في الغايات والمطلوبات
ملفات متنوعة
نظرت في أهداف الناس وغاياتهم وأسباب كدهم وبذلهم، وما يجتهدون في
تحصيله ويكدحون، وما ينبرون لجمعه ويتبارون، فوجدتهم في سعيهم
وأهدافهم ووسائلهم شتى، فمنهم وضيع الهمة خسيس النفس يطلب من دنياه ما
تتلذذ به نفسه وجسده ويقف همه على ذلك دون غيره..
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
نظرت في أهداف الناس وغاياتهم وأسباب كدهم وبذلهم، وما يجتهدون في تحصيله ويكدحون، وما ينبرون لجمعه ويتبارون، فوجدتهم في سعيهم وأهدافهم ووسائلهم شتى، فمنهم وضيع الهمة خسيس النفس يطلب من دنياه ما تتلذذ به نفسه وجسده ويقف همه على ذلك دون غيره.
ولكن لأن الله فضل بني آدم وحملهم في البر والبحر وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، ومدح في غير ما موضع من كتابه أولي الألباب وذم الذين لا يعقلون، فلا بد من أن يختار المرء لنفسه ما يتم به كمال إنسانيته وتبقى معه كرامته ولا يراق له ما في وجهه من ماء.
فإذا ما أراد المرء أن يضع لنفسه غاية لمحياه، فإنه لابد وأن يرجع إلى مراد الله من خلقه إن كان يعلم قدر نفسه ويقدر الله حق قدره، فهو يعلم أن كونه مخلوق لله أوجده الله من العدم ابتداءً يجعل الله تعالى له سيدٌ آمرٌ لا يكون من طاعته سبحانه وتعالى بدٌّ، فهو المتصرف في خلقه وملكه بحق ولا يـُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وما ذلك إلا لأن الله هو مالك خلقه وسيدهم وموجدهم من العدم ورازقهم، ومصورهم في الأرحام ومنشئهم، وما يشاءون هم إلا أن يشاء الله لهم، ومشيئة الله ليست مشيئة مجردة عن الحكمة والعلم، إنما هي من الكمال بمكان، وأفعال الله كصفاته وأسمائه حسنى، لا يـُنسب إليها النقص بحال وهي كمال فوق كمال.
فإن كان كذلك هو أمره وهو عبد لله مملوك له حقيقة، بل هو وما ملـّّكه الله إياه من جسد وروح ومال وسلطان ودار ودابة وزوجة وولد وموالي وخدم وحاشية وعمال وأُجَرَاء، وهو ومن يسوسهم من خلق الله إنما استرعاه الله أمرهم واستخلفه فيهم ليبتليه ويبتليهم، وإنما هم جميعاً من خلق الله وهو مالكهم ومالك ما أعطاه إياهم حقيقة، قال تعالى: { وتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
فإذا كانت هذه الحقيقة التي لا يناقضها ولا يخالفها إلا مكابر أو معاند مغرور بما ليس له في الحقيقة حق تصرف، وهو وما بين يديه زائل يوماً ما شاء ذلك أم أباه، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجرؤ العبد الذي ليس له من أمره شيء أن يختار لنفسه غاية من وجوده إلا بعد أن ينظر هل ذلك مما أمره به ربه وخالقه وسيده وآمره؟ هل فيما اخترت لنفسي لأفني فيه عمري الذي هو ليس لي وإنما هو لسيدي وعنه يوماً ما سيسألني: هل فيه له رضاً أم هل منه له بغض؟
فالله تعالى إنما خلق خلقه لعبادته وإقامة أمره وبذل الوسع في إرضائه سبحانه وتعالى، فإن أراد العبد أن يستهدف رضا مولاه فلا سبيل له إلا بما أمره به وعنه نهاه.
وعندما يسأل المرء عن مراد الله تعالى وحكمته من خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهن من انس وجن، وما أبدع الله تعالى في صنيع خلقه واختلاف أصنافهم وألوانهم وإشكالهم وصورهم، وما حوته الخلائق من الدقائق واللطائف التي تدل على قدرة الباري عز وجل وعلى علمه وحكمته في صنعه وخلقه، ثم إذا بنا نرى أن الله تعالى بعد أن أتم خلقه وأحسن صورهم وأبدع فيهم وأظهر قدرته وعظمته وبديع صنعه قضى وقّدّر وشاء أن نقضهم، فأهلك بعضهم بعذاب أو بسنن ثابتات ولا تجد لسنة الله تبديلاً، فتجد الشاب يتوفاه الله ما أصابه إلا قدر الله، وما أصاب جسده عطب ولا علة، وما ذاك إلا لهوان المصنوع على الصانع إذا ما نظرنا لعلة الصنع وحكمة الخلق، فما ذاك الذي يمكن أن يكون في حكمته وعظمته من الأمر أن يراد من أن تظهر هذه الخلائق بهذا البهاء والحكمة والقدرة والعظمة؟
إنها دلائل البرية على صفات الباري، وإشارة المصنوع على دقة وقدرة الصانع، وما ذاك إلا لغرض أعظم وأجل وهو أن يظهر من عظمة صفاته ما يتم به توحيده في قلوب من هداهم النجدين، فيؤثره بعض عباده على ما تعلقت به نفوسهم من بقية خلقه، ويبذلون من أجل مرضاة سيدهم الذي تطلعت إليه قلوبهم ما لا يمكن أن يبذله غيرهم من أجل خيل مسومة ولا قصر مشيد، فهو المراد لذاته سبحانه بما له من صفات كماله وجلاله، ورضاه أعظم في القدر من أرضه وسمائه، فالمغبون من أراد الفاني وغفل عن الكبير المتعالي، والجاهل من خُيّر بين نعيم مقيم وبين لذة ساعة فاختار الخزف الفاني على الذهب الباقي.
فإذا أراد العبد لنفسه غاية فليطلب رضا مولاه فهو أولى به وأحرى وأكمل له وأسمى. نسأل الله رب السماوات والأرضين أن يجعلنا من أصحاب الوجوه الناضرة، إلى ربها ناظرة.
ولا تنسونا من صالح دعاكم والمسلمين.
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: كريم محمود القزق - خاص بموقع طريق الإسلام