعض المبتدعة.
فنحن نترحّم على كلّ مسلم، ونرجو أن يعفو الله عنّا وعن كل مذنب، مجاهرًا كان أو لم يكن، مات تائبًا أو لم يتب، ختم له بعمل صالح أو لم يختم.
** ووالله إنّ الفقير أحوجُ العبيد إلى عفو الله، وإلى رحمته، ويخشى أن يأخذه الله بفساد باطنه فيهلك، ولولا ما منّ الله به من إفساح المدّة، فرجاء التوبة، لمات كمدًا وحسرة على نفسه، وكم من كبيرة باطنة فحشت عن كبائر الظّاهر.
فاللهمّ تب علينا لنتوب، ولا تحرمنا من إرادة الهداية، ما أحييتنا، وكرّه إلينا العصيان، واجعلنا من الراشدين.
4- في حكم تعزية المسلمين بعضُهم بعضًا في وفاته، وإظهار الحزن والحسرة على فقده، وإشاعة ذلك:
** أما التعزية: إنّما نصّ الفقهاء على تعزية أهل الميّت كما سبق، فأما غيره، فلا أعلم أحدًا ذكره.
** وأمّا إظهار الحزن والحسرة على فقد الموصوف في أوّل المنشور، وإشاعة أخباره وذكره، فلا أراه إلا مخالفًا للفرح والاستراحة المذكورين سابقًا. وكنتُ قد انتهيتُ إلى أنّ الفرح بموت الموصوف، إنما هو طبع (العباد)، يحصل لهم بلا استدعاء، إذ الحزن والفرح شعور باطن، وعرض لا يستدعيان كما هو معلوم إن شاء الله.
** وقد ذكر النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم راحة (العباد) والشّجر والدّواب بموت الموصوف. ونقلتُ لك من أقوال الأئمة والعلماء سبب هذا الفرح، وأنّه بسبب زوال المعصية، وزوال سبب من أساب حلول العذاب العام، وزوال سبب من أسباب الجدب والفقر وضيق الرزق. فمن لم يجد في نفسه الفرح، أو الرّاحة بذلك، فلا بدّ له أن يراجع قلبه، وإنكاره للمنكر، ومعرفته للمعروف.
** ومن لم يجد الفرح ولا الراحة، فلا أقلّ من أن يسكت عن التعزية العامّة، وإظهار الشجن والحزن العام، بل، يتوقف عن إثقال كفة الميّت المسكين بالسيّئات، بنشر معاصيه وإشاعتها بين الناس، كما يفعله بعضهم.. وليدع له بالرحمة والعفو في خاصة نفسه.
** وينبغي لذوي الهيئات من العلماء وطلبة العلم والصالحين أن يستنكفوا عن مثل هذا، فإنّ العامّة يظنّون المذكور (نجمًا) من نجوم المجتمع، ويتّخذه الشباب المسكين قدوة، وليس هذا بصحيح، بل هو عكس الصحيح.
** وقد آل الجهل إلى ظنّ كثير من الناس أنّ الأفلام والمسلسلات حلال، وصاروا يستنكرون عليّ وعلى غيري إطلاق القول بالتحريم، ويتعجّبون، ويجادلون، كما تكرّر معي كثيرا، وهذه صفحة الأسك شاهدة. فكلّ فعل من شيخ أو طالب علم يدعم هذه الشبهة، ولا يبيّنها، فهو عندي مكروه، ولا ينبغي، وعلى خلاف وظيفة العلماء والدّعاة.
** ويمكن تخريج بعض هذا على أقوال لبعض الفقهاء والأئمة، بمنع (الإمام) من الصلاة على بعض الفسّاق، كما جاء عن أحمد أن "الإمام لا يصلي على قاتل نفسه، أو على غالّ"، ونحو ذلك. وترَك النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، والحديث في صحيح مسلم.
قد ورد عن بعض الأئمة والسلف إظهار الفرح والراحة بموت بعض الفساق، حتى يقول بعضهم: "الحمد لله الذي أراح المسلمين منه". ولا فرق عندي معتبرا بين مروّج الشبهات، ومروّج الشهوات.. لكن طال المنشور!!
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.