أمانة الكلمة والقلم
الكلمةُ أمانةٌ والكتابةُ تصونُها، وهي صيدٌ والكتابةُ قيدُها، وقد تكون زلة والكتابة نصرها على باطلٍ أو فضحها.
الكلمةُ أمانةٌ والكتابةُ تصونُها، وهي صيدٌ والكتابةُ قيدُها، وقد تكون زلة والكتابة نصرها على باطلٍ أو فضحها.
الكلمة لها قدرٌ عظيم لمن تدبّر وشأنها جسيم لمن تفكّر، فقد كان الخَلْق بالكلمة إذ قال الله سُبحانه جلّ في عُلاه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس:82].
الخلق بالكلمة أمر مُقدَّس لا يكون إلّا لربِّ العزة جل في عُلاه، علّمنا به قدرته الواسعة وعلّمنا به أن شأن الكلمة عظيم لا يستهين به إلّا مُتكبَّر جاحد أو جاهل غير عامد.
روى الترمذى وأبو داود وغيرهما من عبادة بن الصامت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب قال وما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة» (تفسير ابن عثيمين:296). والقول الصائب من توفيق الله للعبد، وهو أيضًا من تقوى العبد لله ربَّ العالمين، فالإنسان ينبغي أن يكون حريصًا أشد الحرص على كل كلمة ينطقها لفظًا أو كتابةً ويستحضر رقابة ربّ العالمين عليه فيها، يقول ربّ العزة في كتابه الحكيم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
الكلمة المُوَفَّقة المُسدّد رميها من رب العالمين فيها صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، ويُرتكن إليها كي يحدث التغيير، فالكلمة سلاح ماض يعلم الجميع قوة أثرها؛ قيلت بحق أو قيلت بباطل، ولذا لطالما كانت الكلمة هي عدو الطاغوت الأول، فكل متجبر يكره الكلمة التي تُقابله كمرآة تفضح ظُلمه وطُغيانه وتكشف أكاذيبه وتهتك ستره وتسجل إثمه وذنبه في سجل التاريخ بمداد من دماء المظلومين وأرواحهم المسلوبة.
للكلمة الطيّبة وأصحابها صفات يُعرفون بها، فهم لهم قلمٌ مِداده النور، وَهب له الرحمن من نورِه نورًا، نُقِشَت به الكلمات نجومًا سماوية، كلماتٍ ليست كالكلمات، دِثارها أحرف عربية، وما تحت الدِثار كنوز وأسرار، تظلُ تَنهَلُ منها ولا تسبر الأغوار.
قلمٌ مداده النور؛ موصول بربِ القلم بنفحة ربّانية يَكتُبُ الكلمات، في هالة نورانية يصوغُ العِبارات فيفهم عنه ضحل الفهم ويهيم عشقًا صاحِبُ المَلَكَات.
مِدادٌ له أصحابه، يُعرف بهم ويُعرفون به، فهم أيضًا لهم نور، وجوههم وضيئة وقلوبهم نقية بريئة، وَرِثوا المداد عن استحقاقٍ وجدارة، فما أضاعوه وما صَرَفوه إلّا بمهارة، نَسَجوا به جميلَ العِبارة، وصاغوا العلوم فتركو أثارة.
الكلمةُ هُوِيَّةُ صاحبها تحمل رسالته في طيّاتها وتنقل عنه ما آثر كتابته على التلفّظ به وأراد تخليده في أحرفٍ متراصة، فيجب على القاريء أن يفهم عنه وينتفع بما لديه، ويترك ما لا ينفعه ولا يَنصب نفسك حكمًا حتى يَفهم ويٌقيم (إن شاء) الحُجة عليه.
أمّا صاحب الكلمة فواجب عليه أن يرفق بأرواح الخلق، فرُبّ كلمة يقولها يرفع بها روحًا إلى السماوات العُلى، ورُبّ كلمة لا يُلقِ لها بالًا تخسف وتقصم بها ظهر روح أخرى، وليس لنا أن نقتل أرواحًا خلقها ربُّها لتحيا.
عاشق الكتابة وأحرفها مجبولٌ على أن يُنطِق كل حرفٍ فيها بما اعتمل في نفوسِ الخلق ممن عرِف؛ أو لم يعرِف !فهو اذا ما كتب عن الحُب فكأنّما قدّ أحب ألف مرة مُستعيرًا أحاسيس ذرفها أصحابها فجُعل مُستقرّها قلبه ومُستودعها بياض ورقته ..
وإذا ما رأى دمع الفراق في عينٍ؛ تدّفقت شكاية الهجر من سنِّ قلمه، ولَرُبّما يوم يطرق الحُبّ قلبه يعجز حينها عن البوح بواحًا.
لعلّه يوم نسج في نصِّه دِثار الفَرَح قد باتت أوصال قلبه ترتجف حُزنًا وألمًا، ولعلّه يوم يرأف بحالٍ يراها ودموعٍ في عينٍ يُشفِق عليها؛ يزهد في سعادة تُرفرِف حول قلبه ترجو الدخول، ويمضي حاملًا أمانة الحكاية بحروفِ المباني اذ ما عجز صاحب الألم عن وصفِ المعاني.
الروح التي قدّر ربّها عليها أن تكتب؛ اذ أنّ الكتابة تكليف لا تشريف؛ هي روح شفافة مثل زجاج بللوري، كل شيء حولها نافذ منها لا محالة، لكنّه يُترجم في كلمات مثل أنفاس الروح، شهقاتها وزفراتها وعلامة الحياة فيها.
تارة تستقبل الأحداث بشفافية لتنقلها كما هي في كلمات تصف إحساس وواقع مصقول بلا رتوش وتارة يتلون زجاجها بلون الروح ليضع أثره على ما يسمع ويرى فيصبغه بصبغتها ويترك أثره فيها، ويبقى الوجل.
إذ أنّها مُذ كُلّفت صارت مسئولة عن كل حرف تكتبه، مسكينة حملت أمانة أثقلت كاهل الروح الذي يئن من سابق أحماله، ولا طاقة بمزيد عبء؛ إلّا أن يصل الله الحرف به فيبلّغ عنه وعن نبيّه ويكون زيادة في الأجر وبقاء أثر اذا ما انقضى العمر.
وعلى الرغم من أهمية التعبير عن الأحاسيس والمشاعر والقضايا الاجتماعية فإن الكلمة رسالة أفقها أوسع من الحكايات ووصف المشاعر والعَبَرات، وخاصة في أيامنا تلك الحبلى في كل لحظة بمولود من الألم وقضايا يشيب لها الصغار إن قُدّر لهم البقاء دون أن تقتنصهم أياد الغدر، الكلمة سلاح يحمله صاحبه تَعجَب لصَلْصَلَةِ حرفه في ميادينِ الجِهادِ بسيفِ القلمِ النافِذ ورُمح المعاني الصائبة.
سُئِل محمود شاكر رحمه الله عن الكتابة، لمن تكتب؟ إنهم جميعًا نيام يغطُّون، فلو قذفتهم بالشهب أو الصواعق لناموا على وقعها أو إحراقها، فأجاب رحمه الله بمقالة طويلة بليغة بعنوان (لمن أكتب؟) قال فيها: "فأنا أكتب لرجل أو رجال سوف يخرجون من غمار هذا الخلق، قد امتلأت قلوبهم بالقوة التي تنفجر من قلوبهم كالسيل الجارف، تطوح بما لا خير فيه، وتروى أرضاً صالحة تنبت نباتًا طيبًا".
وأضاف: "إنه الرجل الذي قد خُلطت طينته التي خلق منها بالحرية، فأبت كل ذرة في بدنه أن تكون عبدًا لأحد ممن خلق الله على هذه الأرض، فهو يشرق من جميع نواحيه على أجيال الناس كلها كما تشرق الشمس، ترمي بأشعتها هنا وهناك، ولا يملك الناس إلا أن ينصبوا لها وجوههم وأبدانهم؛ ليذهب عنهم هذا البرد الشديد الذي شلَّهم وأمسك أوصالهم عن الحركة. وهو يسير بينهم فتسري نفسه في نفوسهم، فتموج الحياة فيهم بأمواجها التي لا يقف دونها شيء مهما بلغت قوته أو جبروته".
وأذكر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله الذي كتب مقالا بعنوان (أين الأقلام؟!) جاء فيه: "يا خجلتاه غدًا من كُتَّاب التاريخ إذا جاؤوا يترجمون لأديب فيقولون: لقد رأى أعظم بطولة بدت من بشر، وشاهد أجلّ الأحداث التي رآها الناس، ثم لم يكتب فيها حرفًا، لقد شغلته عنها شواغل الأيّام، ومباهج الأحلام، وملذّات الغرام!"
الكتابة رسالة وأمانة وجه الصعوبة فيها هو التكلّف وخير لها مثل كل فن أن تخرج بعفوية دون افتعال ليكون الصدق عنوانها والإخلاص بوابتها والخلود مآلها.
فإذا ما حملت يومًا أمانة الكتابة، فاكتب بمداد قلبك كلمات من حياة، ايّاك أن تستمدّ خطوط حرفك من محبرة سواه.
وبئس القلم ذاك الذي يجبن عزمه ويطيش رميه ويجف حبره عن قول الحق، ثم ينطلق مداده في ساحات الباطل مزهوًا بالترهات قد قارف الكذب وحارب الصدق.
شيماء علي جمال الدين
طالبة علوم شرعية على أيدي الشيوخ سواء على شبكة الإنترنت أو في محافظة الإسكندرية مهتمة بمجال دراسة علوم القرآن والتفسير بشكل خاص. لها العديد من المقالات والأبحاث والقصص القصيرة المنشورة على الشبكة الإلكترونية.
- التصنيف: