القول البادي في تحريم الاحتفال بالعام الميلادي
قال الإمام ابن تيمية: "وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم، أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟"
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا.
والصلاة والسلام على من سدّ الله به التشريع، وختم به الرسالات.
وبعد:
فلا يشك مسلم يؤمن بالله ورسوله أن الله أكمل لنا دينه؛ لأنه يقرأ قول الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ } [المائدة من الآية:3] وأن الله لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم إليه إلا بعد التمام والكمال والبيان.
وعليه فإن ما نسمعه في رأس كل سنة ميلادية من التباهي والاحتفال من بعض المسلمين لهو تنكب عن كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأن مقتضى الاحتفال كان موجوداً في زمنه عليه الصلاة والسلام، وزمن أصحابه، ولم يحتفلوا به أو يدعوا إليه، أو يهنئوا به، ولم يكن هناك ما يمنع من إقامته، بل نجد تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من مشابهة المشركين وأهل الكتاب، وكذلك الصحب الكرام.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].
قال مجاهد في تفسيرها: "إنها أعياد المشركين"، وكذلك قال مثله الربيع بن أنس، والقاضي أبو يعلى والضحاك.
وقال ابن سيرين: "الزور هو الشعانين".
والشعانين: عيد للنصارى يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصح ويحتفلون فيه بحمل السعف، ويزعمون أن ذلك ذكرى لدخول المسيح بيت المقدس كما في (اقتضاء الصراط المستقيم: [1/537]).
والسنة ملأى بالتحذير من ذلك، فمنها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "قدمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ ولَهم يومانِ يلعبونَ فيهما فقالَ: «ما هذانِ اليومانِ» قالوا: "كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّةِ" فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما يومَ الأضحى ويومَ الفطرِ»" (صحيح أبي داود [1134]).
فلم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: «إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما» والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه؛ إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «خيراً منهما» يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية.
وقد نقل الإجماع على تحريم ذلك؛ لأن مما هو معلوم من السير أن اليهود والنصارى ما زالوا في أمصار المسلمين يفعلون أعيادهم التي لهم، ومع ذلك لم يكن في عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك.
وكذلك ما فعله عمر في شروطه مع أهل الذمة التي اتفق عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم: أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإنما كان هذا اتفاقهم على منعهم من إظهارهم.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "من بنى ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة".
وكلمة العلماء متفقة على حرمة المشاركة في تلك الأعياد، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم: [2/425]).
ولذلك قال ابن القيم في (أحكام أهل الذمة): "وكما أنه لا يجوز لهم إظهاره -أي: عيدهم- فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله".
وقال الإمام ابن القيم: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به؛ فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: "عيد مبارك عليك"، أو "تهنأ بهذا العيد" ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه..." (أحكام أهل الذمة: [1/161]).
وقد قال عمر رضي الله عنه: "إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم" (رواه أبو الشيخ الأصبهاني والبيهقي بإسناد صحيح).
وروى البيهقي أيضاً عن عمر أيضاً قوله: "اجتنبوا أعداء الله في عيدهم".
قال الإمام ابن تيمية: "وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم، أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟
أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟
أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟
وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم، فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟".
ثم قوله: "واجتنبوا أعداء الله في عيدهم" أليس نهياً عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف عن عمل عيدهم" (اقتضاء الصراط المستقيم: [1/515]).
وأما الاعتبار، فيقال: الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ} [المائدة من الآية:48]".
قال ابن تيمية: "فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه" (اقتضاء الصراط المستقيم: [1/528]).
وقال أيضاً: "ثم إن عيدهم من الدين الملعون هو وأهله، فموافقتهم فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه".
والاحتفال برأس السنة وغيرها محرم بلا ريب من وجوه عدة، ومنها:
١- أنها غير مشروعة لنا؛ والدين مبناه على الشرع.
٢- أن فيها مشابهة للكفار؛ فهم يحتفلون بعيد ميلاد إلههم، أو ابن إلههم -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- فكيف لنا أن نتبعهم في ذلك؟
٣- أن فيها تقليداً وتبعية للكفار، والمسلم يكون متميزاً بدينه، وبفرحه وسروره.
٤- أنه يحصل في مثل هذه الاحتفالات كثير من المنكرات؛ كالحفلات الراقصة، والأغاني الماجنة، والاختلاطات المشبوهة.
٥- أن هذا الاحتفال كان منهم معهوداً في عهد أسلافهم وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يهتموا به؛ بل ولا ذكروه؛ وإنما همشوه؛ فدل أن السنة في ذلك هو تهميش مثل هذه الأعياد وعدم الاهتمام بها، ولا الالتفات إليها.
٦- المحتفل بهذه الأعياد على خطر عظيم لأنها ذات دلالات دينية شركية، ودلالات بدعية؛ فينبغي الحذر والتحذير منه.
(ذكرها بعض الأفاضل)
قال الذهبي: "فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد، مُختصين بذلك، فلا يُشارِكهم فيه مسلم، كما لا يُشارِكهم في شِرْعتهم ولا في قِبلتهم" (تشبه الخسيس: [27]).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم، عن بعض أمته ممن تتبع سنن الكافرين، وانتهج نهجهم، واهتدى بهديهم، وذلك دلالة من دلالات النبوة، وليس ذلك منه إقراراً بذلك، بل فيه تحذير لأمته من مشابهتهم والاقتداء بهم.
عن أبي سعيدٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لتتبعن سننَ من قبلكم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو سلكوا جحرَ ضبٍّ لسلكتموه. قلْنا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنصارى ؟ قال: فمن» (صحيح البخاري [3456]).
وفي آخره: «وحتَّى لَوْ أَحَدُهُمْ جَامَعَ امرأتَهُ بالطرِيقِ لفَعَلْتُموهُ» (صحيح الجامع [5067]).
قال ابن تيمية: "هذا خرج مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعل الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة".
وقال الإمام النووي: "والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم، والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلّم". (شرح صحيح مسلم: [16/189]).
وقال ابن كثير: "والمقصود من هذه الأخبار عما يقع من الأقوال والأفعال المنهي عنها شرعاً مما يشابه أهل الكتاب قبلنا أن الله ورسوله ينهيان عن مشابهتهم في أقوالهم وأفعالهم حتى لو كان قصد المؤمن خيرا لكنه تشبه ففعله في الظاهر فعلهم". (البداية والنهاية: [2/142]).
وقال المناوي: "وذا من معجزاته فقد اتبع كثير من أمته سنن فارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم وإقامة شعارهم في الحروب وغيرها، وأهل الكتابين في زخرفة المساجد وتعظيم القبور حتى كاد أن يعبدها العوام وقبول الرشا وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء وترك العمل يوم الجمعة". (فيض القدير: [5/262]).
وقال الحافظ ابن حجر: "ووقع في حديث عبدالله بن عمرو عند الشافعي بسند صحيح: "لتركبن سنة من كان قبلكم حلوها ومرها". (فتح الباري: [15/235]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم): "مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء".
وقال ابن عثيمين: "ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم، سواء فعله مجاملة، أو تودداً، أو حياءً، أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم" (مجموع فتاواه: [3/44]).
وقد بالغ أهل العلم في التنفير من مشاركة غير المسلمين في أعيادهم.
حتى قال أبو حفص النسفي الحنفي: "من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى".
وقال الإمام مالك: "يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم لنزول السخطة واللعنة عليهم".
والآيات والأحاديث والأقوال والأفعال عن السلف دالة دلالة واضحة على منع مشاركتهم في أعيادهم، أو تهنئتهم، أو حبها، والتعاون فيها، أو إظهار شيء من ذلك لها، وإنما جاءت الأقوال الشاذة بجواز ذلك من قبل بعض المتساهلين من المعاصرين، ولا سلف لهم إلا شذوذ من الأقوال، ونتف من الأفعال التي يترخصون بها، ويأخذون بشاذها، ولا يضرون في ذلك إلا أنفسهم، ولا يفسدون إلا دينهم، وعليهم إثم من اتبعهم من الغوغاء والسفهاء، وهؤلاء -أيضاً- ليس لهم عذر في ذلك؛ لأن الحجة وصلت، والمحجة فهمت {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ } [يونس من الآية:32] فاربأ بنفسك أيها الشيخ، وانتبه لنفسك أيها المترخص، واعلم أن الكتاب والسنة قاضيان بالتحريم، والإجماع كذلك، فلم المكابرة والمدايرة؟!
وقد سمعنا عن بعض الدول العربية من جهز حفلاً يبلغ ملايين الدولارات للاحتفال والاحتفاء بعيد المشركين! فـ "إنا لله وإنا إليه راجعون" ويحسبون أنهم على شيء.
ولا أدري، أي بغض يكنونه لهم، وأي ولاء وبراء يتخذونه تجاههم؟!
والله المستعان.
وبعد هذه النصوص القاضية بتحريم ذلك.. لا يليق بمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر؛ أن يحتفل بعيد النصارى، أو يشاركهم، أو يعاونهم، أو يهنئهم؛ لأن ذلك محض حب واستخذان، وطاعة واستبطان.
نسأل الله السلامة والعافية.
هذا ما استطعت كتبه وتجميعه من كلام العلماء من المتقدمين والمعاصرين {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود من الآية:88] { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب من الآية:4].
وليد بن عبده الوصابي
- التصنيف:
- المصدر: