معالم العبودية في الحج
منذ 2010-11-16
إن ذلك الرب الواحد هو الله تعالى، المألوه الذي تتوجه إليه القلوب، بكل لاعجة في الضمير، وبكل حركة في الجوارح، تتوجه إليه بكل إخلاص، وإنابة وتجرد من أي تعلُّق آخر، ومن كل معنى غير التعبد له وحدَه..
العبودية هي استقرار الشعور في نفس العبد على أن هناك معبوداً يؤلِّه وربّاً يُعبَد، وأن ليس هناك إلا ذلك الرب الواحد والكل له عبيد.
إن ذلك الرب الواحد هو الله، جلَّت عَظَمَته، المألوه الذي تتوجه إليه القلوب بكل لاعجة في الضمير، وبكل حركة في الجوارح، وبكل شعور في الحياة، تتوجه إليه بكل إخلاص وإنابة وتجرد من أي تعلُّق آخر، ومن كل معنى غير التعبد له وحدَه. وقد غرز الله - تعالى - في فطرة الإنسان حاجة تجبره أن يكون عبداً؛ فإما أن يكون عبداً للرحمن وإما أن يكون عبداً للهوى والشـيطان، وجعل - جلت عَظَمَته - شرف هـذا الإنسان وزكـاته بعبـوديته للخالق الديان. ذلك مـا غرسه القـرآن في غوائر الأنفـس المطمئنة بالإيمان، كما جاء في قوله - تعالـى - على لسان أبي العابدين - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم -:{قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: ٢٦١] . «إنه التجرد الكامل لله - جلَّت عَظَمَته - بكل خالجة في القلب، وبكل حركة في الحياة، وبالصلاة والاعتكاف، وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه... إنها تسبيحة التوحيد المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده، لله {رب العالمين}... القِوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين... في (إسلام) كامل لا يسـتبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبِّـدها لله، ولا يحتجـز دونه شـيئاً في الضمير ولا في الواقع...»[1]، إنها العبـودية التـي من أجلهـا أُرسـلَت الرسل وأُنزلَت الكتـب، ولم يكـن لإبليس سلطان على أهلها، كما قال - تعالى -: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}[الحجر:42]، إنها عبودية يؤطرها المنهج الذي لا يكون المرء فيه عبداً إلا لله وحدَه، خاضعاً لوحيه ذليلاً لسلطانه باذلاً حياته لتحصيل مراضيه بأوفر طاعة وأكمل محبة وأتم إنابة، وأشد خشية، وأعمق خوف، وأعلق رجاء، وأكثر حمد، وأجزل شكر، وأجمل صبر، وأرجى دعاء، وأصدح استغاثة، وأندى استعانة، إنها لذة الصلة بالله، جلت عَظَمَته. وهذه هي المعاني التي تترجم المقصد الحقيقي للعبادة كما عرَّفها العلماء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)[2]، وهي التجسيد الفعلي للصلة بينهم وبين مألوههم الحق. يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «الإله هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وطاعة له، بمعنى مألوه؛ وهو الذي تألهه القلوب؛ أي: تحبـه وتذل له. وأصل التألُّه التعبد، والتعبد آخـر مراتب الحـب، يقال عبَّده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه؛ فالمحبة حقيقة العبودية»[3]. وذلك هو طابعها في المنهج الإسلامي الذي تتجلل فيه العبادات كلها بدثار العبودية. وليس الحج إلا إحدى تلك العبادات؛ بل من أزخرها بمعاني العبودية وحقائقها، فينبغي لمن أراده أن يقف مع ذاته لحظة تأمُّل تكون ثمرتها أن يجعل مرضاة خالقه أمله، وتوبته عليه مطلبه، فيسعى إلى تطهير نفسه من دنس الشرك وأدران الذنوب.
وفي هذا المقال سنحاول إماطة اللثام عن بعض معالم الحج بشكل مختصر:
عبودية التوحيد في الحج:
إن شعيرة الحج من أعظم الشعائر التي تقوي خشوع العبد لخالقه، وتحيي في قلبه توحيد المعبود - سبحانه - وذلك لأن أعمال الحج كلها مبنية على التوحيد، فيزاولها الحاج وهو يمارس التوحيد شعاراً وعملاً وتطبيقاً ومنهجاً، فيُقبِل على مشاعره بقلب موحد وعقل متفكر وجَنَان تائب... فإذا استقبل مكة المكرمة وواجه المشاعر المقدسة أدى شعائر الحج عبودية لله - تعالى - وحدَه إخلاصاً وتعظيماً، معتقداً أن سائر أعمال نُسُكه إنما هي وسائل لتجسيد عبوديته للخالق الديان. فشعيرة الحج جعلها الله - سبحانه وتعالى - ترجمة حية لكلمة «لا إِلَهَ إِلَّا الله»، فحين يدخل الحاج في نسكه يجلجل صوته بالتلبية لله - عز وجل - نافياً عنه الشريك، معلناً استحقاقه وحدَه للحمد على آلائه والشكر على نعمه: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»، فيظل يصدح بها والكون كله في تناغم معه. ثم لا يكاد يتوقف عن التلبية حتى يجد نفسه لاظّاً بأعظم الذكر، كما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الدعاء دعـاء يوم عـرفة، وخيـر مـا قلـت أنا والنبيـون مـن قبلـي: لا إلـه إلا اللـه وحـدَه لا شـريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[4]. هكذا يحث النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاج على تكرار كلمة التوحيد هذه لأجل أن يستشعر مدلولها ويعمل بمقتضاها؛ فيؤدي أعمال حجه خالصة لربه - عز وجل - خالية من جميع شوائب الشرك. يؤديها وهو متدثر في خبيئته ومظهره بالتسليم والانقياد لمولاه، جل في علاه. فتزكو نفسه ويستقيم سلوكه وتتحقق عبوديته، فلا يعود من رحلة حجه إلا وقد صفى قلبه، وطهُر مسلكه، وقويت عزيمته على الخير وصلُب عوده أمام محاشد الشر، ذلك هو الحج المبرور الخالص لله، عز وجل. وهو الذي تتراءى آثاره جلية في حياة المسلم، فيتزود من معينه الزلال بشحنة روحية عاطفية تهز كيانه المعنوي هزاً ينشأ من خلاله نشأة أخرى، فيولد من جديد، ويستقبل الحياة بروح مختلفة. وبهذا يستطعم لذة الحج بعدما يكتشف بنفسه أنه من أنجع العبادات في تزكية النفوس، وأبلغها في تحقيق مقتضيات الاسترقاق، وأمضاها في تجسيد معاني العبودية، وأشملها في تمحيض تعظيم شعائر الله - جلت عَظَمَته - بما يحمله من دلالات التوحيد الخالص، الذي هو لُبَاب الرسالات السماوية كلها، وهو عمود الإسلام وروحه وشعاره الذي لا ينفك عنه.
العبودية عنوان الحاج:
إن المشاعر المقدسـة تصدح كلهـا بإعـلان توحيـد الله - عز وجل - والاعتراف بفضله - سبحانه - في مجانبة منقطعة النظير لسبل الكفار ومناهج المشركين وغوايات الشياطين؛ بل إن الحاج وهو يلهج بالتلبية يستشعر قيمة العقيدة التي توحد قلوب العباد، ويرى بأم عينه جمال تجاوب الكون وتناسقه حين يعلن عبوديته لخالقه، فيتناغم جميعاً بأحيائه وجماداته. يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا»[5]. إنه التآلف الذي ينال الكون أجمعَه فتمتلئ له قلوب المسلمين محبة ومودة، تجسيداً لحميمية الوشيجة التي يؤصلها الإسلام في نفوس أبنائه؛ فحين يستبدل الحجاج بزيهم المحلِّي زي الحج الموحَّد، ويصبحون جميعاً بلباس واحد لا يتميز منهم أحد، بل قد لبسوا كلهم لباساً واحداً، في موقف واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويتجاهرون بتلبيـة واحدة، ويتلاهجـون بدعاء واحد، يطوفون حول بيت واحد، ويؤدون منسكاً واحداً، وقد ذابت في واقعهم كل الشعارات العُبِّيَّة والهتافات القومية، وتبرؤوا من كل آصرة عصبية، وأداروا ظهورهم لكل انتماء غير الانتماء للإسلام، ونكسوا كل الرايات إلا التي تحمل شعار «لا إله إلا الله محمد رسول الله». فعند ذلك تحيا ذكرى الأمة الواحدة المتعاونة المتناصرة، المتآلفة المتكاتفة ذات الجسد الواحد، كما جاء في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[6].
إن الحج تدريب حقيقي برمَّته، إنه مدرسة غير مزيَّفة، يدخل فيها المسلم فيتعلم احترام الآخرين، فلا يتعدى على أحد، ولا يظلم أحداً، ولا يبغي على أحد. إن أسـراب الحجيج تفد على اللـه - تعالـى - بخطـى طـائعـةٍ واسـتجابةٍ متسـارعةٍ وانقيـادٍ لا رجعة فيه، فلا تكاد تُكمِل نُسُكها حتى ترفل في حـدائق العبـودية، فتشهَد منافعَ وتتحقق وِفادَتها. وتستلهم ما شاء الله لها من إدراك معاني الحجِّ وحِكَمه وأسراره في أجواءِ النُسُك وربانية التنقُّل في عرصاتِ المشاعر المقدَّسة. وتستوعب حقيقة التكامُل والتهذيب وأصولِ التخليَة المفضِية إلى التحلية، المبلغة إلى درجة التوحيد الخالص المبنية على العبودية المطلقة التي تقود الخلق إلى بِرِّ الأمان لتقيهم من زوابع الشرك والطغيان، بتوحيد الخالق الديان في ألوهيته وربوبيته، وتعصمهم من الإلحاد في أسماء الله - تعالى - وصفاته؛ ذلك هو التوحيدٌ الذي يحصر تعلُّق العبيد ورجاءهم بالله - جل شأنه - فلا يكون خوفهم إلا منه، ولا تكون استعانتهم ولا استغاثتهم إلا به - جلت عَظَمَته - فتغمر قلوبَهم سعادة اليقين والإخلاص، فتشع في نفوسهم شحنة الإيمان وتزدان بريحان الإحسان، وتمتلئ جوانحهم تقىً وخشية، فيشدون مآزرهم عزماً على طاعة ربهم.
عبودية الاستعداد للرحيل إلى الدار الآخرة:
إن أعمال الحج في ذاتها تربط الحاج بالآخرة في كل مراحلها؛ فسفر الحاج عن وطنه ووداعه لأهله وأبنائه يذكِّره بالموت فيستحضر الرحيل عن هذه الدنيا الفانية وانتقاله إلى ذلك اليوم الموعود، وإنَّ تجرُّده من ملابسه ولُبْسَه ملابس إحرامه يذكِّره بخلع ملابسه عند موته وتكفينه في قطعة قماش هي كل ما يخرج به من دنياه، وليس مَنْعُه من ارتداء المخيط والتطيب وقص الشعر، وحظر كافة أنواع الترفه عليه بعد لبسه لإحرامه إلا تذكيراً له بواقع أمره وقت صيرورته إلى قبره، حين لا يكون له سـبيلٌ إلى التلـذذ بلـذة، ولا تكون له قوة على التمتع بمتعة، ولا اشتهاء شهوة، ولا نزعة له إلى التلهي بمُلْهٍ.
أما إذا وصل موكب الحاج إلى صعيد عرفات وتراءت له الآلاف المؤلفة من البشر، فإنه يتذكر وقوف الناس بين يدي الله - عز وجل - حفاة عراة غرلاً، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: «الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ»[7]. وليس بعيداً عن هذا ما ينبعث في نفس الحاج عند تزاحمه مع آلاف الطائفين والساعين والرامين؛ فكل هذه المشاعر تذكِّره بالمحشر يوم يجمع الله الأوَّلين والآخرين، بما تصوره من أهوال ذلك اليوم العصيب وآلامه ومتاعبه ومظاهر الضنك فيه، حين يتصبب العرق من الأجساد في الموقف الأعظم، كما جاء في حديث الْمِقْدَاد بْن الأَسْوَدِ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ فَوَ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ: أَمَسَافَةَ الأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِى تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟ قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِى الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حِقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَاماً». قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ»[8].
بهذه المعاني العظيمة تتحقق عبودية الحجاج ويزدادون تقرباً إلى الله - تعالى - ويتنافسون في الخيرات ويتسابقون إلى الطاعات ويستغلون لذلك سائر الأوقات، ويبتعدون عن كل قول أو فعل نادٍّ عن آداب الإِسلام والإيمان والإحسان، أومؤدٍّ إلى التنازع بين الرفقاء والأقران؛ ذلك أنهم أدركوا جميعاً خصوصية اجتماعهم على مائدة الرحمن، وعلموا أن أعلى القربات منزلة أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان؛ لتتفيأ أرواحهم نسائم أخوة الإيمان، فتمحى عنهم كل الخطايا والأدران، وينالون الدرجات العليا في الجنان، ويستجلُون بكل يقين علَّة خلق العباد، وويتذوقون بكل حواسهم قيمة العبادة، ولماذا جعلها الله - جلت عَظَمَته - مشروطة بالإخلاص والتوحيد.
عبودية التقوى في الحج:
إن شأن التقوى لعظيم؛ ذلك أنها زاد القلوب والأرواح، منها تقتات وبها تتقوى وفي نعيمها ترفل، وعليها تستند في وصولها إلى مبتغاها، وبها تتحصن وتنجو مما تخاف وترهب. فالتقوى لغةً مأخوذة من الوقاية وما يحمي به الإنسان نفسه. وتتمثل التقوى عملياً في أن يجعل العبد ما بينه وبين ما حرم الله حاجباً وحاجزاً؛ لذلك قرنها الله - سبحانه - بكل عمل يقوم به المسلم في حياته.
وعليه فإنه لا بد للحاج أن يكون منذ لحظته الأولى في الاستعداد للحج مقبلاً على الله - تعالى - قاصداً له، متجرداً من عاداته ونعيمـه، منسلخاً من مفاخره ومميزاته على غيره، مهيئاً نفسـه لعرصات يتسـاوى فيهـا الغني والفقير، ويتماثل فيها الصعلوك والأمير، قد لبس أهلها زيَّ الأموات واستسهلوا سكب العبرات واستطابوا طعم المناجاة، طلباً لتصفية نفوسهم، وتهذيب أخلاقهم، تلذذاً بحقيقة العبودية، واستدراراً للمنح الربانية، فحصَّلوا من السعادة ما لا يقـدَّر قدرُه، وإن كان لا يخفى أمره؛ فهـم أولو النهى الذين خاطبهم ربهم بقوله - سبحانه -: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: ٧٩١]. إنهم أَوْلَى من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بالذكرى؛ فهم ذوو العقول المدركة الواعية للإشارة إلى أن من لا يتقي الله ليس عنده لب يدرك به، ولا قلب يعي به، ولا إرادة تعمل على مقتضى العقل والحكمة؛ فأهل الألباب هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها.
يقول الأعشى :
إن ذلك الرب الواحد هو الله، جلَّت عَظَمَته، المألوه الذي تتوجه إليه القلوب بكل لاعجة في الضمير، وبكل حركة في الجوارح، وبكل شعور في الحياة، تتوجه إليه بكل إخلاص وإنابة وتجرد من أي تعلُّق آخر، ومن كل معنى غير التعبد له وحدَه. وقد غرز الله - تعالى - في فطرة الإنسان حاجة تجبره أن يكون عبداً؛ فإما أن يكون عبداً للرحمن وإما أن يكون عبداً للهوى والشـيطان، وجعل - جلت عَظَمَته - شرف هـذا الإنسان وزكـاته بعبـوديته للخالق الديان. ذلك مـا غرسه القـرآن في غوائر الأنفـس المطمئنة بالإيمان، كما جاء في قوله - تعالـى - على لسان أبي العابدين - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم -:{قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: ٢٦١] . «إنه التجرد الكامل لله - جلَّت عَظَمَته - بكل خالجة في القلب، وبكل حركة في الحياة، وبالصلاة والاعتكاف، وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه... إنها تسبيحة التوحيد المطلق، والعبودية الكاملة، تجمع الصلاة والاعتكاف والمحيا والممات، وتخلصها لله وحده، لله {رب العالمين}... القِوام المهيمن المتصرف المربي الموجه الحاكم للعالمين... في (إسلام) كامل لا يسـتبقي في النفس ولا في الحياة بقية لا يعبِّـدها لله، ولا يحتجـز دونه شـيئاً في الضمير ولا في الواقع...»[1]، إنها العبـودية التـي من أجلهـا أُرسـلَت الرسل وأُنزلَت الكتـب، ولم يكـن لإبليس سلطان على أهلها، كما قال - تعالى -: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}[الحجر:42]، إنها عبودية يؤطرها المنهج الذي لا يكون المرء فيه عبداً إلا لله وحدَه، خاضعاً لوحيه ذليلاً لسلطانه باذلاً حياته لتحصيل مراضيه بأوفر طاعة وأكمل محبة وأتم إنابة، وأشد خشية، وأعمق خوف، وأعلق رجاء، وأكثر حمد، وأجزل شكر، وأجمل صبر، وأرجى دعاء، وأصدح استغاثة، وأندى استعانة، إنها لذة الصلة بالله، جلت عَظَمَته. وهذه هي المعاني التي تترجم المقصد الحقيقي للعبادة كما عرَّفها العلماء. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)[2]، وهي التجسيد الفعلي للصلة بينهم وبين مألوههم الحق. يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «الإله هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وطاعة له، بمعنى مألوه؛ وهو الذي تألهه القلوب؛ أي: تحبـه وتذل له. وأصل التألُّه التعبد، والتعبد آخـر مراتب الحـب، يقال عبَّده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه؛ فالمحبة حقيقة العبودية»[3]. وذلك هو طابعها في المنهج الإسلامي الذي تتجلل فيه العبادات كلها بدثار العبودية. وليس الحج إلا إحدى تلك العبادات؛ بل من أزخرها بمعاني العبودية وحقائقها، فينبغي لمن أراده أن يقف مع ذاته لحظة تأمُّل تكون ثمرتها أن يجعل مرضاة خالقه أمله، وتوبته عليه مطلبه، فيسعى إلى تطهير نفسه من دنس الشرك وأدران الذنوب.
وفي هذا المقال سنحاول إماطة اللثام عن بعض معالم الحج بشكل مختصر:
عبودية التوحيد في الحج:
إن شعيرة الحج من أعظم الشعائر التي تقوي خشوع العبد لخالقه، وتحيي في قلبه توحيد المعبود - سبحانه - وذلك لأن أعمال الحج كلها مبنية على التوحيد، فيزاولها الحاج وهو يمارس التوحيد شعاراً وعملاً وتطبيقاً ومنهجاً، فيُقبِل على مشاعره بقلب موحد وعقل متفكر وجَنَان تائب... فإذا استقبل مكة المكرمة وواجه المشاعر المقدسة أدى شعائر الحج عبودية لله - تعالى - وحدَه إخلاصاً وتعظيماً، معتقداً أن سائر أعمال نُسُكه إنما هي وسائل لتجسيد عبوديته للخالق الديان. فشعيرة الحج جعلها الله - سبحانه وتعالى - ترجمة حية لكلمة «لا إِلَهَ إِلَّا الله»، فحين يدخل الحاج في نسكه يجلجل صوته بالتلبية لله - عز وجل - نافياً عنه الشريك، معلناً استحقاقه وحدَه للحمد على آلائه والشكر على نعمه: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»، فيظل يصدح بها والكون كله في تناغم معه. ثم لا يكاد يتوقف عن التلبية حتى يجد نفسه لاظّاً بأعظم الذكر، كما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الدعاء دعـاء يوم عـرفة، وخيـر مـا قلـت أنا والنبيـون مـن قبلـي: لا إلـه إلا اللـه وحـدَه لا شـريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[4]. هكذا يحث النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاج على تكرار كلمة التوحيد هذه لأجل أن يستشعر مدلولها ويعمل بمقتضاها؛ فيؤدي أعمال حجه خالصة لربه - عز وجل - خالية من جميع شوائب الشرك. يؤديها وهو متدثر في خبيئته ومظهره بالتسليم والانقياد لمولاه، جل في علاه. فتزكو نفسه ويستقيم سلوكه وتتحقق عبوديته، فلا يعود من رحلة حجه إلا وقد صفى قلبه، وطهُر مسلكه، وقويت عزيمته على الخير وصلُب عوده أمام محاشد الشر، ذلك هو الحج المبرور الخالص لله، عز وجل. وهو الذي تتراءى آثاره جلية في حياة المسلم، فيتزود من معينه الزلال بشحنة روحية عاطفية تهز كيانه المعنوي هزاً ينشأ من خلاله نشأة أخرى، فيولد من جديد، ويستقبل الحياة بروح مختلفة. وبهذا يستطعم لذة الحج بعدما يكتشف بنفسه أنه من أنجع العبادات في تزكية النفوس، وأبلغها في تحقيق مقتضيات الاسترقاق، وأمضاها في تجسيد معاني العبودية، وأشملها في تمحيض تعظيم شعائر الله - جلت عَظَمَته - بما يحمله من دلالات التوحيد الخالص، الذي هو لُبَاب الرسالات السماوية كلها، وهو عمود الإسلام وروحه وشعاره الذي لا ينفك عنه.
العبودية عنوان الحاج:
إن المشاعر المقدسـة تصدح كلهـا بإعـلان توحيـد الله - عز وجل - والاعتراف بفضله - سبحانه - في مجانبة منقطعة النظير لسبل الكفار ومناهج المشركين وغوايات الشياطين؛ بل إن الحاج وهو يلهج بالتلبية يستشعر قيمة العقيدة التي توحد قلوب العباد، ويرى بأم عينه جمال تجاوب الكون وتناسقه حين يعلن عبوديته لخالقه، فيتناغم جميعاً بأحيائه وجماداته. يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا»[5]. إنه التآلف الذي ينال الكون أجمعَه فتمتلئ له قلوب المسلمين محبة ومودة، تجسيداً لحميمية الوشيجة التي يؤصلها الإسلام في نفوس أبنائه؛ فحين يستبدل الحجاج بزيهم المحلِّي زي الحج الموحَّد، ويصبحون جميعاً بلباس واحد لا يتميز منهم أحد، بل قد لبسوا كلهم لباساً واحداً، في موقف واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويتجاهرون بتلبيـة واحدة، ويتلاهجـون بدعاء واحد، يطوفون حول بيت واحد، ويؤدون منسكاً واحداً، وقد ذابت في واقعهم كل الشعارات العُبِّيَّة والهتافات القومية، وتبرؤوا من كل آصرة عصبية، وأداروا ظهورهم لكل انتماء غير الانتماء للإسلام، ونكسوا كل الرايات إلا التي تحمل شعار «لا إله إلا الله محمد رسول الله». فعند ذلك تحيا ذكرى الأمة الواحدة المتعاونة المتناصرة، المتآلفة المتكاتفة ذات الجسد الواحد، كما جاء في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[6].
إن الحج تدريب حقيقي برمَّته، إنه مدرسة غير مزيَّفة، يدخل فيها المسلم فيتعلم احترام الآخرين، فلا يتعدى على أحد، ولا يظلم أحداً، ولا يبغي على أحد. إن أسـراب الحجيج تفد على اللـه - تعالـى - بخطـى طـائعـةٍ واسـتجابةٍ متسـارعةٍ وانقيـادٍ لا رجعة فيه، فلا تكاد تُكمِل نُسُكها حتى ترفل في حـدائق العبـودية، فتشهَد منافعَ وتتحقق وِفادَتها. وتستلهم ما شاء الله لها من إدراك معاني الحجِّ وحِكَمه وأسراره في أجواءِ النُسُك وربانية التنقُّل في عرصاتِ المشاعر المقدَّسة. وتستوعب حقيقة التكامُل والتهذيب وأصولِ التخليَة المفضِية إلى التحلية، المبلغة إلى درجة التوحيد الخالص المبنية على العبودية المطلقة التي تقود الخلق إلى بِرِّ الأمان لتقيهم من زوابع الشرك والطغيان، بتوحيد الخالق الديان في ألوهيته وربوبيته، وتعصمهم من الإلحاد في أسماء الله - تعالى - وصفاته؛ ذلك هو التوحيدٌ الذي يحصر تعلُّق العبيد ورجاءهم بالله - جل شأنه - فلا يكون خوفهم إلا منه، ولا تكون استعانتهم ولا استغاثتهم إلا به - جلت عَظَمَته - فتغمر قلوبَهم سعادة اليقين والإخلاص، فتشع في نفوسهم شحنة الإيمان وتزدان بريحان الإحسان، وتمتلئ جوانحهم تقىً وخشية، فيشدون مآزرهم عزماً على طاعة ربهم.
عبودية الاستعداد للرحيل إلى الدار الآخرة:
إن أعمال الحج في ذاتها تربط الحاج بالآخرة في كل مراحلها؛ فسفر الحاج عن وطنه ووداعه لأهله وأبنائه يذكِّره بالموت فيستحضر الرحيل عن هذه الدنيا الفانية وانتقاله إلى ذلك اليوم الموعود، وإنَّ تجرُّده من ملابسه ولُبْسَه ملابس إحرامه يذكِّره بخلع ملابسه عند موته وتكفينه في قطعة قماش هي كل ما يخرج به من دنياه، وليس مَنْعُه من ارتداء المخيط والتطيب وقص الشعر، وحظر كافة أنواع الترفه عليه بعد لبسه لإحرامه إلا تذكيراً له بواقع أمره وقت صيرورته إلى قبره، حين لا يكون له سـبيلٌ إلى التلـذذ بلـذة، ولا تكون له قوة على التمتع بمتعة، ولا اشتهاء شهوة، ولا نزعة له إلى التلهي بمُلْهٍ.
أما إذا وصل موكب الحاج إلى صعيد عرفات وتراءت له الآلاف المؤلفة من البشر، فإنه يتذكر وقوف الناس بين يدي الله - عز وجل - حفاة عراة غرلاً، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: «الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ»[7]. وليس بعيداً عن هذا ما ينبعث في نفس الحاج عند تزاحمه مع آلاف الطائفين والساعين والرامين؛ فكل هذه المشاعر تذكِّره بالمحشر يوم يجمع الله الأوَّلين والآخرين، بما تصوره من أهوال ذلك اليوم العصيب وآلامه ومتاعبه ومظاهر الضنك فيه، حين يتصبب العرق من الأجساد في الموقف الأعظم، كما جاء في حديث الْمِقْدَاد بْن الأَسْوَدِ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ فَوَ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ: أَمَسَافَةَ الأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِى تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟ قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِى الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حِقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَاماً». قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ»[8].
بهذه المعاني العظيمة تتحقق عبودية الحجاج ويزدادون تقرباً إلى الله - تعالى - ويتنافسون في الخيرات ويتسابقون إلى الطاعات ويستغلون لذلك سائر الأوقات، ويبتعدون عن كل قول أو فعل نادٍّ عن آداب الإِسلام والإيمان والإحسان، أومؤدٍّ إلى التنازع بين الرفقاء والأقران؛ ذلك أنهم أدركوا جميعاً خصوصية اجتماعهم على مائدة الرحمن، وعلموا أن أعلى القربات منزلة أن يتعاونوا على البر والتقوى لا على الإِثم والعدوان؛ لتتفيأ أرواحهم نسائم أخوة الإيمان، فتمحى عنهم كل الخطايا والأدران، وينالون الدرجات العليا في الجنان، ويستجلُون بكل يقين علَّة خلق العباد، وويتذوقون بكل حواسهم قيمة العبادة، ولماذا جعلها الله - جلت عَظَمَته - مشروطة بالإخلاص والتوحيد.
عبودية التقوى في الحج:
إن شأن التقوى لعظيم؛ ذلك أنها زاد القلوب والأرواح، منها تقتات وبها تتقوى وفي نعيمها ترفل، وعليها تستند في وصولها إلى مبتغاها، وبها تتحصن وتنجو مما تخاف وترهب. فالتقوى لغةً مأخوذة من الوقاية وما يحمي به الإنسان نفسه. وتتمثل التقوى عملياً في أن يجعل العبد ما بينه وبين ما حرم الله حاجباً وحاجزاً؛ لذلك قرنها الله - سبحانه - بكل عمل يقوم به المسلم في حياته.
وعليه فإنه لا بد للحاج أن يكون منذ لحظته الأولى في الاستعداد للحج مقبلاً على الله - تعالى - قاصداً له، متجرداً من عاداته ونعيمـه، منسلخاً من مفاخره ومميزاته على غيره، مهيئاً نفسـه لعرصات يتسـاوى فيهـا الغني والفقير، ويتماثل فيها الصعلوك والأمير، قد لبس أهلها زيَّ الأموات واستسهلوا سكب العبرات واستطابوا طعم المناجاة، طلباً لتصفية نفوسهم، وتهذيب أخلاقهم، تلذذاً بحقيقة العبودية، واستدراراً للمنح الربانية، فحصَّلوا من السعادة ما لا يقـدَّر قدرُه، وإن كان لا يخفى أمره؛ فهـم أولو النهى الذين خاطبهم ربهم بقوله - سبحانه -: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: ٧٩١]. إنهم أَوْلَى من يدرك التوجيه إلى التقوى، وخير من ينتفع بالذكرى؛ فهم ذوو العقول المدركة الواعية للإشارة إلى أن من لا يتقي الله ليس عنده لب يدرك به، ولا قلب يعي به، ولا إرادة تعمل على مقتضى العقل والحكمة؛ فأهل الألباب هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها.
يقول الأعشى :
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا[9]
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا[9]
إن تقوى الله - تعالى - تولِّد خشيته في الضمير، وتستجيش في النفس التحرج وتحرك فيها الحساسية الشديدة، فتقودها إلى تطبيق الأوامر في حضور، وتحرسها عن النواهي في انتباه، إن طبيعة هذا الدين مبناها على ترابط أجزائه؛ فلا تنفصل فيه الشعائر التعبدية عن المشاعر القلبية ولا التشريعات التنظيمية، بل لا يستقيم إلا بشموله أمور الدنيا وأمور الآخرة، وشؤون القلوب؛ فلا بد أن يشرف على الحياة كلها، فيصرِّفها وَفْقَ تصور واحد متكامل، ومنهج واحد متناسق، ونظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشؤون[10].
إن شعيرة الحج من أعظم الشعائر التي تحيي في قلب المؤمن توحيد المعبود - سبحانه وتعالى - لكثرة ما تجمعه من الأعمال التي تأخذ بمجامع الحاج إلى رياض ربه موحداً متفكراً تائباً منيباً.
وعلى راسيات من التقوى جاءت أسرار الحج عظيمة، ومقاصده كريمة، وغاياته جسيمة لا تتحقق إلا بامتلاء القلب عبودية وإجلالاً لله - تعالى - وتجرداً له. يقول الله - سبحانه -: {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: ٧٩١]، ويعلق الشيخ السعدي على هذه الآية قائلاً: «والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات؛ فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[11]. إن في الحج ألواناً من ثمار الطاعات تصعد بالنفس المؤمنة إلى المراتب العالية، فتراقب الله - تعالى - في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء، كأنها تعيش عين اليقين، في أعلى مقامات الإحسان، كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرَّف الإحسان قائلاً: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[12]، وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة، فإنها تفعل الطاعات كلها، وتنتهي عن المعاصي كلها، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء. وبذلك يكون للحج أوضح الأثر في حياة المسلمين أفراداً وجماعات، كما قال - عز وجل -: {ليشهدوا منافع لهم}، إنه تعليل قرآني يفتح باباً رحباً للتأمل في هذه المنافع المشهودة التي يكتسبها الحاج من هذه الرحلة الميمونة.
ولتتجلَّى قيمة التقوى أكثر ويتضحَ عظيم أثرِها بشكل أعمق، جعلها الله - تعالى - الميزان الذي توزَن به الأعمال ويوزن به الناس؛ ولذا كثُرت الوصية بها في آيات الحج؛ فقد قال - سبحانه -: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: ٦٩١] ، وقال أيضاً: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: ٧٩١]، وقال - سبحانه -: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِـمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: ٣٠٢]، وقال أيضاً: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٢٣]، وقال - سبحانه -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: ٧٣]. إنها التقوى التي هي جماعُ الخير كلِّه، والتي هي خَلَف من كل شيء ولا شيء يخلفها.
ولنا أن نعلم أن العبد إذا عبد الله على نورٍ من الله يرجو ثوابَ الله، وتركَ محارمَ الله على نورٍ من الله يخشى عقابَ الله، فقد حقَّق التقوى بحذافيرها في واقعِ حياته، وتسنَّى له بذلك أن يقوم بالواجبات المنوطَةِ به تجاهَ خالقه وتجاه المخلوقين.
وكل مناسك الحجِّ دالَّة على هذا المقصد، وتتجسَّد فيها معاني العبودية والتوحيد والتقوى.
عبودية الاستسلام:
لله - تعالى - العبودية وحدَه، فهو اَلْمَعْبُود في كُلِّ زَمَانٍ ومكان، وهو المعبود بكل حركات الأركان ونبضات الجنان؛ وذلك ما يجسده الحج بما فيه من مظاهر الذل وتجليات الخضوع والعبودية لله - جل شأنه - فالحجيج وهم يلبون، والحجيج وهم لاظُّون بالدعاء لاهجون بالذكر، طائفون بالبيت العتيق، مقبِّلون للحجر الأسود، رامون للجمار... يتجلى خضوعهم لله - سبحانه وتعالى - في أعلى مستوياته، ويتبين انقيادهم لأمره جلَّت عَظَمَته في أبهى صوره؛ فهم مستسلمون لشرعه بكل طمأنينة قلب وانشراح صدر ومتابعة فعل، أدركوا الحكمة أو لم يدركوها، كما قال الفاروق عمر - رضي الله عنه - عند تقبيله للحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك»[13].
ذلك أنهم استوعبوا غايات الحج ومراميه وعلموا أن إيمانهم لا يتحقق وحجهم لا يُقبَل إلا بالتسليم الكامل لحكم الله - سبحانه وتعالى - وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الراحة النفسية لذلك الحكم والرضى القلبي به وإسلام الجنان له باطمئنان. قال - تعالى -: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٥٦]، إنهم علموا يقيناً أنهم لا يدخلون في الإيمان؛ ولا يُحسبُون مؤمنين حتى يحكِّموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياتهم في مناسكهم في أقضيتهم... إلخ ثم يطيعوا حكمه، وينفذوا قضاءه ويسلكوا منهجه ويتبعوا سننه. لقد قادهم يقينهم ذلك إلى جعل الحج ميداناً للطاعة يتنافس فيه المتنافسون ويشمر فيه العاملون، متأسين بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - مطبقين لأمره؛ كما قال جابر - رضي الله عنه -: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه»)[14].
إنه التسليم والتأسي والخضوع لأمر هذا النبي الأسوة - صلى الله عليه وسلم -، خير من اتصف بالعبودية والاستسلام لله، عز وجل.
إن الحج باشتماله على كل أصناف العبادات القلبية؛ {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ} [البقرة: ٧٩١]، والبدنية؛ {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٦٢ - ٠٣]، والمالية؛ {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ٦٩١] ، إن الحج باشتماله على تلك الطاعات كلها يكون تجسيداً عملياً للعبادة بمعناها الحقيقي وواقعها الفعلي، كما أشيرَ إلى ذلك في مقدمة هذا المقال؛ حيث يقول ابن تيمية معرفاً العبادة بأنها: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضى بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله)[15].
وذلك أن عبادة الله - سبحانه - هي الغاية المحبوبة لديه والعمل المرضي عنده، والغاية التي من أجلها خلق الخلق، كما قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٦٥].
والحج بما يشتمل عليه من الخضوع والاتباع والصلاة والذبح والنحر والدعاء والطواف، والطاعات في شتى صورها وأشكالها تتحقق فيه غاية الخلق ويتجسد فيه مقصد الحق.
فيا أخي الحاج قف مع نفسك وفتش عن تلك العبوديات الظاهرة والخفية في الحج. وحاول أن تكون من أهل عبودية الطاعة والمحبة، التي ذكر الله - تعالى - منَّته بها على أنبيائه، عليهم من ربهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
التفرغ والدعاء:
في أيام الحج ينبغي للحاج أن يتفرغ للدعاء والذكر والعبادة بمختلف أصنافها، بعيداً عن الانشغال مع الناس بالكلام والأحاديث التي قلَّما خلت من إثم، بل يلزمه استغلال كل فرصة سنحت له للتفرغ للذكر والدعاء وقراءة القرآن، وعليه أن يستيقن أن المشاعر مكان دعاء، وأن أيام الحج زمان دعاء، فينبغي لكل قدوة كالعلماء ونحوهم أن يُرُوا الناس الاجتهاد في الدعاء، والإلحاح في المسألة والضراعة والاستكانة لله جلَّت عَظَمَته بكاءً وخشوعاً، مستمرئين سؤال الله - عز وجل - مستطيبين الثناء عليه - سبحانه - بما هو أهله، شاكرين نعمه - عز وجل - عليهم أن بلغهم هذا المبلغ وأراد بهم الخير؛ فحري بهم أن يشكروا آلاءه عليهم؛ فيجتهدوا في مسألته والضراعة إليه - سبحانه وتعالى - وجَمْعِ القلوب على محبته والإخلاص له والتوكل عليه ورجائه والخوف منه، وبذل الوسع لتوثيق عرى الصلة بين القلوب والجوارح على تعظيمه والافتقار والتوبة والإنابة إليه. يقول ابن القيم: (ومن المعلوم أن هذا هو مقصود الرب - تعالى - بإرساله رسله وإنزاله كتبه وشرعِه شرائعه؛ فدعوى المدعي أن المقصود من هذه العبودية حاصل وإن لم يصحبها عبودية القلب مِنْ أبطل الدعاوي وأفسدها، والله الموفق، ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميِّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما، وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه، وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم؛ فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان؛ فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح)[16].
فلا بد أن يعلم الحاج أن الحج من أعظم مواسم المسألة والدعاء، كما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»[17].
وأفضل ما دُعي به - سبحانه - وأثني عليه به توحيده والإكثار من قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، كما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[18]. فالمقصود أن يفهم الحاج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبَّه بهذا الحديث على أن موسم الحج يحتضن أفضل الأيام وأربح سوق للدعاء، إنه يوم عرفة، فإنه يوم عظيم، وفيه خير عظيم، وكما جاء في حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما رُئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام»[19]. وكما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟»[20]. وقد ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعد زواله حتى غروب شمسه مستقبلاً القبلة يدعو ربه، عزوجل[21]؛ فادع الله - أيها الحاج الكريم - بما شئت ولا سيما في آخر يوم عرفة وعند المشعر الحرام. وتفرغ للدعاء والذكر، ولو أن تكرر (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، واجتهد - يا رعاك الله - في مواقف الحج كلها ذاكراً الله - سبحانه - داعياً إياه متضرعاً إليه، وإن جمعت بين التلبية والدعاء وقراءة القرآن فحسن، وحريٌّ بك أن تعلم فقرك وحاجتك إلى ربك، وتنتهز هذه الفرصة بالدعاء لنفسك والمسلمين بالهداية والثبات على هذا الدين. ولك أن تنظر إلى حكمة الشارع الحكيم بتقديم الصلاة عن وقتها في جمع التقديم يوم عرفة وتعجيلها فجر مزدلفة من أجل التفرغ للدعاء والمسألة؛ فيدعـوك ذلك إلى حفـظ هذا الوقت، والاجتهـاد في سؤال الله - عز وجل - من فضله العظيم، وقد كره بعض العلماء النوم في هذين الوقتين لما رأوا فيه من الاستخفاف بعَظَمَتهما.
فاحرص على نفع نفسك.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] في ظلال القرآن (3182).
[2] ابن تيمية الفتاوى الكبرى (1545).
[3] مدارج السالكين (3/ 26).
[4] سنن الترمذي: كتاب الدعوات باب: في دعاء يوم عرفة ح (3585)، وحسنه الألباني في تعليقه عليه.
[5] سنن ابن ماجه: من حديث سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه، كتاب المناسك، باب: التلبية ح(2921)، وصححه الألباني في تعليقه عليه.
[6] البخاري: كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم ح(6011)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ح(2586)، واللفظ لمسلم.
[7] البخاري: كتاب الرقاق، باب: كيف الحشر؟ ح(6527)، ومسلم: كتاب الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2859).
[8] مسلم: كتاب الجنة، باب: في صفة يوم القيامة، أعاننا الله على أهوالها ح(2864).
[9] السحر الحلال في الحكم والأمثال للهاشمي، ص: 41 ط: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
[10] انظر: الظلال لسيد قطب، (1671).
[11] تيسير الكريم الرحمن، ص: 91
[12] البخاري: كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ح(50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله، سبحانه وتعالى ح(8)
[13] أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود ح(1597)، ومسلم: كتاب الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف ح(1270).
[14] أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخذوا مناسككم» ح(1297).
[15] ابن تيمية: الفتاوى الكبرى (5154).
[16] ابن القيم: بدائع الفوائد (3230).
[17] أخرجه ابن ماجه: كتاب الحج، باب: فضل دعاء الحاج ح(2893)، وقال الشيخ الألباني في تعليقه عليه: (حسن).
[18] أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة ح(3585)، وقال الشيخ الألباني في تعليقه عليه: (حسن).
[19] موطأ الإمام مالك (1422).
[20] أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ح(436).
[21] انظر: مسند الإمام أحمد (21870)، وصحيح ابن خزيمة (2824)، وسنن النسائي (3011).
إن شعيرة الحج من أعظم الشعائر التي تحيي في قلب المؤمن توحيد المعبود - سبحانه وتعالى - لكثرة ما تجمعه من الأعمال التي تأخذ بمجامع الحاج إلى رياض ربه موحداً متفكراً تائباً منيباً.
وعلى راسيات من التقوى جاءت أسرار الحج عظيمة، ومقاصده كريمة، وغاياته جسيمة لا تتحقق إلا بامتلاء القلب عبودية وإجلالاً لله - تعالى - وتجرداً له. يقول الله - سبحانه -: {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: ٧٩١]، ويعلق الشيخ السعدي على هذه الآية قائلاً: «والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات؛ فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة»[11]. إن في الحج ألواناً من ثمار الطاعات تصعد بالنفس المؤمنة إلى المراتب العالية، فتراقب الله - تعالى - في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء، كأنها تعيش عين اليقين، في أعلى مقامات الإحسان، كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرَّف الإحسان قائلاً: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[12]، وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة، فإنها تفعل الطاعات كلها، وتنتهي عن المعاصي كلها، وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة، وفي السر والعلن على السواء. وبذلك يكون للحج أوضح الأثر في حياة المسلمين أفراداً وجماعات، كما قال - عز وجل -: {ليشهدوا منافع لهم}، إنه تعليل قرآني يفتح باباً رحباً للتأمل في هذه المنافع المشهودة التي يكتسبها الحاج من هذه الرحلة الميمونة.
ولتتجلَّى قيمة التقوى أكثر ويتضحَ عظيم أثرِها بشكل أعمق، جعلها الله - تعالى - الميزان الذي توزَن به الأعمال ويوزن به الناس؛ ولذا كثُرت الوصية بها في آيات الحج؛ فقد قال - سبحانه -: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: ٦٩١] ، وقال أيضاً: {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: ٧٩١]، وقال - سبحانه -: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِـمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: ٣٠٢]، وقال أيضاً: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٢٣]، وقال - سبحانه -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: ٧٣]. إنها التقوى التي هي جماعُ الخير كلِّه، والتي هي خَلَف من كل شيء ولا شيء يخلفها.
ولنا أن نعلم أن العبد إذا عبد الله على نورٍ من الله يرجو ثوابَ الله، وتركَ محارمَ الله على نورٍ من الله يخشى عقابَ الله، فقد حقَّق التقوى بحذافيرها في واقعِ حياته، وتسنَّى له بذلك أن يقوم بالواجبات المنوطَةِ به تجاهَ خالقه وتجاه المخلوقين.
وكل مناسك الحجِّ دالَّة على هذا المقصد، وتتجسَّد فيها معاني العبودية والتوحيد والتقوى.
عبودية الاستسلام:
لله - تعالى - العبودية وحدَه، فهو اَلْمَعْبُود في كُلِّ زَمَانٍ ومكان، وهو المعبود بكل حركات الأركان ونبضات الجنان؛ وذلك ما يجسده الحج بما فيه من مظاهر الذل وتجليات الخضوع والعبودية لله - جل شأنه - فالحجيج وهم يلبون، والحجيج وهم لاظُّون بالدعاء لاهجون بالذكر، طائفون بالبيت العتيق، مقبِّلون للحجر الأسود، رامون للجمار... يتجلى خضوعهم لله - سبحانه وتعالى - في أعلى مستوياته، ويتبين انقيادهم لأمره جلَّت عَظَمَته في أبهى صوره؛ فهم مستسلمون لشرعه بكل طمأنينة قلب وانشراح صدر ومتابعة فعل، أدركوا الحكمة أو لم يدركوها، كما قال الفاروق عمر - رضي الله عنه - عند تقبيله للحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك»[13].
ذلك أنهم استوعبوا غايات الحج ومراميه وعلموا أن إيمانهم لا يتحقق وحجهم لا يُقبَل إلا بالتسليم الكامل لحكم الله - سبحانه وتعالى - وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الراحة النفسية لذلك الحكم والرضى القلبي به وإسلام الجنان له باطمئنان. قال - تعالى -: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٥٦]، إنهم علموا يقيناً أنهم لا يدخلون في الإيمان؛ ولا يُحسبُون مؤمنين حتى يحكِّموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياتهم في مناسكهم في أقضيتهم... إلخ ثم يطيعوا حكمه، وينفذوا قضاءه ويسلكوا منهجه ويتبعوا سننه. لقد قادهم يقينهم ذلك إلى جعل الحج ميداناً للطاعة يتنافس فيه المتنافسون ويشمر فيه العاملون، متأسين بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - مطبقين لأمره؛ كما قال جابر - رضي الله عنه -: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه»)[14].
إنه التسليم والتأسي والخضوع لأمر هذا النبي الأسوة - صلى الله عليه وسلم -، خير من اتصف بالعبودية والاستسلام لله، عز وجل.
إن الحج باشتماله على كل أصناف العبادات القلبية؛ {الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ} [البقرة: ٧٩١]، والبدنية؛ {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٦٢ - ٠٣]، والمالية؛ {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ٦٩١] ، إن الحج باشتماله على تلك الطاعات كلها يكون تجسيداً عملياً للعبادة بمعناها الحقيقي وواقعها الفعلي، كما أشيرَ إلى ذلك في مقدمة هذا المقال؛ حيث يقول ابن تيمية معرفاً العبادة بأنها: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضى بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله)[15].
وذلك أن عبادة الله - سبحانه - هي الغاية المحبوبة لديه والعمل المرضي عنده، والغاية التي من أجلها خلق الخلق، كما قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٦٥].
والحج بما يشتمل عليه من الخضوع والاتباع والصلاة والذبح والنحر والدعاء والطواف، والطاعات في شتى صورها وأشكالها تتحقق فيه غاية الخلق ويتجسد فيه مقصد الحق.
فيا أخي الحاج قف مع نفسك وفتش عن تلك العبوديات الظاهرة والخفية في الحج. وحاول أن تكون من أهل عبودية الطاعة والمحبة، التي ذكر الله - تعالى - منَّته بها على أنبيائه، عليهم من ربهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
التفرغ والدعاء:
في أيام الحج ينبغي للحاج أن يتفرغ للدعاء والذكر والعبادة بمختلف أصنافها، بعيداً عن الانشغال مع الناس بالكلام والأحاديث التي قلَّما خلت من إثم، بل يلزمه استغلال كل فرصة سنحت له للتفرغ للذكر والدعاء وقراءة القرآن، وعليه أن يستيقن أن المشاعر مكان دعاء، وأن أيام الحج زمان دعاء، فينبغي لكل قدوة كالعلماء ونحوهم أن يُرُوا الناس الاجتهاد في الدعاء، والإلحاح في المسألة والضراعة والاستكانة لله جلَّت عَظَمَته بكاءً وخشوعاً، مستمرئين سؤال الله - عز وجل - مستطيبين الثناء عليه - سبحانه - بما هو أهله، شاكرين نعمه - عز وجل - عليهم أن بلغهم هذا المبلغ وأراد بهم الخير؛ فحري بهم أن يشكروا آلاءه عليهم؛ فيجتهدوا في مسألته والضراعة إليه - سبحانه وتعالى - وجَمْعِ القلوب على محبته والإخلاص له والتوكل عليه ورجائه والخوف منه، وبذل الوسع لتوثيق عرى الصلة بين القلوب والجوارح على تعظيمه والافتقار والتوبة والإنابة إليه. يقول ابن القيم: (ومن المعلوم أن هذا هو مقصود الرب - تعالى - بإرساله رسله وإنزاله كتبه وشرعِه شرائعه؛ فدعوى المدعي أن المقصود من هذه العبودية حاصل وإن لم يصحبها عبودية القلب مِنْ أبطل الدعاوي وأفسدها، والله الموفق، ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميِّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما، وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه، وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم؛ فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان؛ فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح)[16].
فلا بد أن يعلم الحاج أن الحج من أعظم مواسم المسألة والدعاء، كما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»[17].
وأفضل ما دُعي به - سبحانه - وأثني عليه به توحيده والإكثار من قول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، كما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»[18]. فالمقصود أن يفهم الحاج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبَّه بهذا الحديث على أن موسم الحج يحتضن أفضل الأيام وأربح سوق للدعاء، إنه يوم عرفة، فإنه يوم عظيم، وفيه خير عظيم، وكما جاء في حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما رُئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام»[19]. وكما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟»[20]. وقد ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعد زواله حتى غروب شمسه مستقبلاً القبلة يدعو ربه، عزوجل[21]؛ فادع الله - أيها الحاج الكريم - بما شئت ولا سيما في آخر يوم عرفة وعند المشعر الحرام. وتفرغ للدعاء والذكر، ولو أن تكرر (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، واجتهد - يا رعاك الله - في مواقف الحج كلها ذاكراً الله - سبحانه - داعياً إياه متضرعاً إليه، وإن جمعت بين التلبية والدعاء وقراءة القرآن فحسن، وحريٌّ بك أن تعلم فقرك وحاجتك إلى ربك، وتنتهز هذه الفرصة بالدعاء لنفسك والمسلمين بالهداية والثبات على هذا الدين. ولك أن تنظر إلى حكمة الشارع الحكيم بتقديم الصلاة عن وقتها في جمع التقديم يوم عرفة وتعجيلها فجر مزدلفة من أجل التفرغ للدعاء والمسألة؛ فيدعـوك ذلك إلى حفـظ هذا الوقت، والاجتهـاد في سؤال الله - عز وجل - من فضله العظيم، وقد كره بعض العلماء النوم في هذين الوقتين لما رأوا فيه من الاستخفاف بعَظَمَتهما.
فاحرص على نفع نفسك.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] في ظلال القرآن (3182).
[2] ابن تيمية الفتاوى الكبرى (1545).
[3] مدارج السالكين (3/ 26).
[4] سنن الترمذي: كتاب الدعوات باب: في دعاء يوم عرفة ح (3585)، وحسنه الألباني في تعليقه عليه.
[5] سنن ابن ماجه: من حديث سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه، كتاب المناسك، باب: التلبية ح(2921)، وصححه الألباني في تعليقه عليه.
[6] البخاري: كتاب الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم ح(6011)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ح(2586)، واللفظ لمسلم.
[7] البخاري: كتاب الرقاق، باب: كيف الحشر؟ ح(6527)، ومسلم: كتاب الجنة، باب: النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2859).
[8] مسلم: كتاب الجنة، باب: في صفة يوم القيامة، أعاننا الله على أهوالها ح(2864).
[9] السحر الحلال في الحكم والأمثال للهاشمي، ص: 41 ط: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
[10] انظر: الظلال لسيد قطب، (1671).
[11] تيسير الكريم الرحمن، ص: 91
[12] البخاري: كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة ح(50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله، سبحانه وتعالى ح(8)
[13] أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود ح(1597)، ومسلم: كتاب الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف ح(1270).
[14] أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لتأخذوا مناسككم» ح(1297).
[15] ابن تيمية: الفتاوى الكبرى (5154).
[16] ابن القيم: بدائع الفوائد (3230).
[17] أخرجه ابن ماجه: كتاب الحج، باب: فضل دعاء الحاج ح(2893)، وقال الشيخ الألباني في تعليقه عليه: (حسن).
[18] أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات، باب: في دعاء يوم عرفة ح(3585)، وقال الشيخ الألباني في تعليقه عليه: (حسن).
[19] موطأ الإمام مالك (1422).
[20] أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ح(436).
[21] انظر: مسند الإمام أحمد (21870)، وصحيح ابن خزيمة (2824)، وسنن النسائي (3011).
____________________________________________
الكاتب: أحمد ذو النورين
الكاتب: أحمد ذو النورين
- التصنيف: