الولايات المتحدة الإفريقية
راغب السرجاني
سمع الكثيرون عن فكرة الولايات المُتّحِدَة الإفريقية التي نادى بها
منذ فترة الرئيس الليبي العقيد القذافي، وتكرّر الحديث عنها في مؤتمر
القمة الإفريقي الأخير؛ حيث قالوا: إنها من الأفكار التي يطمح الزعماء
إلى تحقيقها...
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
منظمة الوحدة الإفريقية
سمع الكثيرون عن فكرة الولايات المُتّحِدَة الإفريقية التي نادى بها
منذ فترة الرئيس الليبي العقيد القذافي، وتكرّر الحديث عنها في مؤتمر
القمة الإفريقي الأخير؛ حيث قالوا: إنها من الأفكار التي يطمح الزعماء
إلى تحقيقها.
وما من شَكٍّ أنّ الاتّحاد قوة، وأنّ الوَحْدة مطلبٌ إسلاميٌّ أصيل،
وأنّ الآيات التي وردت تحثُّ المسلمين على الوحدة أكثر من أنْ تُحصى
في مقال واحد، وكذلك الأحاديث النبوية.
كما أن التجارب البشرية في التاريخ والواقع وعند المسلمين وعند غير
المسلمين، تُثْبِتُ أنّ الوحدة دائمًا تأتي بخير وتَقَدُّمٍ
وعِزَّة.
ليس من شَكٍّ في كل هذه الحقائق..
لكن هل الوحدة مُجَرَّد رغبةٍ عابرة تأتي على ذهن إنسان، أم هي مشروع
كبير يحتاج إلى فكر وجهد وتضحيات كثيرة؟
إنّ الوحدة الشكليَّة دون نِيَّةٍ حقيقية للاتحاد تُفْرِزُ كيانات
هشَّة ضعيفة، مثل الجامعة العربية أو مؤتمر القمة الإفريقي، أو غير
ذلك من الاتحادات التي لا تملك سلطة ولا قُوّة تأثير، إنها فقط مُجرد
لقاءات لِذَرِّ الرماد في العيون.
إنهم يريدون ولايات مُتّحِدَة إفريقية على غرار الولايات المُتّحِدَة
الأمريكية...
ونقول: هذا جميل، ولكن..
من سيكون الرئيس لهذا الكيان؟!
وهل سيقبل زعماء إفريقيا أن تدار بينهم انتخابات حرّة نزيهة لاختيار
زعيم كزعيم أمريكا يحكم كل الولايات، ويصبح الزعماء الآخرون مجرّد
محافظين على ولاياتهم؟!
مَنْ مِنْ زعماء إفريقيا سيقبل ذلك؟!
إنّ القهر والبطش والدكتاتورية التي تُعاني منها الأقطار الإفريقية
لا تَخْفَى على أحد،
وابن الزعيم في معظم الدول الإفريقية - إنْ لم يكن كلها - لا يقبل
بتسليم السلطة إلى رجل من أهل بَلَدِه ودِينه وعَشِيرته، فكيف سيقبل
بتسليمها إلى زعيم من دولة أخرى؟!
وحتى لو قَبِلْنَا بالصورة الأدنى من صورة الولايات المُتّحِدَة
الأمريكية؛ كصورة الاتحاد الأوربي مثلاً، فهل الدول الإفريقية بما
فيها من حكومات فاسدة، ورشاوى خطيرة، واختلاسات وسرقات وتَعَدِّيَات،
ستتفهَّم مسألة فتح الحدود، وسهولة التعامل التجاري والاقتصادي،
واتصال الطرق والمعابر، والتعاون في القضايا المشتركة؟!
إنّ الوحدة مرحلة حضاريّة مهمّة تحتاج إلى إعداد مسبق..
لقد زرع الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان العميق في قلوب المؤمنين
من أهل مكة، وكذلك أهل المدينة؛ حتى يقبلوا في النهاية فكرة الوحدة في
داخل إطارٍ واحدٍ هو الإسلام، ولم يكن هذا أمرًا سهلاً، إنما
تَطَلَّبَ إعدادًا كبيرًا، وجهدًا مضنيًا، وإيمانًا عميقًا بمبدأ
واحد، وقضيّة واحدة.
ولقد دارت حروب شتى في الولايات المُتّحِدَة الأمريكية، وسالت دماءٌ
كثيرةٌ، ووضعت دساتير شتّى حتى وصلوا في النهاية - بعد جهد - إلى فكرة
الوحدة، وأصبحت الولايات الكثيرة المتفرقة دولة واحدة..
ولقد مَرَّت أوربا كذلك بتجارب ديمقراطية كثيرة، ومحاولات توحُّد
شتى، حتى وصلت إلى هذه الصيغة النهائية المفيدة، التي تجمع أقطارًا من
أصناف شتى، ولغات مُتَعَدِّدة، وتاريخٍ يحمل حروبًا وخلافات، ومستويات
اقتصاديّة متفاوتة..
ولم يكن في استطاعة هذا الكيان الأوربي الجديد أن يستوعب الدول
المتخلّفة شرق أوربا، إلا بعد أن تحررت من النظام الشرقي الشيوعي
المتخلف، التي بدأت في تعديل نظم حياتها، وأصول معاملاتها وقوانينها؛
حتى تنسجم مع الوحدة الأوربية الشاملة.
إن إفريقيا تحتاج إلى إعادة تأهيل وتربية، وتحتاج إلى تعديل ثقافات
وقناعات؛ لكي تتمكن من الوحدة يومًا ما، وليس هذا بالأمر السريع أو
السهل، إنما يحتاج إلى إصلاحات داخلية كثيرة قبل التفكير في الوحدة
الخارجية..
وليس من المبالغة إن قلنا: قبل أن ننادي بوحدة الولايات الإفريقية،
علينا أن ننادي بوحدة الشعب الواحد داخل القطر الواحد؛ بمعنى أن
يَتَّحِدَ الشعبُ بكامله، حكامٌ ومحكومون، وزراء وغفراء، أغنياء
وفقراء؛ لتحقيق طموح واحد يهدف إلى رفعة حقيقية للدولة
الواحدة..
وعند تحقُّق هذا الأمر في دولتين، يمكن أن يحدث بينهما وحدة.. ولو
تحقق في أكثر، فسوف يَتَّحِدُ هذا الكثير.
ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
الخميس، 10 تموز/ يوليو 2008 م