هل تريد أن تكون سعيداً ؟ ... الحلقة الأولى
منذ 2001-04-29
عفوا...... هل تريد أن تكون بائســـاً؟..
إذن عليك بالنمط الغربي.. قلده في كل شيء، واجر وراءه، وعظم أولياءه، وادع إليه..
حينها وأثناءها وبعدها، وربما قبلها بقليل:
سترى البؤس بأم عينيك.. سترى الضيق والقلق، والكبت والضجر.. سيكون صدرك ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء.. ستختلط أخلاقك وقيمك، وستتبخر أوصافك الحميدة، وستفقد صحتك الجميلة، وتشيخ قبل أوانك، وتموت قبل أن تقضي آمالك...
طبعا إن كنت عاقلا فأنت لا تريد أن تكون كذلك.. وليس ثمة عاقل متيقظ يريد أن يكون كذلك...
لكن كثيرا يركضون نحو البؤس، وهم يشعرون، وهؤلاء ليسوا بعقلاء..
أو لا يشعرون، وهؤلاء في غفلة ...
قطعا ستقول: أين دليلك على ما تقول؟..
سأقول لك: ليس دليلي قولي، بل قولهم.. سآتيك باعترافهم.. هم..
وإذا جاءتك الشهادة من أهلها، فلن تكون مزورة ولا كاذبة..
أليس كذلك؟..
إذن، تابع معي هذا الكتاب:
-------------
وكتابه " الإنسان ذلك المجهول" أشهر كتبه، وقد استقبل بحماسة بالغة عندما نشر لأول مرة، وأعيد طبعه عدة مرات، لأنه يشتمل على كثير من تجاربه عن الإنسان والحياة من وجهة نظر علمية بحتة..
هذا الكتاب يحكي تعاسة الإنسان الغربي الناشئ في أحضان الحضارة الصناعية المادية، ويقر بعجزه عن تحقيق:
السعادة الدائمة.. والبقاء بلا ذبول وضعف.. والحياة الأبدية..
كما يبين فيه عنصرية الكاتب، وتفضيله للرجل الأبيض الغربي على سائر البشر في الأرض.
هذا الكتاب وثيقة هامة كتبها رجل خبير بجسم الإنسان وما فيه من عمليات، خبير بحياة الغرب وما فيها من تعقيدات خطيرة انعكست آثارها على خلق ونفسية الإنسان الغربي..
لقد لمس مكمن الداء في حياة الغرب، وشهد بأن أمة الغرب تدمر نفسها بنفسها بما تنتجه من وسائل ظاهرها الراحة والمتعة والأمن، لكن باطنها المرض والكد والتعب والذبول والخوف..
ويكمن أهمية هذا الكتاب مع عرض ما فيه، أن تلك الوسائل المادية المخترعة في الغرب والتي كانت سببا لشقاء الإنسان الغربي وصلت إلينا بقضها وقضيضها وتغلغلت فينا، فبدأت حياتنا تنقلب وتصبح كحياة الغرب، ومعنى هذا أننا بدأنا وصرنا نسير في نفس الطريق الذي سار فيه الغرب..
فهل سنرث شقاءهم؟..
كثير من فقهاء الإسلام وأهل العلم حذروا منذ القديم من المبالغة في اتخاذ وسائل المتعة الزائدة، بل في القرآن والسنة التحذير من المبالغة الكبيرة في الاهتمام بأمور وشئون الدنيا، كقوله تعالى:
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}..
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً ومتعلماً ) ..
وقد كان من الدعاء النبوي المشهور:
( اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) ..
وهو كلام متين محكم.. لكن كثيرا من المسلمين لم يفقهوه حقا كما ينبغي، وأقبلوا على الدنيا إقبال الظمآن على الماء، وغرهم وفتنهم ما في الغرب من حضارة مادية، ظانين أنها تخلصهم من عناء الدنيا..
وقد نجد أنفسنا مضطرين لذكر تجارب واعترافات ألمع رجال الغرب وتقييمهم للحضارة المادية، ردا على من فتن بها من إخوتنا وأخواتنا..
قد لا يكون المؤمن محتاجا لمثل ذلك، لأن يقينه بكلام الله تعالى كاف لأن يجزم بخراب وفساد كل ما يخالف الدين المنزل، وإذا أخبر بأن الدنيا غرور وملعونة، فهي كذلك، مهما جاءت متزينة، وإذا احتاج إلى سماع كلام واعترافات الكفار فهو من باب: { ليطمئن قلبي }، فقط لا غير..
لكن هنالك جمع من إخوتنا وأخواتنا لا يأتيهم اليقين ولا يزول عنهم الشك في بطلان الحضارة المادية وفتنتها إلا بالوقوف على كلام أهلها وسماع إقرارهم بلعنة الدنيا وخطر المبالغة بها.. وهذا من ضعف إيمانهم بالله تعالى..
ولهؤلاء، ولكي يزداد المؤمنون إيمانا ننقل جملا مما اعترف به هذا الدكتور الخبير في شئون الإنسان النفسية والبدنية، وبين فيها خطورة الإغراق في متاع الدنيا.. يقول:
" قبل أن أبدأ كتابة هذا الكتاب، كنت أدرك صعوبة هذا العمل، بل استحالته تقريبا، ولكنني شرعت فيه لأنني كنت أعلم أن شخصا ما لا بد سيؤديه، لأن الناس لا يستطيعون أن يتبعوا الحضارة العصرية في مجراها الحالي لأنهم آخذون في التدهور والانحطاط، لقد فتنهم جمال علوم الجماد..
إنهم لم يدركوا أن أجسامهم ومشاعرهم تتعرض للقوانين الطبيعية وهي قوانين أكثر غموضا، وإن كانت تتساوى في الصلابة مع قوانين الدنيا، كذلك فهم لم يدركوا أنهم لا يستطيعون أن يعتدوا على هذه القوانين دون أن يلاقوا جزاءهم، ومن ثم يجب أن يتعلموا العلاقات الضرورية للعالم الدنيوي، ولأترابهم أبناء آدم، وذاتهم الداخلية، وتلك التي تتصل بأنسجتهم وعقولهم..
فإن الإنسان يعلو كل شيء في الدنيا، فإذا انحط وتدهور، فإن جمال الحضارة، بل حتى عظمة الدنيا المادية لن تلبث أن تزول وتتلاشى..
لهذه الأسباب كتبت هذا الكتاب...
من الواجب أن يحول اهتمام البشرية من الآلات وعالم الجماد إلى جسم الإنسان وروحه...
إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا..
((( فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف، وكثيرون منا يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث)))...
ولهؤلاء كتب هذا الكتاب، كذلك كتب لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية، بل أيضا ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشرية، فهذا الكتاب إذن كتب لكل شخص يتولى تنشئة الأطفال وإعداد الفرد أو قيادته".. 11-12
بعد أن بين سبب تأليف الكتاب، شرع في بيان تعقيد الإنسان وأنه لا زال مجهولا، وأن أسئلة كثيرة تدور حوله لا جواب عليها، قال:
" وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جواب جوانب معينة فقط في أنفسنا.. إننا لا نفهم الإنسان ككل..
فنحن لا نعرف حتى الآن الإجابة على أسئلة كثيرة مثل:
كيف تتحد جزيئات المواد الكيماوية لكي تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية؟..
كيف تقرر الجين الموجود في نواة البويضة الملقحة صفات الفرد المشتقة من هذه البويضة؟..
كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء؟..." إلخ ص18
أسئلة كثيرة طرحها لعلميات تجري في جسم الإنسان: كيف تحدث؟.. لم يجد إجابة عليها...
وأسئلة كثيرة طرحها تتعلق بسعادة الإنسان وشقائه، كيف يمكن ضبطها؟..
لم يجد إجابة عليها، لأنه ربما كان يعيش إلحادا حقيقيا، يدل على ذلك بعض كلماته وألفاظه في الكتاب.. وانظر: 64،129،171،233،297
والمسلم يملك الجواب بإيمانه، فكل ما في الجسد من عمليات بمشيئة الله تعالى وأمره، وكنهها وحقيقتها متعلقة بالروح، فإذا عدمت الروح عدمت تلك العلميات، وحركة الإنسان ذاته جزء من تلك العلميات وناتج عنها..
وليس الغرض أن نبحث عن تلك الأمور، وليس من اختصاصنا أن نتوصل إلى كنهها وحقيقتها، بل ولا فائدة من ذلك، إذ الغرض من الخلق ليس هو البحث عن ذلك، إنما الغرض هو القيام بالأوامر الإلهية:
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.. لكن الغرب لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ومن غرضه أن يتوصل إلى حقيقة الحياة وكيف تجري في الإنسان ليتوصل من ذلك إلى شيء أخطر وأكبر وهو محاولة بث الروح في الأموات وإعادة الحياة إليهم، بل وصناعة البشر بأيدي البشر..
لكن الروح كان العائق أمام طموحاتهم، فمهما صنعوا وأبدعوا إلا أنهم لا يملكون بث الروح والحياة في مخلوقاتهم أبدا..
إن الرجل الغربي بلغ من تشبثه بالحياة أن بذل الجهد والمال وحطم الأخلاق ليحول بين نفسه وبين الموت، أو على الأقل بين نفسه وبين الشيخوخة والكبر والهزال، لكنه أسقط في يده، وخاب مسعاه، فلم يستطع أن يحقق تقدما في الحفاظ على شباب الإنسان وموفور قوته وصحته، فضلا أن يمنع وقوع الموت..
وهنا أجد الفرصة مناسبة لأذكر مثلا حيا على ذلك:
الفقهاء لدينا اختلفوا في المسألة، بين محرم ومبيح..
فأما المبيح فنظر من حيث إن التداوي جائز، وهذا من التداوي، ومن الضرورة..
وأما المحرم فنظر من حيث إن المتبرع بالعضو هو في الأصل لا يملك الحق في التبرع بشيء من جسده، لأن التبرع لا يكون إلا عن ملكية، وهو في الحقيقة لا يملك جسده، بل هو أمانة عنده..
وليس مبحثنا تقرير أحد القولين، إنما الغرض بيان أن فكرة زراعة الأعضاء وكذا الاستنساخ ما هي إلا أفكار مصدرها والدافع إليها التشبث بالدنيا، ولو كان على حساب الآخرين، أي الإنسان الغربي يريد أن يسخر كل شيء لبقائه حيا حتى بني البشر، فلا مانع لديه أن يسخر العلم والمال بل والأخلاق من أجل أن يعيش، لا بأس أن يستولي على أعضاء البشر ونفوسهم كي يتمتع هو بالحياة، وذلك الكلام ليس من فراغ، بل الحقائق والأخبار تؤكد هذا كل يوم..
إذا كان الغرب يستجيز لنفسه اختطاف الأطفال وقتلهم وإجهاض الأجنة لاستخراج مواد تافهة من أجسادهم مثل مواد التجميل، فهل يتورع عن قتل الإنسان من أجل أن يحصل على أعضائه؟..
المشكلة أن نفس الفكرة انتقلت إلى المسلمين الذين تشبهوا بالكفار في التشبث بالدنيا وكأنهم خالدون فيها، واجتهدوا في البحث عن فتاوى تؤيد هذا الفعل، وقد وجدوا من يفتي بذلك..
وإن كان هناك من لا شك دافعه إنساني، نظر إلى حالة المريض وحاجته إلى الصحة والحياة، ولم ينظر إلى حالة المتبرع، وكيف أنه سيتضرر بالتبرع، مهما قيل إنه لن يتضرر?..
فما خلق الله شيئا في بدن الإنسان إلا لوظيفة، وإزالته لا شك أنه إضرار إن لم يكن كليا فهو جزئي، وكذا لم ينظر إلى حقيقة أمر الشرع بالوجوب على الحفاظ على البدن، وأنه أمانة، لا يحق لصاحبه أن يتصرف فيه، بل هو مؤاخذ إذا أساء في ذلك:
فمن قتل نفسه فهو في النار، كما صح الأثر ..
وقد جعل الشرع دية العينين والأذنين والأنف والذكر كدية النفس..
وحرمة المسلم حيا كحرمته ميتا، كما في الأثر .. فلا فرق بين كونه حيا أو ميتا في مثل هذا..
لكن كل هذا ألغي تماما ونظر إلى جانب واحد وهو صحة المريض وبقائه حيا، وهدمت لأجل ذلك وحطمت القيم والأوامر الإلهية..
ومن المستفيد؟..
إنما هي فئة معينة هم الأغنياء الذين يملكون ثمن الزراعة..
ومن مصدر تلك الأعضاء؟..
هم الفقراء الذين لا يملكون شيئا، فيضطر أحدهم لبيع عضو من أعضائه، لينعم بمال يقيم به حياته البائسة، صار فقره وبالا عليه، فلم يعد يملك دفعه إلا ببيع شيء جسده..
هو امتهان كبير للإنسان، نراه اليوم ونسمع به في الدول الفقيرة كالهند وغيرها، منتهى البشاعة والخسة واحتقار الإنسان أن يغدو بدنه سلعة يتاجر بها، استغلالا لحاجته..
إذا كان للغرب المبرر ليعمل على تحقيق فكرة زراعة الأعضاء، وهو نظرة الاستعلاء على الغير والتشبث بالحياة، فإن المسلمين لم يكن لهم الحق في ذلك ودينهم يأمرهم بالرحمة بالآخرين، وأن يحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ويحذرهم من زخرف الدنيا، ويبشرهم بأن الآخرة خير من الدنيا وما فيها..
لكن داء الغرب: الاستعلاء والكبر، وحب الدنيا..
سرى في المسلمين بسبب قلة التدين والإعجاب والفتنة بالحضارة، حتى صار همّ الإنسان المسلم أن يحيا الحياة ليتمتع بأكبر قدر من المتع الكثيرة التي أنتجتها الحضارة، ولو كان على حساب الآخرين..
لقد كانت هذه الفكرة ( زراعة الأعضاء ) ناتجة من الغرب، الذي لا يحفل بالإنسان، يقتله من أجل أن يعيش، ولا مانع من أن ينتهك جسده، ليبيعه من أجل أن يعيش، يقول الدكتور كارل مترجما عن شعوره وشعور كل الغربيين تجاه الآخرين:
" والجنس الأبيض، منشئ الحضارة، هو أصلب الأجناس كلها" ص14
"الأجناس الوضيعة تسكن عادة البلاد التي يكون ضوءها قويا ومتوسط درجة حرارتها مرتفعة". ص245.. وانظر130،179،242،328،335،341.
لكن لماذا كان الجنس الأوربي مفضلا على سائر الأجناس؟؟
يعلل ذلك بأمرين:
الأول:
أصل الذات وتكوين الجهاز العصبي، فيقول:
" وتدين الأجناس البيضاء بنجاحها إلى كمال جهازها العصبي، إذ على الرغم من أن جهازها العصبي رقيق للغاية وسريع الاهتياج فإن في الإمكان السيطرة عليه، وترجع سيادة الأجناس البيضاء إلى الصفات الاستثنائية لأنسجتها واحساساتها".. ص131
الثاني:
البيئة..... يقول:
"ولقد ثبت أن الإنسان المتحضر يفسد في الطقس الاستوائي، وعلى العكس من ذلك فإنه ينجح في الجو البارد، وآية ذلك أنه يحتاج إلى طريقة في الحياة تشتمل على نضال مستمر، وبذل الجهد العقلي والعضلي، واتباع نظام فسيولوجي وأدبي، كذا بعض الاحتياجات الخاصة، فمثل هذه الأحوال تعود الجسم على الإجهاد والأحزان، إنها تحميه من المرض وبخاصة الأمراض العصبية، كما أنها تدفع الإنسان دفعا لا يقاوم ليتغلب على العالم الخارجي".. ص132.
إنه مأخوذ ومغرم ومفتون، فتن بالحضارة المادية التي أنتجها الغرب، ففضلهم على سائر البشر، ونسي الحضارات التي شهدها العالم على أيدي غيرهم خاصة المسلمين الذين نشئوا في البلاد الحارة صيفا والباردة شتاء، يومها كانت أوربا في قمة التخلف، كانوا يعيشون في القرون الوسطى، وكانت تسمى بالعصور المظلمة، من سماها كذلك؟..
هم سموها، إذن هم يعترفون بتخلفهم وعيشهم في الظلام يوم كان المسلمون يعيشون في النور والتقدم والحضارة، وحضارتهم لم تكن إلا حسنة من حسنات المسلمين عليهم، لما علموهم طرق العلم والبحث في وقت كانوا أجهل الجاهلين بها، فكيف انقلبوا بين شمس وضحاها أرقى الأجناس البشرية؟..
إنه بمقتضى تعليله يجب أن يكون الجنس الأوربي راقيا منذ بدء الخليقة ووجودها على الأرض...
لكن التاريخ يشهد أنهم لم يكونوا كذلك في كل التاريخ، بل مرت عليهم أطوار وقرون تمتد إلى ألفي عام وأكثر كانوا فيها همجا لا يفقهون شيئا، وهذا ينقض دعوى الدكتور من أصله..
فما حكاه من سبب لتفوق ورقي الجنس الأوربي موجود فيه باستمرار دون انقطاع، فالجهاز العصبي لم يتغير، والبيئة لم تتغير، ومع ذلك عاش في تخلف..
إذن على الرغم من بحوث هذا الدكتور وقدرته وشهرته إلا أن التعصب أعماه عن الحقيقة، وفضل بغير برهان صحيح..
هذا ومن المعلوم أن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وله فائدة، ما خلق الهواء البارد والحار إلا لحكمة وفائدة، والعدل الأخذ من كل شيء بالمقدار المناسب، فمقتضى العقل أن يكون المتعرض للهواء البارد على الدوام ناقص كنقص المتعرض للهواء الحار على الدوام، وإنما الكمال في المتعرض لهذا تارة وهذا تارة...
وعلى ذلك فالذي يعيش في بيئة تجمع بين البرودة والحرارة، كجزيرة العرب، أكمل من الذي يعيش في بيئة منفردة بأحد الطقسين...
إذ سيناله أوصاف ومزايا كل طقس، فالبرودة تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير، والحرارة تزرع فيه العاطفة والحركة... بخلاف من ينفرد بالطقس البارد فإنها تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير دون العاطفة، والعكس فيمن يعيش في طقس حار، وبما أن الإنسان لا يكمل حتى يجمع بين العقل والعاطفة، فالكامل والأرقى هو من عاش في بيئة تجمع بينهما، وهذا أمر شهد به المفكرون وجزم به ابن خلدون في مقدمته (1)، بل ونصوص السنة تشهد بذلك حين فضلت العرب (2) ، وهم ساكنوا الجزيرة على غيرهم من سائر البشر..
إذن هذه الحقائق تثبت عكس ما زعمه الدكتور..
في الحلقة القادمة نتكلم عن وصفه لحياة الغرب في ظل الحضارة المادية...
_________________________
(1) مقدمة ابن خلدون ص82-87، المقدمة الثالثة والرابعة..
(2) من ذلك: ( أنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم... .).. رواه أحمد.. فهذا يدل على فضل العرب،والنبي صلى الله عليه وسلم منهم..
ومن ذلك: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).. رواه مسلم، مختصر مسلم 1523.
إذن عليك بالنمط الغربي.. قلده في كل شيء، واجر وراءه، وعظم أولياءه، وادع إليه..
حينها وأثناءها وبعدها، وربما قبلها بقليل:
سترى البؤس بأم عينيك.. سترى الضيق والقلق، والكبت والضجر.. سيكون صدرك ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء.. ستختلط أخلاقك وقيمك، وستتبخر أوصافك الحميدة، وستفقد صحتك الجميلة، وتشيخ قبل أوانك، وتموت قبل أن تقضي آمالك...
طبعا إن كنت عاقلا فأنت لا تريد أن تكون كذلك.. وليس ثمة عاقل متيقظ يريد أن يكون كذلك...
لكن كثيرا يركضون نحو البؤس، وهم يشعرون، وهؤلاء ليسوا بعقلاء..
أو لا يشعرون، وهؤلاء في غفلة ...
قطعا ستقول: أين دليلك على ما تقول؟..
سأقول لك: ليس دليلي قولي، بل قولهم.. سآتيك باعترافهم.. هم..
وإذا جاءتك الشهادة من أهلها، فلن تكون مزورة ولا كاذبة..
أليس كذلك؟..
إذن، تابع معي هذا الكتاب:
-------------
"الإنسان ذلك
المجهول"...
ك تاب كتبه الطبيب الدكتور الفرنسي ألكسيس كارل الذي عاش في الفترة ما
بين 1873م ـ 1944م، عمل في معهد روكفلر للأبحاث العلمية بنيويورك،
ومنح جائزة نوبل لأبحاثه الطبية الفذة. وكتابه " الإنسان ذلك المجهول" أشهر كتبه، وقد استقبل بحماسة بالغة عندما نشر لأول مرة، وأعيد طبعه عدة مرات، لأنه يشتمل على كثير من تجاربه عن الإنسان والحياة من وجهة نظر علمية بحتة..
هذا الكتاب يحكي تعاسة الإنسان الغربي الناشئ في أحضان الحضارة الصناعية المادية، ويقر بعجزه عن تحقيق:
السعادة الدائمة.. والبقاء بلا ذبول وضعف.. والحياة الأبدية..
كما يبين فيه عنصرية الكاتب، وتفضيله للرجل الأبيض الغربي على سائر البشر في الأرض.
هذا الكتاب وثيقة هامة كتبها رجل خبير بجسم الإنسان وما فيه من عمليات، خبير بحياة الغرب وما فيها من تعقيدات خطيرة انعكست آثارها على خلق ونفسية الإنسان الغربي..
لقد لمس مكمن الداء في حياة الغرب، وشهد بأن أمة الغرب تدمر نفسها بنفسها بما تنتجه من وسائل ظاهرها الراحة والمتعة والأمن، لكن باطنها المرض والكد والتعب والذبول والخوف..
ويكمن أهمية هذا الكتاب مع عرض ما فيه، أن تلك الوسائل المادية المخترعة في الغرب والتي كانت سببا لشقاء الإنسان الغربي وصلت إلينا بقضها وقضيضها وتغلغلت فينا، فبدأت حياتنا تنقلب وتصبح كحياة الغرب، ومعنى هذا أننا بدأنا وصرنا نسير في نفس الطريق الذي سار فيه الغرب..
فهل سنرث شقاءهم؟..
كثير من فقهاء الإسلام وأهل العلم حذروا منذ القديم من المبالغة في اتخاذ وسائل المتعة الزائدة، بل في القرآن والسنة التحذير من المبالغة الكبيرة في الاهتمام بأمور وشئون الدنيا، كقوله تعالى:
{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}..
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً ومتعلماً ) ..
وقد كان من الدعاء النبوي المشهور:
( اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) ..
وهو كلام متين محكم.. لكن كثيرا من المسلمين لم يفقهوه حقا كما ينبغي، وأقبلوا على الدنيا إقبال الظمآن على الماء، وغرهم وفتنهم ما في الغرب من حضارة مادية، ظانين أنها تخلصهم من عناء الدنيا..
وقد نجد أنفسنا مضطرين لذكر تجارب واعترافات ألمع رجال الغرب وتقييمهم للحضارة المادية، ردا على من فتن بها من إخوتنا وأخواتنا..
قد لا يكون المؤمن محتاجا لمثل ذلك، لأن يقينه بكلام الله تعالى كاف لأن يجزم بخراب وفساد كل ما يخالف الدين المنزل، وإذا أخبر بأن الدنيا غرور وملعونة، فهي كذلك، مهما جاءت متزينة، وإذا احتاج إلى سماع كلام واعترافات الكفار فهو من باب: { ليطمئن قلبي }، فقط لا غير..
لكن هنالك جمع من إخوتنا وأخواتنا لا يأتيهم اليقين ولا يزول عنهم الشك في بطلان الحضارة المادية وفتنتها إلا بالوقوف على كلام أهلها وسماع إقرارهم بلعنة الدنيا وخطر المبالغة بها.. وهذا من ضعف إيمانهم بالله تعالى..
ولهؤلاء، ولكي يزداد المؤمنون إيمانا ننقل جملا مما اعترف به هذا الدكتور الخبير في شئون الإنسان النفسية والبدنية، وبين فيها خطورة الإغراق في متاع الدنيا.. يقول:
" قبل أن أبدأ كتابة هذا الكتاب، كنت أدرك صعوبة هذا العمل، بل استحالته تقريبا، ولكنني شرعت فيه لأنني كنت أعلم أن شخصا ما لا بد سيؤديه، لأن الناس لا يستطيعون أن يتبعوا الحضارة العصرية في مجراها الحالي لأنهم آخذون في التدهور والانحطاط، لقد فتنهم جمال علوم الجماد..
إنهم لم يدركوا أن أجسامهم ومشاعرهم تتعرض للقوانين الطبيعية وهي قوانين أكثر غموضا، وإن كانت تتساوى في الصلابة مع قوانين الدنيا، كذلك فهم لم يدركوا أنهم لا يستطيعون أن يعتدوا على هذه القوانين دون أن يلاقوا جزاءهم، ومن ثم يجب أن يتعلموا العلاقات الضرورية للعالم الدنيوي، ولأترابهم أبناء آدم، وذاتهم الداخلية، وتلك التي تتصل بأنسجتهم وعقولهم..
فإن الإنسان يعلو كل شيء في الدنيا، فإذا انحط وتدهور، فإن جمال الحضارة، بل حتى عظمة الدنيا المادية لن تلبث أن تزول وتتلاشى..
لهذه الأسباب كتبت هذا الكتاب...
من الواجب أن يحول اهتمام البشرية من الآلات وعالم الجماد إلى جسم الإنسان وروحه...
إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا..
((( فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف، وكثيرون منا يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث)))...
ولهؤلاء كتب هذا الكتاب، كذلك كتب لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية، بل أيضا ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشرية، فهذا الكتاب إذن كتب لكل شخص يتولى تنشئة الأطفال وإعداد الفرد أو قيادته".. 11-12
***************
بعد أن بين سبب تأليف الكتاب، شرع في بيان تعقيد الإنسان وأنه لا زال مجهولا، وأن أسئلة كثيرة تدور حوله لا جواب عليها، قال:
" وفي الحق لقد بذل الجنس البشري مجهودا جبارا لكي يعرف نفسه، ولكن بالرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جواب جوانب معينة فقط في أنفسنا.. إننا لا نفهم الإنسان ككل..
فنحن لا نعرف حتى الآن الإجابة على أسئلة كثيرة مثل:
كيف تتحد جزيئات المواد الكيماوية لكي تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية؟..
كيف تقرر الجين الموجود في نواة البويضة الملقحة صفات الفرد المشتقة من هذه البويضة؟..
كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء؟..." إلخ ص18
أسئلة كثيرة طرحها لعلميات تجري في جسم الإنسان: كيف تحدث؟.. لم يجد إجابة عليها...
وأسئلة كثيرة طرحها تتعلق بسعادة الإنسان وشقائه، كيف يمكن ضبطها؟..
لم يجد إجابة عليها، لأنه ربما كان يعيش إلحادا حقيقيا، يدل على ذلك بعض كلماته وألفاظه في الكتاب.. وانظر: 64،129،171،233،297
والمسلم يملك الجواب بإيمانه، فكل ما في الجسد من عمليات بمشيئة الله تعالى وأمره، وكنهها وحقيقتها متعلقة بالروح، فإذا عدمت الروح عدمت تلك العلميات، وحركة الإنسان ذاته جزء من تلك العلميات وناتج عنها..
وليس الغرض أن نبحث عن تلك الأمور، وليس من اختصاصنا أن نتوصل إلى كنهها وحقيقتها، بل ولا فائدة من ذلك، إذ الغرض من الخلق ليس هو البحث عن ذلك، إنما الغرض هو القيام بالأوامر الإلهية:
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.. لكن الغرب لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ومن غرضه أن يتوصل إلى حقيقة الحياة وكيف تجري في الإنسان ليتوصل من ذلك إلى شيء أخطر وأكبر وهو محاولة بث الروح في الأموات وإعادة الحياة إليهم، بل وصناعة البشر بأيدي البشر..
لكن الروح كان العائق أمام طموحاتهم، فمهما صنعوا وأبدعوا إلا أنهم لا يملكون بث الروح والحياة في مخلوقاتهم أبدا..
إن الرجل الغربي بلغ من تشبثه بالحياة أن بذل الجهد والمال وحطم الأخلاق ليحول بين نفسه وبين الموت، أو على الأقل بين نفسه وبين الشيخوخة والكبر والهزال، لكنه أسقط في يده، وخاب مسعاه، فلم يستطع أن يحقق تقدما في الحفاظ على شباب الإنسان وموفور قوته وصحته، فضلا أن يمنع وقوع الموت..
وهنا أجد الفرصة مناسبة لأذكر مثلا حيا على ذلك:
"زراعة الأعضاء"
وهي فكرة غربية بحتة، أصلها محاولة مد عمر الإنسان وإعطائه أكبر قدر
من القدرة على التمتع والسلامة من الأمراض.. الفقهاء لدينا اختلفوا في المسألة، بين محرم ومبيح..
فأما المبيح فنظر من حيث إن التداوي جائز، وهذا من التداوي، ومن الضرورة..
وأما المحرم فنظر من حيث إن المتبرع بالعضو هو في الأصل لا يملك الحق في التبرع بشيء من جسده، لأن التبرع لا يكون إلا عن ملكية، وهو في الحقيقة لا يملك جسده، بل هو أمانة عنده..
وليس مبحثنا تقرير أحد القولين، إنما الغرض بيان أن فكرة زراعة الأعضاء وكذا الاستنساخ ما هي إلا أفكار مصدرها والدافع إليها التشبث بالدنيا، ولو كان على حساب الآخرين، أي الإنسان الغربي يريد أن يسخر كل شيء لبقائه حيا حتى بني البشر، فلا مانع لديه أن يسخر العلم والمال بل والأخلاق من أجل أن يعيش، لا بأس أن يستولي على أعضاء البشر ونفوسهم كي يتمتع هو بالحياة، وذلك الكلام ليس من فراغ، بل الحقائق والأخبار تؤكد هذا كل يوم..
إذا كان الغرب يستجيز لنفسه اختطاف الأطفال وقتلهم وإجهاض الأجنة لاستخراج مواد تافهة من أجسادهم مثل مواد التجميل، فهل يتورع عن قتل الإنسان من أجل أن يحصل على أعضائه؟..
المشكلة أن نفس الفكرة انتقلت إلى المسلمين الذين تشبهوا بالكفار في التشبث بالدنيا وكأنهم خالدون فيها، واجتهدوا في البحث عن فتاوى تؤيد هذا الفعل، وقد وجدوا من يفتي بذلك..
وإن كان هناك من لا شك دافعه إنساني، نظر إلى حالة المريض وحاجته إلى الصحة والحياة، ولم ينظر إلى حالة المتبرع، وكيف أنه سيتضرر بالتبرع، مهما قيل إنه لن يتضرر?..
فما خلق الله شيئا في بدن الإنسان إلا لوظيفة، وإزالته لا شك أنه إضرار إن لم يكن كليا فهو جزئي، وكذا لم ينظر إلى حقيقة أمر الشرع بالوجوب على الحفاظ على البدن، وأنه أمانة، لا يحق لصاحبه أن يتصرف فيه، بل هو مؤاخذ إذا أساء في ذلك:
فمن قتل نفسه فهو في النار، كما صح الأثر ..
وقد جعل الشرع دية العينين والأذنين والأنف والذكر كدية النفس..
وحرمة المسلم حيا كحرمته ميتا، كما في الأثر .. فلا فرق بين كونه حيا أو ميتا في مثل هذا..
لكن كل هذا ألغي تماما ونظر إلى جانب واحد وهو صحة المريض وبقائه حيا، وهدمت لأجل ذلك وحطمت القيم والأوامر الإلهية..
ومن المستفيد؟..
إنما هي فئة معينة هم الأغنياء الذين يملكون ثمن الزراعة..
ومن مصدر تلك الأعضاء؟..
هم الفقراء الذين لا يملكون شيئا، فيضطر أحدهم لبيع عضو من أعضائه، لينعم بمال يقيم به حياته البائسة، صار فقره وبالا عليه، فلم يعد يملك دفعه إلا ببيع شيء جسده..
هو امتهان كبير للإنسان، نراه اليوم ونسمع به في الدول الفقيرة كالهند وغيرها، منتهى البشاعة والخسة واحتقار الإنسان أن يغدو بدنه سلعة يتاجر بها، استغلالا لحاجته..
إذا كان للغرب المبرر ليعمل على تحقيق فكرة زراعة الأعضاء، وهو نظرة الاستعلاء على الغير والتشبث بالحياة، فإن المسلمين لم يكن لهم الحق في ذلك ودينهم يأمرهم بالرحمة بالآخرين، وأن يحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم، ويحذرهم من زخرف الدنيا، ويبشرهم بأن الآخرة خير من الدنيا وما فيها..
لكن داء الغرب: الاستعلاء والكبر، وحب الدنيا..
سرى في المسلمين بسبب قلة التدين والإعجاب والفتنة بالحضارة، حتى صار همّ الإنسان المسلم أن يحيا الحياة ليتمتع بأكبر قدر من المتع الكثيرة التي أنتجتها الحضارة، ولو كان على حساب الآخرين..
***************
لقد كانت هذه الفكرة ( زراعة الأعضاء ) ناتجة من الغرب، الذي لا يحفل بالإنسان، يقتله من أجل أن يعيش، ولا مانع من أن ينتهك جسده، ليبيعه من أجل أن يعيش، يقول الدكتور كارل مترجما عن شعوره وشعور كل الغربيين تجاه الآخرين:
" والجنس الأبيض، منشئ الحضارة، هو أصلب الأجناس كلها" ص14
"الأجناس الوضيعة تسكن عادة البلاد التي يكون ضوءها قويا ومتوسط درجة حرارتها مرتفعة". ص245.. وانظر130،179،242،328،335،341.
لكن لماذا كان الجنس الأوربي مفضلا على سائر الأجناس؟؟
يعلل ذلك بأمرين:
الأول:
أصل الذات وتكوين الجهاز العصبي، فيقول:
" وتدين الأجناس البيضاء بنجاحها إلى كمال جهازها العصبي، إذ على الرغم من أن جهازها العصبي رقيق للغاية وسريع الاهتياج فإن في الإمكان السيطرة عليه، وترجع سيادة الأجناس البيضاء إلى الصفات الاستثنائية لأنسجتها واحساساتها".. ص131
الثاني:
البيئة..... يقول:
"ولقد ثبت أن الإنسان المتحضر يفسد في الطقس الاستوائي، وعلى العكس من ذلك فإنه ينجح في الجو البارد، وآية ذلك أنه يحتاج إلى طريقة في الحياة تشتمل على نضال مستمر، وبذل الجهد العقلي والعضلي، واتباع نظام فسيولوجي وأدبي، كذا بعض الاحتياجات الخاصة، فمثل هذه الأحوال تعود الجسم على الإجهاد والأحزان، إنها تحميه من المرض وبخاصة الأمراض العصبية، كما أنها تدفع الإنسان دفعا لا يقاوم ليتغلب على العالم الخارجي".. ص132.
إنه مأخوذ ومغرم ومفتون، فتن بالحضارة المادية التي أنتجها الغرب، ففضلهم على سائر البشر، ونسي الحضارات التي شهدها العالم على أيدي غيرهم خاصة المسلمين الذين نشئوا في البلاد الحارة صيفا والباردة شتاء، يومها كانت أوربا في قمة التخلف، كانوا يعيشون في القرون الوسطى، وكانت تسمى بالعصور المظلمة، من سماها كذلك؟..
هم سموها، إذن هم يعترفون بتخلفهم وعيشهم في الظلام يوم كان المسلمون يعيشون في النور والتقدم والحضارة، وحضارتهم لم تكن إلا حسنة من حسنات المسلمين عليهم، لما علموهم طرق العلم والبحث في وقت كانوا أجهل الجاهلين بها، فكيف انقلبوا بين شمس وضحاها أرقى الأجناس البشرية؟..
إنه بمقتضى تعليله يجب أن يكون الجنس الأوربي راقيا منذ بدء الخليقة ووجودها على الأرض...
لكن التاريخ يشهد أنهم لم يكونوا كذلك في كل التاريخ، بل مرت عليهم أطوار وقرون تمتد إلى ألفي عام وأكثر كانوا فيها همجا لا يفقهون شيئا، وهذا ينقض دعوى الدكتور من أصله..
فما حكاه من سبب لتفوق ورقي الجنس الأوربي موجود فيه باستمرار دون انقطاع، فالجهاز العصبي لم يتغير، والبيئة لم تتغير، ومع ذلك عاش في تخلف..
إذن على الرغم من بحوث هذا الدكتور وقدرته وشهرته إلا أن التعصب أعماه عن الحقيقة، وفضل بغير برهان صحيح..
هذا ومن المعلوم أن الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وله فائدة، ما خلق الهواء البارد والحار إلا لحكمة وفائدة، والعدل الأخذ من كل شيء بالمقدار المناسب، فمقتضى العقل أن يكون المتعرض للهواء البارد على الدوام ناقص كنقص المتعرض للهواء الحار على الدوام، وإنما الكمال في المتعرض لهذا تارة وهذا تارة...
وعلى ذلك فالذي يعيش في بيئة تجمع بين البرودة والحرارة، كجزيرة العرب، أكمل من الذي يعيش في بيئة منفردة بأحد الطقسين...
إذ سيناله أوصاف ومزايا كل طقس، فالبرودة تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير، والحرارة تزرع فيه العاطفة والحركة... بخلاف من ينفرد بالطقس البارد فإنها تزرع فيه الصبر والجلد والتفكير دون العاطفة، والعكس فيمن يعيش في طقس حار، وبما أن الإنسان لا يكمل حتى يجمع بين العقل والعاطفة، فالكامل والأرقى هو من عاش في بيئة تجمع بينهما، وهذا أمر شهد به المفكرون وجزم به ابن خلدون في مقدمته (1)، بل ونصوص السنة تشهد بذلك حين فضلت العرب (2) ، وهم ساكنوا الجزيرة على غيرهم من سائر البشر..
إذن هذه الحقائق تثبت عكس ما زعمه الدكتور..
في الحلقة القادمة نتكلم عن وصفه لحياة الغرب في ظل الحضارة المادية...
_________________________
(1) مقدمة ابن خلدون ص82-87، المقدمة الثالثة والرابعة..
(2) من ذلك: ( أنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خيرهم... .).. رواه أحمد.. فهذا يدل على فضل العرب،والنبي صلى الله عليه وسلم منهم..
ومن ذلك: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).. رواه مسلم، مختصر مسلم 1523.
المصدر: منتدى تحرير المرأة
- التصنيف:
محمد
منذ