اعترافات جاحد
خالد الشافعي
بينما كنت جالساً أستمع إلى خطبة الجمعة الماضية، إذ وقعت عيناي على
طفل في نحو السادسة من العمر، وهو يلهو فى حجر والده، وإذا بي أرى
مشهداً مؤلماً!! لقد اكتشفت أن ذراع الطفل اليمنى لا تنتهي بكف ولا
أصابع !!
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه واستعينه واستهديه، وأشهد ألا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما
بعد:
فبينما كنت جالساً أستمع إلى خطبة الجمعة الماضية، إذ وقعت عيناي على
طفل في نحو السادسة من العمر، وهو يلهو فى حجر والده، وإذا بي أرى
مشهداً مؤلماً!! لقد اكتشفت أن ذراع الطفل اليمنى لا تنتهي بكف ولا
أصابع، اعتصرني لألم وقاومت رغبة عارمة فيالبكاء، وجعلت أقول سبحان
الله، ترى أيهما أعظم ابتلاءاً، الوالد أم الولد؟
آلوالد الذي سيظل طيلة عمره يتعذب بمشهد ولده؟ أم الولد الذي كُتب
عليه أن يعيش حياته مفتقداً خدمات كفه اليمنى؟ ياليتها كانت كفه
الأخرى!!
ياللهول، يا آلهى! أمعقول هذا؟ إن ذراعه اليسرى هى الأخرى لا تنتهي
بكف!!
إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت بى الأرض، وشعرت بغصة شديدة فى حلقى
ولم أعد أدري ماهية شعوري تجاه الطفل والرجل، نسيت الخطبة (أسأل الله
أن يغفر لي ذلك) وامتلأت عيناي بدموع الرحمة والشفقة، وجعلت أتأمل هذا
الولد وهو يقفز ويلهو، وجعلت أتأمل الوالد وهو راض مستسلم بقضاء
مولاه، ترى ما هو شعوره وولده يقفز حوله وفوقه؟ ماهو شعوره حين يرى
مشهد النهايات الضامرة فى ذراعي ولده؟ ماهو شعوره حين يمرر الولد
أطراف ذراعيه على وجهه؟ ماهو شعوره الآن وهو يرى ولده وقد تحرك باتجاه
كولدير الماء يتحايل على الكوب وعلى مقبض المياه وعلى أكمام ثيابه
ليشرب جرعة من الماء، جرعة يشربها أحدنا دون عناء ودون حيل ودون أن
ينتبه أصلاً لحركاته.
يا إلهي! يا ربي! ياللهول! ما هذا الذى أراه؟ أكاد أسقط مغشياً عليّ!
بينما الولد قد انتهى من شرب الماء، وعاد أدراجه إلى أبيه، اكتشفت
أمراً مزلزلاً! الولد يسير على ساقين بلا كفوف أقدام !!
لا حول ولا قوة إلا بالله، انخلع قلبى، ودخلت فى نوبة ألم لا يعلمها
إلا الله، نظرت إلى الولد، تصورت وجهه وجه ولدى الأكبر (عمر) تصورت لو
أن ولداً من أولادي كان مكان هذا الولد، فأي ألم وأي معاناة (حتى آخر
العمر) إن بعض السعال من ولدي (عمر) يحيل حياتي إلى هم، ويقلب سروري
تعاسة، ولا يهدأ لي بال حتى تخبرني زوجتي في الهاتف أن ولدي صار على
ما يرام والحمد لله، فكيف لو كُتب علي أن أراه -كلما أراه- بلا أطرافه
الأربعة؟ تصور أخي الكريم، تصوري أختي الكريمة، تصوروا أنفسكم تمدون
أيديكم لطبيبة التوليد وهي تناولكم طفلكم الذي خرج إلى الدنيا لتوه
وقد تحملتم لأجل هذه اللحظة الكثير، واشتريتم له قفازات وجوارب لأجل
الشتاء، تناولتم الطفل بأسارير منفرجة رغم تعب الشهور فلما وقعت
أعينكم على طفلكم رأيتم هذا المشهد الذى يقسم المرء نصفين، والذي لو
لم يعتصم المرء فيه بدين متين ربما طاش عقله، الطفل الذي طال انتظاره
ليس له أطراف، ليس له يد يأكل ويشرب ويكتب ويدافع بها عن نفسه، وليس
له أطراف يمشى عليها ويركل الكرة التى اشتريتموها له ظناً منكم أنه
سيكون ككل الأطفال.
حين أفقت من صدمتي، وجدت عندي رغبة قوية فى أن أضع خدي -لا وجهي- على
الأرض محاولاً إظهار أقصى ما أستطبع من شكر لله عز وجل، اكتشفت ساعتها
أن عندى ملايين النعم لم ألتفت إليها، إكتشفت أننى جاحد، قليل الشكر،
إكتشفت أني غافل، مفرط، أعمى، تذكرت مشاكلى التي أراها أعقد وأصعب
مشاكل العالم بينما هي في الحقيقة -وبعد هذا الدرس العملي- لا يمكن أن
تسمى مشاكل.
تذكرت ساعتها أن المرء يدور فى طاحونة الحياة، ويلعب أدوار كثيرة في
اليوم الواحد، ويؤدي وظائف عديدة، ويدخل في معارك لا نهاية لها، لكن
عند التأمل فإن كثيراً منها لا يستحق كل هذه المعاناة وعند التحقيق
فإن كثيراً منها أبعد ما يكون عن المهمة الأصلية التي من أجلها جئت
إلى هذا العالم، في الحقيقة فإن كثيراً من مشاكلنا ومعاركنا وخصوماتنا
إن لم تضر فقطعاً لن تنفع.
نظرت خلفي على عمري الذى مضى فوجدتني نادماً على كثير مما في هذا
العمر.
قررت أن أنظر إلى حياتي بشكل مختلف، قررت أن أول شيء سأفعله حين أعود
إلى البيت أن أعانق أولادى عناقاً حاراً وطويلاً، وأن أقبل أياديهم
التى منحها الله لى قبل أن يمنحها لهم.
قررن أن أراقبهم وهم يشربون الماء دون عناء، ويركلون الكرة دون
مساعدة، وأن أدمن الشكر والحمد لهذا الرب العظيم الكريم.
تذكرت أن المرء ينبغي أن يعيد ترتيب أولوياته بناءاً على أن وظيفته
في هذا الوجود هي أن يكون عبداً لله عز وجل.
قيل إن رجلين تخاصما في أرض، فأنطق الله تعالى لبنة في حائط، فقالت:
يا هذان، إلى كم تتخاصمان؟ وعزة الله تعالى إنني كنت ملكاً من الملوك
ملكت الدنيا ألف سنة، ثم مت وصرت ترابا ألف سنة، فأخذني خزاف فجعل مني
إناء فاستعملت حتى انكسرت، ثم صرت تراباً ألف سنة، ثم أخذني رجل وضرب
مني لبنة، وجعلت في هذا الحائط منذ ثلاثمائة سنة. فانصرف الرجلان ولم
يتخاصما بعدها...