في بيتنا مسجد
رائع جدًّا أن يجتهد الصحابي في تهيئة أفضل ظروف تساعده على صلاة خاشعة! ورائع جدًّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاوب معه مع انشغالاته الكثيرة! ورائع جدًّا أنه أخذ أبا بكر رضي الله عنه ليشهد "افتتاح" المسجد الداخلي! ورائع جدًّا أن يُصَلُّوا جماعة في هذا المسجد "البيتي" حتى يأخذ عتبان بن مالك رضي الله عنه شعور المسجد الجامع في هذا المسجد الصغير!
تجربة فسيولوجية [1] كنا نقوم بها في أثناء السنوات الأولى من دراستنا للطب..
عند إحضار الطعام إلى كلب نجد أن إفراز الغدد اللعابية يزيد، وهذا يحدث -أيضًا- مع الإنسان؛ حيث "يسيل" لعابه عند شمِّ الروائح الذكية للطعام، فكانت التجربة تقضي بإحضار الطعام إلى الكلب عدَّة أيام، وملاحظة إفراز هذه الغدد اللعابية، ثم بدأنا في الأيام التالية ندقُّ جرسًا عند إحضار الطعام للكلب، وواظبنا على ذلك عدَّة أيام! وبعد ذلك اكتفينا بدقِّ الجرس دون إحضار الطعام ففوجئنا أن لعاب الكلب يسيل حتى في غياب الطعام!
ماذا حدث؟
لقد ارتبط في عقل الكلب صوت الجرس بالطعام؛ ومن ثَمَّ فقد "تأهَّل" نفسيًّا للطعام، وسال لعابه! هذه الظاهرة يسمونها ظاهرة "رد الفعل المنعكس الشرطي (Conditioned reflex)"[2] .
وهذا يحدث كثيرًا معنا..
كثيرًا ما نشعر بالسعادة إذا دخلنا مكانًا معينًا حتى دون وجود شيء معيَّن يُسَبِّب السعادة، ويكون السبب الحقيقي وراء ذلك هو أننا سعدنا يومًا من الأيام في هذا المكان أو شبيهه، فإذا دخلناه بعد ذلك "استدعى" المخ سعادته القديمة؛ ومن ثَمَّ تشعر بالسعادة دون مُبَرِّر واضح! وأنا شخصيًّا أشعر بهذا كثيرًا في عدَّة أماكن أعرفها تحديدًا، ويكون السبب أنني عشت تجربة سعيدة سابقة في هذا المكان..
ومثل الذي قلتُه عن مشاعر السعادة يمكن أن نقوله عن بقية المشاعر؛ مثل: مشاعر الخوف، أو القلق، أو الهدوء، أو الأمان..
ويمكن بطبيعة الحال أن نقوله على الخشوع في الصلاة!
وهذا هو سبب ذِكْر كلِّ ما سبق من حقائق علمية!
فما المقصود من هذا الكلام؟!
المقصود هو تجهيز مكان في البيت يكون بمثابة مسجد "داخلي"، يصلي فيه المسلم صلوات النوافل؛ خاصة قيام الليل، وتُصَلِّي فيه المرأة، ويمكن أن نُصَلِّي فيه الفروض في حال عدم التمكُّن من صلاة الجماعة لعذر من الأعذار.. وبناءً على ما تعلَّمْنَاه من التجربة الفسيولوجية السابقة؛ فإنه يُتَوَقَّع أن يشعر المُصَلِّي بالخشوع لمجرَّد الدخول في هذا المكان؛ لأنه جرَّب الخشوع فيه قبل ذلك، فتهيَّأ العقل لأحاسيس الخشوع حتى قبل أن يبدأ في الصلاة!
ومن الجميل أن تعرف قبل الشروع في تنفيذ الفكرة أنها وردت على ذهن صحابي جليل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ الفكرة؛ بل ساهم في تطبيقها! والصحابي هو عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصارِيُّ رضي الله عنه، ولقد روى لنا قصته اللطيفة فقَالَ: "كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: "إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي، فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا؛ حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا"، فَقَالَ: «سأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ»، فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟»، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ" (صحيح البخاري [5401]).
موقف رائع حقًّا!
رائع جدًّا أن يجتهد الصحابي في تهيئة أفضل ظروف تساعده على صلاة خاشعة! ورائع جدًّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجاوب معه مع انشغالاته الكثيرة! ورائع جدًّا أنه أخذ أبا بكر رضي الله عنه ليشهد "افتتاح" المسجد الداخلي! ورائع جدًّا أن يُصَلُّوا جماعة في هذا المسجد "البيتي" حتى يأخذ عتبان بن مالك رضي الله عنه شعور المسجد الجامع في هذا المسجد الصغير! ألا ما أروعك يا رسول الله!
وإذا كان الأمر كذلك، فلنسعَ إلى تهيئة المكان بصورة تُساعد على استكمال الصورة الذهنية للمسجد، وبذلك تتحقَّق الفائدة بشكل أكبر، وأنا أقترح عدَّة وسائل عملية تُساعد في هذا الأمر؛ منها على سبيل المثال:
1. إطلاق اسم المسجد على هذا المكان حتى نُساهم في التهيئة النفسية.
2. جعل المكان منعزلًا عن الضوضاء وحركة الناس قدر المستطاع، فلو كان البيت كبيرًا خصصنا حجرة لهذا الأمر، وإن لم يكن كذلك خصصنا ركنًا في أحد الحجرات التي لا يدخلها أهل البيت كثيرًا مثل حجرة الضيافة، أو ما شابه.
3. للحفاظ على هدوء المكان ينبغي عدم وضع تليفون أرضي فيه، ولا تدخل إليه بتليفونك المحمول، كما يُفَضَّل وجوده في مكان بعيد عن التليفزيون قدر المستطاع.
4. الحرص على عدم وجود صور أو تحف أو مشغولات؛ لأن هذا كله قد يشغل المُصَلِّي عن صلاته، فلا يتحقَّق له الخشوع.
5. يُفَضَّل أن يُفرش المكان بالسجاد بشكل دائم ليأخذ طابع المسجد.
6. نحرص على أن يكون السجاد والستائر في المكان بلا زخارف ولا نقوش، ولتكن الألوان هادئة ومريحة للأعصاب كالأبيض أو الأزرق الفاتح جدًّا أو نحو ذلك، ولا تفترض في نفسك القدرة على التركيز في وجود الزخارف الكثيرة! ولو جادلت في هذه النقطة فيكفيك أن تراجع موقفًا حكاه أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: "كَانَ قِرَام [4] لِعَائِشَةَ قَدْ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي»"[5]!
ولعلَّ هذا يفتح مجالًا لنا الآن لنناقش قضية سجاجيد الصلاة التي اعتدنا أن نُصَلِّيَ عليها في بيوتنا، فإن معظمها - للأسف - مليء بالنقوش والألوان، وهذا من البلاء الذي قبلناه دون تفكير مع أن إصلاحه يسير، ولعلَّنا نُطلق دعوة في هذا التوقيت لأحد المستثمرين المسلمين الغيورين على صلاة المسلمين أن يُنتج نوعًا من السجاد بلا زخارف يعين المسلمين على الخشوع في صلاتهم!
7. يفضل وضع مصاحف على منضدة بسيطة، أو في مكتبة صغيرة، حتى تُيسِّر على الجالس في المكان أن يقرأ أو يُراجع الحفظ، كما أنها ستُساهم بشكل مباشر في التهيئة النفسية للمُصَلِّي.
8. يفضل وضع تفسير صغير مُبَسَّط لكلمات وآيات القرآن حتى يرجع إليه المُصَلِّي لقراءة تفسير بعض الكلمات المبهمة؛ لأن فهم معاني القرآن يُعين بقوَّة على الخشوع، وقد يكسل المُصَلِّي عن البحث عن المعنى إذا لم يجد التفسير متاحًا.
9. ينبغي أن تكون التهوية جيدة في المكان؛ سواء كانت طبيعية عن طريق نافذة أو شرفة، أو صناعية عن طريق مروحة أو تكييف.
10. أيضًا ينبغي أن تكون الإضاءة جيدة، ويُفَضَّل الإضاءة البيضاء غير المباشرة.
هذه بعض النصائح التي يمكن أن تجعل هذه البقعة في البيت معراجك إلى السماء! وما أروع أن تُصَلِّيَ فيها وأن تتدبَّر في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [يونس:87]..
فاللهم اجعل بيوتنا قبلة، وتقبَّل منَّا، إنك أنت العزيز الحكيم.
-----
[1] (علم الفسيولوجي هو علم وظائف الأعضاء).
[2] (ردود الفعل المنعكس يمكن أن تكون تلقائية أو شرطية؛ فرَدُّ الفِعْل الُمْنَعكِس التلقائي هو حركة لا شعورية تنشأ استجابة لمؤثر (مثير) حسي كوخز دبوس للجلد، أمَّا رَدُّ الفعل المنعكس الشرطي فهو نوع آخر من الفعل المنعكس يكون مرتبطًا بالفعل، ويمكن لرَدِّ الفعل التلقائي أن يتحوَّل إلى رَدِّ فعل شرطي؛ فلعاب الكلب - مثلًا - يسيل عندما يشم الطعام، وهذا رَدُّ فعل تلقائي، لكن أوضح عَالِمُ الأحياء الروسي إيفان بافلوف Ivan Pavlov (1849-1936م والحاصل على جائزة نوبل في الطب سنة 1904)، أن سيلان اللعاب -رغم أنه يُعَدُّ في الأصل رَدَّ فعل تلقائيًّا لشم الطعام- يمكن أن يُصبح ردَّ فعل شرطيًّا. كان بافلوف يقرع جرسًا في كل مرَّة يُحضر فيها الطعام للكلب، وحدث أن سال لعاب الكلب عندما قرع بافلوف الجرس دون أن يُقَدِّم له الطعام؛ فقد ربط الكلب بين قرع الجرس والطعام مثلما ربط بين الرائحة والطعام).
[3] (البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب مَنْ لم يَرَ ردَّ السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة، [804]، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، [33]).
[4] (القرام: هو ستر رقيق من الصوف فيه نقوش وألوان).
[5] (البخاري: أبواب الصلاة في الثياب، باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته؟ وما ينهى عن ذلك، [367]).
- التصنيف:
- المصدر: