آتيناه آياتنا: بلعام
إنها تظل نموذجاً لكل من آتاه الله علما وأكرمه بآياته فنأى عنها وأعرض واستبدلها بعرضٍ زائل فصار في النهاية مجرد...كلب..كلب يلهث!
مكانةٌ عظيمة هي!!، ووصفٌ مهيب وتزكيةٌ ربانية لا تدانيها تزكية مخلوق أو مدح فانٍ {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف جزء من الآية: 175].
بذلك الوصف وتلك التزكية افتتح الله تلك القصة المهمة من قصص القرآن والتي هي رغم قصرها تحمل من المعاني والفوائد الشيء الكثير.
الوصف والتزكية قيل أنهما في حق عالم كان مع القوم الجبارين الذين سكنوا الأرض المقدسة في الفترة التي أُمر فيها بنو إسرائيل بدخولها ولقد روي أن صاحب الوصف كان من العلماء الربانيين أطلعه الله على اسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى.
لكن ثمة كلمات قرآنية معدودة كانت تفصل بين هذا الوصف الشريف وتلك التزكية العظيمة وبين النقيض تمامًا فبعد أن كان الوصف شريفًا والتزكية ظاهرة تحول كل ذلك إلى وصفٍ آخر وضيع وصار مثله كمثل كلبٍ يسيل اللعاب النجس من بين شدقيه.
وبعد أن كان كريمًا عالي الدرجات بعلمه صارت الغواية نعته والانسلاخ حاله والخزي مآله، ذلك لأنه غيَّر وبدَّل ولم يرع للنعمة حقها ولم يعرف للعلم مقامه ولا للآيات التي في صدره قدرها ففرط فيها واختار أن يخلد إلى الأرض ويتقلب في ترابها الحقير ويلهث خلف شهواتها الدنيئة.
بلعام بن باعوراء...
قيل أن هذا هو اسم ذلك العالم من القوم الجبارين الذين سكنوا الأرض المقدسة إبان بعثة نبي الله موسى عليه السلام، وقيل بلعم وقيل أنه من بني إسرائيل، ولقد ورد ذكر ذلك وغيره في كثير من الآثار بعضها من الإسرائيليات التي نهينا عن تصديقها بإطلاق أو تكذيبها بإطلاق وورد كذلك في بعض الآثار عن الصحابة والتابعين منهم ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا الرجل رغم علمه بآيات الله وقيل علمه باسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، قد أغراه قومه ليستعمل علمه الذي آتاه الله إياه في صدّ نبي الله موسى وقومه عن دخول الأرض المقدسة.
لكن الرجل عالم بآيات الله ومدرك بوضوح أن موسى عليه السلام نبي مُكلم وأنه على الحق إلا إنه وعلى الرغم من كل ذلك سقط في الفخ وضعف أمام إغراءات الجبارين وقرر أن يستعمل علمه في صدِّ الحق والترسيخ للباطل بل والأدهى أنه أقدم على دعاء الله بأن ينهزم نبيه وأتباعه وأن يولوا الأدبار أمام القوم الجبارين
ولقد ورد في الأثر أنه فشل في مسعاه وكلما حاول أن يدعو على موسى صرف الله لسانه فدعا لموسى وقومه وكلما دعا لقومه الجبارين صرف الله لسانه فدعا على قومه حتى تدلى لسانه كالكلب اللاهث، لكنه لم يستسلم ولجأ إلى الحيلة والخديعة واستعمل علمه ومكره في الصد عن سبيل الله ونصرة الباطل وأهله، فقال لقومه أطلقوا عليهم نساءكم مزينات يروادن جند موسى عن أنفسهم فلئن فشت الفاحشة في جيش لم ينصرهم الله
وقد كان..
وبالفعل وقع كثير من بني إسرائيل في المحظور واستحبوا شهوة الدنيا العاجلة وأبوا أن يطيعوا أمر ربهم ونبيهم ثم قالوا كلمتهم الشهيرة: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة جزء من الآية: 24] ؛ فكتب عليهم التيه كما في القصة المعروفة
وبغض النظر عن حقيقة القصة وهل صحت الآثار التي تتحدث عن بلعام بن باعوراء أم أنها مجرد إسرائيليات تُروى استئناسًا، فإن ما يعنيني في هذه السطور هو النموذج المخيف الذي تطرحه الآيات، وهذا هو المناط الأهم في قصص القرآن وشخصياته
النماذجية التي تميز أبطال تلك القصص
وهاهنا نموذج العالم الفاسد الذي كان من الممكن أن يظل من أرفع الناس شأنًا فإن الله يرفع بآياته أقوامًا ويضع بها آخرين كما ثبت عن الصادق الأمين، لكنه أبى!، واختار التدني والتقلب في دركات الوحل، وانسلخ...انسلخ ذلك العالم!، انسلخ عن آيات ربه التي فُضل بها وأُكرم بأن رزقها.
والانسلاخ مصطلح يُعبر به عادةً عن مفارقة الجلد للحم لكنه ورد هنا في معرض الحديث عن مفارقة العبد لآيات ربه، وكأن في ذلك إشارة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين المرء وآيات ربه التي أوتيها، علاقة قرب واتصالٍ وثيق وتماسكٍ شديد كما يكون الاتصال بين الجلد واللحم!، من ذلك يتبين معنى قولهم: "دينك دينك لحمك دمك".
ويعبر بكلمة السلخ كذلك عن استلال الليل من النهار {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس جزء من الآية: 37] وهي حركة بطيئة تدريجية كما أن انسلاخ الجلد عن اللحم يكون تدريجيًا بطيئًا، وكذلك انتكاس المرء عن آيات ربه لا يحدث فجأة ولكنه ينسلخ عنها رويدا رويدا دون أن يشعر!
فيتساهل تارة..ويتميع تارةً أخرى..ويقصر مرة ثم يتبعها مرات..
حتى يستمرىء الاجتراء ويتهاون في شأن الحرمات ولئن لم يستنقذ نفسه ويمن عليه ربه بيقظة تنبهه أو موعظة يستفيق بها فقد يتم الانسلاخ ويكتمل الانتكاس، حينئذ سيجد عدوه في انتظاره ليجهز عليه، وبعدها لن يكون وصفه كما كان قبلها، سيكون من الغاويين بعد أن كان من العلماء العاملين {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف جزء من الآية: 175]، وفي قصة بلعام وجريمة الانسلاخ عن آيات الله يوجد متهمان، المتهم الظاهر والمعين هو الشيطان {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} لكنه ليس المتهم الأول أو الرئيسي، إن دوره هاهنا تابع أو ثانوي.
من الذي انسلخ ابتداءً؟!، من الذي أخلد إلى الأرض؟!، من الذي اتبع هواه؟!، من الذي لم يرتفع بما أوتي من الآيات؟!
إنه هو...هو من انسلخ...هو من أخلد إلى الأرض....هو من اتبع هواه....هو من قرر التخلي والتنازل عن آيات ربه...هو من غيّر وبدّل.
ثم جاء دور الشيطان بعد ذلك، إنها إذاً جريمة أخرى من جرائم البشر لا يلعب الشيطان دور البطولة المطلقة فيها، بل ثمة متهم آخر، النفس وهواها، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف جزء من الآية: 176]
كان هذا هو اختيار ذلك العالم.. الأرض...الهوى...الدنيا....الشهوة، لقد اختار كل ذلك بدلا من الرفعة والسمو وقد كان يملك أسبابهما
قال رسول الله ﷺ : «إنَّ اللهَ تعالى يَرفَعُ بهذا الكِتابِ أَقوامًا ، و يَضَعُ بِه آخَرين» صحيح الجامع
هكذا آيات الله ترفع أقوامًا وتضع آخرين، وأن تؤتى آيات الله فذلك أعظم أسباب الارتفاع والسمو، وأن تتخلى عنها وتنسلخ منها فذلك الدنو والتمرغ في وحل الأرض ومخاضة الانتكاس والتنازل والتفريط، ولئن لم يُتغمد المنغمس في تلك المخاضة برحمة من ربه تعينه على تدارك أمره والتعلق بحبالها للخروج من دنس تلك المخاضة المغرقة الجاذبة فإنه سيخلد إلى الأرض وسيغوص ويغوص إلى القاع، وما أدراك ما القاع، لتدرك طبيعة ذلك القاع تأمل جيدًا إلى أي مدى غاص برصيصًا ((العابد)) وبلعام ((العالم))، تأمل واستعذ وابحث عن حبائل رحمة تتعلق بها لعلها تنتشلك يومًا ما من قاع تلك المخاضة، وإن أعظم حبل تتمسك به كي تنجو من الغرق في وحلها، حبل الله الممدود، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال : «كتابُ اللهِ ، هو حَبْلُ اللهِ المَمْدُودُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ» صحيح الجامع
فهل تمسكت به؟!، عليك أن تفعل وإن كنت قد فعلت فاثبت، إن عالما أوتي آيات الله ابتداءً فصار مثله ككلب يلهث انتهاءً!! {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف جزء من الآية: 176] إنه واحد من أخطر التشبيهات القرآنية وأهمها، لماذا الكلب تحديدًا؟!
ألأن حاله إزاء الشهوات ولهاثه الدائم وراءها بعد أن استسلم لها وأخلد لسحرها أول مرة، يشبه حال الكلب اللهاث دائمًا وراء شهواته المجترح دومًا لملذاته الذليل لغرائزه ومرجواته؟!
أم أن مشهد ذلك المنتكس بعد الانتكاس يطابق في عنته وعدم ارتياحه مشهد اللهاث الدائم الذي لا ينقطع مع كل حال سواء كان الكلب جائعًا أو شبعان، مرتويًا أو عطشان، مزجورًا أو متروكاً...دائما يلهث..
لا يرتاح من اللهاث أبدًا ولا تجده هادئًا ساكنًا كسائر الحيوانات التي لا تلهث إلا إن جاعت أو سعت مسرعة لشيءٍ أو فرت من شيء، أما الكلب وشبيهه المنتكس فلا سكن ولا هناء...ولا ارتياح..
فقط تلك الحسرة البغيضة والغصة المريرة وذلك الألم القاسي الذي يعرفه جيدًا كل من ذاق وعرف ولم يغترف..
يعرفه كل من أبصر الطريق وأضاء له فمشى فيه ثم إذا أظلم عليه فقام وولَّى وأدبر واستكبر.
يعرفه كل من نكص على عقبيه واختار حوراً بعد كور وإعراضًا بعد إقبال وتدنٍ بعد ارتقاء وبدّل نعمة الله وحشةً ونفورا وازدراء فذاق في الدنيا ضنكا وذلا وبُعداً بعد اقتراب
تلك الحسرة والغصة والألم والضنك، هي نتائج معتادة ومتوقعة ومتكررة ينبغي أن تجعل المرء يفكر كثيرا قبل أن يختار طريقها طوعا ويسلك سبيلها بإرادته حين يتخذ هذا القرار المؤلم ولو تدريجيًا، قرار حياة تشبه حياة الكلاب ولهاث يحاكي لهاثهم، قرار الانتكاس، وكم في حياتنا من بلعام!!، بل كم في مراحل حياة الواحد منا من بلعام؟!، قبل سنوات كان البدء، وواهاً لأيام البدء!!
أيام كان قلب هذا الشاب متقدًا بالحماس وعيناه دومًا مستعدة لذرف دمعاتٍ ساخنة، دمعات ندم وتوبة على فات واشتياق لما هو آت وخشية من حساب بعد الممات، كان ورعًا يترك المشتبهات مخافة الوقوع في المحرمات
وكان شديد الحرص على إرضاء مولاه راميًا بسهام خير في كل مرمى لا يحقر عبادة ولا يقلل من شأن قربى ولا يسمع عن باب طاعة إلا سابق إليه
كان إذا سمع النداء هب مسارعًا للإجابة وإن فاتته الجماعة حزن واستغفر وعاهد الله ألا تفوته بعدها، ما غضب يومًا من نصح ولا استكبر على ناصح بل كان هينا لينا في أيدي إخوانه محبا لهم راغبا في صحبتهم حريصا على مودتهم متلهفا للقياهم والاجتماع بهم في حلق العلم ومواطن الخير
كم كان رقيق القلب قريب التأثر وقافا عند حدود الله كم كان شغوفًا بكتاب ربه مقبلًا على حفظه وتلاوته وصحبته مشتاقًا إلى حمله كاملًا في صدره متخلقًا به في جوارحه، كم كان غيورًا على حرمات ربه مهمومًا بأمر أمته حريصًا على رفعتها وراغبًا في صلاح حالها وهداية أبنائها، كم كان رائعًا!.
لكن.. ماذا أصابه الشكل هو هو، والهيئة شبيهة، لكن العينين مختلفتان!!
بريق الحماسة قد انطفأت جذوته في مقلتيه حتى كادت تخبو، نعم هو نفس السمت إلا أنه صار كأنما هو قشرة تكاد تتشقق وعند أول محك تتصدع لتظهر عندئذ من تحت تلك القشرة أخلاق قديمة ظن أنها قد اندثرت منذ زمن بعيد، هل انسلخ؟!
لقد صارت دمعاته عزيزة واختلاجات قلبه عند الموعظة نادرة وصار الامتثال وتصحيح المسار أملًا بعيد المنال
أين مصحفه صغير الحجم الذي ما كان يفارق يده أو جيبه؟، أين مسواكه وأوراده ونوافله؟، بل أين فرائضه؟!
ها هو النداء يعلو داعيًا للفلاح لكن الهبة القديمة قد اختفت وحل محلها التثاؤب واستبدلت بالمعاذير والشواغل وها هي معايب إخوانه قد تبدت إليه وتعاظمت في عينيه ليحل التربص محل المودة ولتستبدل الأحقاد بالمحبة الإيمانية القديمة، ماذا حدث؟، ماذا دهاه؟
أفطال عليه الأمد فقسى قلبه وجفت عيناه وتبلدت مشاعره وبلي ثوب الإيمان في جوفه؟
أم أنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه وأسلم القياد لنفسه الأمارة وعدوه اللدود فانسلخ من الآيات التي أوتيها وصار من الغاويين، معقول؟!، ولماذا؟!، ما الذي غيره؟ وما الذي يستحق؟ وماذا ينتظر ليعود؟! وهل يضمن أن يمهل ليعود؟!، يعود لأيام البدء وما أجملها من أيام، ألم يأن بعد أن يعود إليها؟
وصديقه البلعام الآخر، ذلك الذي كان جُل كلامه منذ أعوام ينضح بذكر الله وطيب القول، كنت لا تخطىء حسن سمته وضبط ألفاظه وحرصه على قول التي هي أحسن، وإذا ندت منه غفلة وغلبت عليه لفظة من ميراث ما قبل الالتزام بحكم العادة فإنه كان يسارع للاستغفار معتذرا في حياء، ظل هكذا أعوامًا يجاهد لسانًا يُكَب الناس على وجوههم يوم القيامة بحصائده ويضبط كلمات الواحدة منها في سخط الله فد تهوي به في النار سبعين خريفًا، ثم استقام له لسانه وانضبطت كلماته وصار لا يعرف منه إلا الخير وإن لم تصبك منه ريحٌ طيبة فلن يؤذي مسامعك من جهته لفظ خبيث، لكنه اليوم صار شخصًا آخر، نادرًا ما تمر عبارة من عباراته سالمة، لابد من ختم البذاءة في كل جمله أو جلها، لابد من تلميح إباحي هنا أو إشارة جنسية هناك أو سب والديْن هنالك أو لفظ خارج كان يوما إذا سمع أهون منه احمر وجهه وحمد بلسانه وقلبه ربا عافاه مما ابتلي به غيره
اليوم صارت مرادفاته فاجرة ومفرداته ماجنة ونعوت عباراته سافلة وتراكيبه فاحشة ومزحاته بذيئة فاسقة
نادرا ما تلمس في كلامه ذكرا لمولاه أو تصادف في تعليقاته تذكيرا بالله أو تجد في عبارته رفقا ومناجاة
لا تكاد تجد ثمة فارق بين ما يقول أو يكتب وبين ما يتكلم به أهل الفسق العتاة.
من هذا؟....ماذا دهاه؟....ماذا تغير في وسيلته ومبتغاه؟.....أين حسن سمته وطيب مسعاه؟
هل نادى منادٍ من السماء أن البغي اللفظي حلال والبذاءة مستحبة والفحش مستحسن والاستطالة في الأعراض لم تعد أربى الربا فلما سمع ذاك المنادي سارع إلى تلك البضاعة المزجاة؟، أم تراه قد زال عنه التكليف ورفع عنه القلم؟، أم أنها لعنة بلعام، وكل بلعام
تأمل ذلك البلعام الآخر ..
أو إن شئت فقل سماحة الشيخ بلعام..أو الإمام بلعام...العلامة بلعام.....المفكر بلعام...زالمجدد بلعام
سمه كما شئت وصفه بما شئت فقد كان يومًا ما قريبًا من وصفك، حين كان من أكثر الناس حرصًا على أمته وانفعالًا بقضاياها، كان فؤاده يتقد بالحمية لدينه والرغبة في نصرته وكان يتلهف شوقًا لهداية الخلق وانتهاجهم لشرعة ربهم، كان من الممكن أن تختلف معه أو تتفق لكنك لم تكن تملك إلا أن تعترف له بقوة الحجة وحسن البيان ودقة العرض وعمق الفكرة وأن تحترم قبل كل ذلك ثباته على موقفه ورسوخ مبادئه، كنت تختلف مقرًا بعزة تقطر من كلماته وبغيرة على حمى الدين وحبًا للشريعة وأهلها وحرصًا على إعلاء الحق والصدع بكلماته
أوذي كثيرًا وتحمل كثيرًا لكنه انهار في النهاية، يبدو أن تلك المبادىء والثوابت التي طالما نافح عنها لم تكن بذلك الرسوخ الذي كانت تبدو عليه ظاهرًا، لن تخطىء اليوم في كلامه نفسًا مختلفًا، ليس هذا هو ذات المنافح الجلد صلب المراس، لم يعد لكلامه نفس البريق ولم تعد لحجته تلك القوة، الليث المتحمس الموقن بما يقول صار اليوم قطا أليفًا يموء بهوان بين يدي خصومه بينما تحولت شراسته وقسوته إلى سياط تقرع رفاق الأمس ولا تمس من كان يعدهم يوما أعداء ملته ومفسدي أمته، لم يعد هو ذاك العزيز مرفوع الرأس، بل صار ذليلًا مهزومًا بين أيديهم تابعًا لهم سائرًا في ركابهم محاولًا إرضاءهم بشتى السبل، حتى لو كان من تلك السبل أن يُستعمل سيفًا مصلتًا على رقاب أقرب الناس إليه، لابد أن يثبت في كل حين أنه (مش معاهم)، أنه مختلف عنهم، لابد أن يدافع عن نفسه دائمًا من تلك التي يراها تهمة.
وعليه في سبيل ذلك ألا يخفي حساسيته تجاه جل ثوابتهم وأدبياتهم، ينبغي أن يسير على كل تراثه بممحاة وأن يتراجع عن صوابه قبل خطأه ليثبت دومًا أنه قد تغير ولم يعد يطيق الماضي وأهله فقد صار اليوم مثقفًا مستنيرًا واعيًا ولم يعد مثلهم، بالطبع فتحت له الأبواب وهش له خصوم الأمس وأفردوا له المساحات واحتفوا به أيما احتفاء لكنه ومع كل هذه الضجة والترحاب صار وحيدًا تنكر لرفاق الأمس وتنكروا له فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولقد أضحى يعرف وظيفته جيدًا ويقوم بها على أكمل وجه، أو إن شئت فقل على أسوأ وجه
هل هي فتنة سراءٍ بعد ضراء أم خشية ضراءٍ بعد سراء؟!، أو ربما هي صدمات في أشخاص أو مواقف أو حظ نفس وانتصار لها، لا أحد يدري، الشىء الوحيد الذي يمكنك أن تدركه وأنت تطالع نتاجه الجديد وثماره المحدثة أنك أمام شخصٍ آخر بقلمٍ مختلف ولسان مباين ونفس متغير.
والشىء الذي تملكه حين تطالع سطحيته بعد عمق وركاكته بعد فصاحة وذلته بعد عزة هو أن تتعوذ كما يفعل نبيك من الحور بعد الكور وأن تدعو له لعله يوما يفيق من سكرته وينفض عنه غبار الهزيمة النفسية الذي تراكم على روحه وليسطع بريق الحق من قلمه ولسانه من جديد وليعود إلى قيمته الحقيقية ومكانه المستحق وتفارقه تلك الوساوس التي تنغزه وتسوقه باستمرار إلى نفي تهمة ليست كذلك إلا في رأسه ولم يتهمه أحد بها أساسًا، وأن يتوقف عن لهاث بلعام، وكل بلعام.
إن في قصة بلعام وكل بلعام معاصر أو من زمن خلى، ردٌ واضح وعملي على أولئك الذين يظنون أنهم بمعزل عن أي فتنة أو أنهم كما كانوا يقولون قديمًا فى المثل الشعبي: مغسل وضامن جنة..
إنها كلماتٌ بسيطة وذكية كعادة الأمثال المصرية تلخص رسالة يفترض أنها كانت مستقرة فى الوجدان المصري - بل فى الوجدان المسلم بشكل عام- رسالة مفادها أنه ما من أحد يضمن مصيره فضلاً عن مصير غيره، لا أحد يمتلك القدرة على الحكم لفلان بالجنة، والجزم لفلان بالنار، معنى بدهي ومنطقي وأصل إسلامي يفترض أن يعلمه الجميع، أجملته تلك الكلمات البسيطة التى عبر المصريون من خلالها عن معتقد هام يظهر في العديد من الآيات والأحاديث الصحيحة، معتقد: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ} [النجم جزء من الآية: 32]، ومسلمة أن الله وحده يعلم مصير الإنسان ومآله وحقيقة تقواه ودينه: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّـهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]
لقد لخص النبي ذلك المعنى فى جملة قالها يوم موت صاحبه عثمان بن مظعون، وجاء البعض يزكونه، ويجزمون له بالجنة، فقال: «واللهِ ما أدرى - وأنا رسولُ الله - ما يُفعَلُ بى ولا بِكم»، ورغم ما له من مبشرات ومنزلة عند ربه، إلا أنه على ما يبدو أراد التعميم لترك الأمر كله لله، وإثبات تمام الافتقار والتسليم المطلق فى أمر المصير إليه حتى مصيره هو نفسه.
ولما جاء الصحابة يزكون رجلاً مات أثناء الجهاد، إذا بالنبى يفاجئهم بأنه ليس كما يتصورون، وأن الرجل إنما اتكأ على سيفه وقتل نفسه.
وغير ذلك من الآيات والأحاديث التى يمكننا من خلالها تبين تلك الحقيقة، التى من المفترض كما قلت وكما بدا من المثل أنها بديهية ومنطقية.
لكن للأسف الشديد، أصحاب هذا السلوك قد نسوا أو تناسوا تلك الحقيقة، وظهر من خلال لسان حالهم ومقالهم أنه قد تسربت إليهم دون أن يشعروا خصلة من خصال من قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة جزء من الآية: 18] صحيح أنهم لم يقولوها بتلك الفجاجة والاستعلاء، لكنهم أكدوا معناها من خلال نفيهم المستمر لإمكانية فتنتهم أو فتنة من يحلو لهم تزكيتهم من سادتهم وكبرائهم ويصرون على إضفاء العصمة والقداسة على دينهم وعقيدتهم وكأنهم اطلعوا على ما في قلوبهم أو كأنهم اتخذوا عند الله عهدا، فيه ذلكم الجزم المزعوم أنهم أو سادتهم وكبراؤهم بمنأى عن الفتن وبمعزل عن الضلال إلى يوم الدين!.
العجيب أن الصحابة أنفسهم كانوا يخشون على أنفسهم النفاق، ولا يأمن أحدهم على نفسه لهذه الدرجة
بل وحتى الأنبياء كانوا يحرصون على دعاء ربهم بالثبات، واجتناب عبادة الأصنام، وما دعاء سيدنا إبراهيم وسيدنا يوسف عليهما السلام بالشىء الذى يغيب عن الأذهان، لقد دعا الأول ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، بينما طلب الثاني الوفاة على الإسلام، واللحاق بالصالحين، كما تضرع نبينا لمقلب القلوب كي يثبته على دينه. وتعوذ من الحور بعد الكور وتعوذ من الكفر ومن الشرك
فمن أين يأتي أصحاب ذلك النمط العجيب بكل هذا الأمن والاطمئنان والجزم الراسخ أنهم بمنأى عن الفتن؟
وناهيك عما فى تلك الأقوال من كبر وافتئات على علم الله بمآلات ومصائر العباد، فإن تلك المقولات والأفكار تنافي الواقع والتاريخ، فهل هناك شخص أو مجموعة أو حتى أمة يمكن أن يقال عنها أنها بمعزل عن التغير والتحول والتبدل؟....الجواب لا.
كم من أناسٍ كانوا على أعلى درجات التزكية ثم نكسوا على رؤوسهم وضلوا وأضلوا وفتنوا وفتنوا غيرهم ولعل من أوضح أمثلة ذلك، النموذج الذي نتحدث عنه بلعام الذي آتاه الله آياته لكنه أخلد إلى الأرض وانتكس وأيضًا نموذج برصيصا الذي كان منقطعًا للعبادة ثم زنى وارتكس وغيرهما.
ببساطة الحي لا تؤمن عليه الفتنة، والمآل والمصير ومكنون الصدور وما تحويه القلوب كل ذلك = غيب لا يعلمه إلا الله، فلا أدري صدقًا من أين يأتي أخونا المغسل وضامن الجنة بهذه الأطنان من التزكية للنفس وللغير والتي يوزعها يمنة ويسرة ويكأنه يوزع من إرث تركه له السيد الوالد، أيها المزكي لنفسك ولغيرك هون عليك واعرف قدرك فما نحن إلا عباد لله لا نملك لأنفسنا شيئًا ولولا أن يثبتنا الله ويتغمدنا برحمته ويكلؤنا بفضله ما زكى منا أحد أبدًا، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى
أخيرا أقول: إن نموذج الذي أوتي آيات الله فانسلخ منها، يعد من أخوف النماذج التي ذكرت في القرآن وأشدها إثارة للاعتبار والتأمل، لكنه أيضًا من أكثرها منطقية ووضوحًا، ذلك بأن الجاهل قد يعذر بجهله إن زل أو ضل، لكن أن يتخلى عالمٌ عما أوتي من الفضل ويتنكر لما حباه به ربه من العلم ويترك السبيل الذي عرفه وخبره وفقهه، فتلك هي المصيبة التي يتناسب معها ثقل المثال والتشبيه.
إن عظم المكانة والدرجة يستلزم تعاظم المسؤولية والتكليف ولئن تخلي العالم عن تلك المسؤولية فمن يقوم بها إذاً؟!، فكيف وإن لم يتخل فقط بل ضل وأضل غيره واستعمل علمه في تزيين الباطل وترسيخ أركانه كما فعل بلعام السابق، ويفعل وسيفعل كل بلعام
إنها تظل نموذجاً لكل من آتاه الله علما وأكرمه بآياته فنأى عنها وأعرض واستبدلها بعرضٍ زائل فصار في النهاية مجرد...كلب..كلب يلهث!
- التصنيف: