(1) تعريف بإمام أهل السنة
سلمان بن فهد العودة
وصف أحمد بإمام السنة صار علماً بالغلبة، حيث صبر في المحنة ولم يجب إلى الفتنة، ونشر السنة، فصار إماماً لأهلها، فلا تجد في عامة المذاهب إلا الثناء على الإمام أحمد وتبجيله والدعاء له والتأسي به، ولا يعني هذا قصر الاتباع والسنة على أتباعه في الفروع فالأمة كلهم على خير واتباع وسنة رحمهم الله ورضي الله عنهم وأرضاهم.
- التصنيفات: تراجم العلماء -
وصف أحمد بإمام السنة صار علماً بالغلبة، حيث صبر في المحنة ولم يجب إلى الفتنة، ونشر السنة، فصار إماماً لأهلها، فلا تجد في عامة المذاهب إلا الثناء على الإمام أحمد وتبجيله والدعاء له والتأسي به، ولا يعني هذا قصر الاتباع والسنة على أتباعه في الفروع فالأمة كلهم على خير واتباع وسنة رحمهم الله ورضي الله عنهم وأرضاهم.
الميلاد والنشأة:
أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني، أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي، خرجت به أمه حملًا في بطنها من مرو، ثم ولد ببغداد، وبها نشأ ومات رحمه الله.
كان ميلاده في بغداد في 20/3/164هـ، وطاف البلاد لطلب العلم، دخل الكوفة والبصرة وعبّادان وواسط ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، وغيرها، ورحل ماشياً إلى صنعاء اليمن، وارتحل ماشياً إلى طرسوس، مرابطاً وغازياً ، ومنعته قلة ذات اليد من الرحلة إلى الري، ليأخذ عن محدثها جرير بن عبد الحميد، وتارة منعته أمه من الرحلة شفقة عليه.
ووعد شيخه الشافعي بالرحلة إليه في مصر، لكن حالت المنية دون ذلك بوفاة الشافعي سنة (204هـ)، وهو عربي من بني ذهل بن شيبان، ولكنه كما قال يحيي بن معين: "ما افتخر علينا قط بالعربية ولا ذكرها.." [1].
بل قال عنه محمد بن الفضل: "وضع أحمد عندي نفقته، فكان يجيء فيأخذ منها حاجته. فقلت له يومًا: يا أبا عبد الله! بلغني أنك من العرب. فقال: يا أبا النعمان! نحن قوم مساكين. فلم يزل يدافعني حتى خرج ولم يقل شيئًا" [2].
إن الإمام أحمد يعلم أن الفخر ليس بالعروبة بل بالإنجاز والعمل!
الـناسُ مِن جِهَةِ التكوين أَكفاءُ *** أَبــوهُـمُ آدَمُ وَالأُمُ حَـوّاءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ *** يُـفـاخِـرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ
مـا الفَضلُ إِلا لِأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ *** عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلّاءُ
وَقَدرُ كُلِّ اِمرِئٍ ما كاَن يُحسِنُهُ *** وَلِـلـرِجالِ عَلى الأَفعالِ أسماءُ
وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ *** وَالجاهِلونَ لِأَهلِ العِلمِ أَعداءُ [3]
طلبه العلم:
طلب الحديث وهو ابن ست عشر سنة على الأكثر أي سنة (179) في العام الذي مات فيه الإمامان، مالك وحماد بن زيد، وكان أول سماعه من هُشيم بن بشير الواسطي سنة (179هـ)، وأول من كتب أحمد عنه الحديث هو أبو يوسف.
وما زال يطلب الحديث حتى مات، وقد رئي على كبر سنه وفي يده دواة وكاغد يكتب به وهو يركض بين الشيوخ، فقال له قائل: يا أحمد هذا على كبر سنك؟ فقال: "نعم. مع المحبرة إلى المقبرة" [4].
فالعلم لا يعرف الكلمة الأخيرة، والعالم مثل الذي يشرب من البحر لا يزداد بسعة علمه إلا عطشًا ورغبةً إلى العلم.
قال محمد بن إسماعيل الصائغ: "كنت أصوغ مع أبي ببغداد، فمر بنا أحمد بن حنبل وهو يعدو ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله ألا تستحي، إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟! قال: إلى الموت" [5]
وحج رحمه الله خمس حجج منها ثلاث حجج ماشيًا على رجليه وفي إحدى هذه الحجج لم تزد نفقته منذ ذهب وإلى أن رجع على ثلاثين درهمًا [6].
قال الشافعي رحمه الله: "خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل" [7].
وقال أيضًا: "أحمد بن حنبل إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة" [8].
قال ابن أبي يعلى: "وصدق الشافعي في هذا الحصر" [9].
صفته الخُلُقية والخَلْقية:
تسأل عن صفة أحمد؟!
كان بشرًا من البشر، في غاية التواضع، وكان حسن الصورة، حسن الوجه، ربعةً بين الرجال، ليس بالطويل ولا بالقصير، وهو إلى الطول أميل، يخضب بالحناء، وفي لحيته شعرات سود بعد كبره، كان أسمر شديد السمرة، غليظ الثياب، إلا أن ثيابه كانت بيضاء شديدة البياض.
قال محمد بن عباس النحوي: "رأيت الإمام أحمد وهو معتم وعليه إزار" [10].
يا سبحان الله! كان ببغداد مائة ألف أو خمسمائة ألف ممن يعتم ويأتزر لكن الرجل ينقل لنا صورة رآها.
لماذا؟
لأن الله كتب لأحمد خلود الذكر في الدنيا، فصار الناس يذكرون أدق التفاصيل عن حياته، حتى لقد نقل الناس عنه الصمت: "سئل أحمد عن كذا فسكت"، "سئل عن كذا فهز رأسه"، "سئل عن فلان فأشاح بوجهه".
كان الإمام أحمد مهيبًا، إذا رآه الإنسان هابه وامتنع عن كثير مما يريد أن يقول، حتى إن يزيد بن هارون وكان إمامًا عالمًا محدثًا صاحب نكتة ودعابة، وربما مزح مع مستمليه، فتنحنح أحمد بن حنبل وكان في المجلس، فقال يزيد: من المتنحنح؟ فقيل له: أحمد بن حنبل. فضرب بيده على جبينه وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح [11].
وكان عند إسماعيل بن عُلية بعض طلبته، فضحك بعضهم، وثَمَّ أحمد بن حنبل، قالوا: فأتينا إسماعيل فوجدناه غضبان، فقال: أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل؟ [12].
قال عبد الملك الميموني عن الإمام أحمد: "ما أعلم أني رأيت أحدًا أنظف ثوباً ولا أشد تعاهدًا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه ولا أنقى ثوبًا وشدة بياض من أحمد بن حنبل رضي الله عنه" [13].
ولم يكن في ثيابه رقةٌ تنكر، ولا غلظة تنكر، كان يحب التوسط في الملابس، وفي الحذاء وفي غيرها، لا يحب ملابس العظماء والمستكبرين والأغنياء والأثرياء والمترفين، وكان يبتعد عن الملابس التي يتميز بها الصوفية، أو المتظاهرين بالزهد والفقر والورع، لأنه لا يحب أن يتظاهر بشي من ذلك.
ومات الإمام أحمد رحمه الله سنه (241هـ) وكان عمره سبعًا وسبعين سنة.
معرفته بالكتاب والسنة والفقه:
كان رحمه الله شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وكان ينتقد إعراض الطلبة عن القرآن وتفسيره، ويقول: "تَرَك الناس فهم القرآن" [14].
وقد جمع كتابًا في الناسخ والمنسوخ، وجمع التفسير الكبير، وهو شامل لأقوال الصحابة والتابعين، وكان يحفظ من السُّنَّة على ما قيل: ألف ألف حديث [15]، ولعل هذا بالنظر إلى الأسانيد وتَشعُّبِها والطرق وتَعَدُّدِها وإلا فالمتون دون ذلك بكثير، وقد صنَّف كتابه (المسند) وفيه نحو ثلاثين ألف حديث، وكان عالمًا بعلل الآثار والأحاديث، مُميِّزًا صحيحها من سقيمها، وإليه يرجع الناس في ذلك.
وإلى ذلك كان فقيهًا في القرآن والسُّنَّة، عالمًا بمعانيها، مُتقِنًا لأحكامها، وكان أعلم أقرانه بذلك كما شهد له بذلك الأئمة كإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهما.
ولا يكاد يفوته من آثار الصحابة إلا القليل، فضلًا عن اطِّلاعه على كلام الفقهاء من الأمصار كمالك والشافعي وأبي حنيفة.
وقد عَرَض عليه جماعة مسائل مالك وفتاويه في الموطأ فأجاب عنها، وعرض عليه إسحاق بن منصور مسائل الثوري فأجاب عنها.
وكان قد كَتَب كُـتُب أصحاب أبي حنيفة وفَهِمها، وفَهِم مآخذهم، كما كان قد ناظر الشافعي وجالَسه مدة من الزمن، وأخذ عنه رضي الله عنهم أجمعين.
ولذا قال عنه أبو ثور رحمه الله: "كان أحمد إذا سُئل عن مسألة كأنَّ علم الدنيا لَوْحٌ بين عينيه" [16].
الاتباع والتجديد في حياة الإمام أحمد رحمه الله:
كان أحمد رحمه الله في جميع علومه مُستنِدًا إلى الكتاب والسنة، لا يرى إطلاق ما لم يُطلِقه السلف الصالح من الأقوال في باب الإيمان والعقائد، وكان لا يرى كثرة الخصام والجدال، ولا تَوْسعة القيل والقال، وإنما يرى الاكتفاء بالكتاب والسنة وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم، ولم يترك التَّوسُّع في الكلام إلا تَفَقُّهًا واكتفاءً بالوارد، وتَجَنُّبًا لإضافة ما لم يرد، مما يترتب عليه تضييق على العباد.
وقد صحَّ عنه كثيرًا القول في المسائل الفرعية باجتهاده، كما يقول ابن رجب رحمه الله: "ولقد كان رضي الله عنه في جميع علومه مستندًا بالسنة، لا يرى إطلاق ما لم يُطلِقه السلف الصالح من الأقوال، ولا سيما في علم الإيمان والإحسان، وأما علم الإسلام فكان يُجِيب فيه عن الحوادث الواقعية مما لم يسبق فيها كلام، للحاجة إلى ذلك" [17].
ومع هذا كان يكره تشقيق المسائل، والإفراط في الفرضيات؛ لما ورد عن السلف في النهي عن افتراض المسائل [18].
وهذا مسلك جيد يقتصر في الأصول على ما ورد ولا يتجاوزها، ويجتهد في الفروع النازلة بحسب الحاجة، ويُحْجِم عن الجدليات والظنون والأغلوطات.
[1] انظر: تاريخ بغداد (4/414)، تاريخ دمشق (5/257).
[2] انظر: تاريخ الإسلام (18/66).
[3] الأبيات تنسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي في ديوانه (ص/35).
[4] مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/37).
[5] المناقب لابن الجوزي (ص/37).
[6] المرجع السابق.
[7] انظر: تاريخ بغداد (4/419)، تاريخ دمشق (5/272).
[8] انظر: طبقات الحنابلة (1/5).
[9] طبقات الحنابلة (1/5).
[10] انظر: سير أعلام النبلاء (11/184).
[11] انظر: سير أعلام النبلاء (11/194)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (7/233).
[12] تاريخ دمشق لابن عساكر (7/231).
[13] انظر: صفة الصفوة (2/340)، سير أعلام النبلاء (11/208)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/293).
[14] انظر: الآداب الشرعية (2/71).
[15] السير (11/187) قال الذهبي: "وهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله..".
[16] انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص9).
[17] انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (ص48).
[18] انظر: مقدمة سنن الدارمي.