الحلقة (28): السيرة (8): الدعوة خارج مكة ومصعب يصنع المعجزة .
أبو الهيثم محمد درويش
هذه الحلقة أتمنى أن يقرأها كل شاب ٍغضٍ صغير دب اليأس في قلبه بسبب ما يراه من مصاعب تقابل الرسالة وحامليها، أرجو يا بني أن تعيش مع مصعب بن عمير وتحيا بقلبك معه للحظات كيف له وقد تربى على النعيم أن يصنع المعجزة ويتسبب في بناء دولةٍ كاملة سادت العالم كله في غضون سنواتٍ قليلة.
- التصنيفات: السيرة النبوية -
الدورة العلمية الميسرة: الحلقة 28: السيرة: الدعوة خارج مكة ومصعب يصنع المعجزة .
هذه الحلقة أتمنى أن يقرأها كل شاب ٍغضٍ صغير دب اليأس في قلبه بسبب ما يراه من مصاعب تقابل الرسالة وحامليها، أرجو يا بني أن تعيش مع مصعب بن عمير وتحيا بقلبك معه للحظات كيف له وقد تربى على النعيم أن يصنع المعجزة ويتسبب في بناء دولةٍ كاملة سادت العالم كله في غضون سنواتٍ قليلة.
فبعدما بلغ الحزن مبلغه بفراق الحبيبة ثم موت العم الحنون وإصرار قريش على العناد وهجرة من هاجر إلى الحبشة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة هي الأهم وهي عرض الرسالة على الناس خارج مكة والذي تسبب في ذيوع ذكره وفشو سيرته بين القبائل وتحمل صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة الكثير من المتاعب والرفض للدعوة والرسالة ثم بدأت البشارات بإسلام أفراد من القبائل كأبي ذر الغفاري وغيره وكانت المكافأة الربانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم متمثلة في رحلة الإسراء والمعراج ليثبت الله فؤاد حبيبه صلى الله عليه وسلم ويريه من الآيات واستقبال السماء له ما لم يبلغه تصوره بل ولم يستطع وصفه صلى الله عليه وسلم من الجمال والبهاء وفيها فرضت الصلاة ثم كانت الثمرات المتتابعة التي بدأت تكتمل بتلك النسمات المباركة من أهل يثرب (المدينة) التي سمعت عن الرسالة وأتت تستمع للرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وأرسل معهم أول سفير في الإسلام (مصعب بن عمير) ذاك الشاب الذي كان من أترف شباب مكة قبل الإسلام ثم أصبح أول سفيرٍ نجيب يرسله المعلم الأكبر للأمة ليفتح الله على يديه المدينة بالعلم والحكمة والموعظة الحسنة وليكون هذا الشاب الغض سبباً في تكوين دولة الإسلام كلها وإرساء قواعدها في دار جديدة استقبلت الإسلام خير استقبال وهذه رسالة لشبابنا وأبنائنا اليوم (بمقدورك وحدك أن تكون خير سفير للإسلام حيثما حللت و بمقدورك أنت أن تكون سبباً في بناء دولة).
قال المباركفوري في الرحيق المختوم:
بعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول سفير في يثرب؛ ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه السفارة شابًا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مُصْعَب بن عُمَيْر العبدرى رضي الله عنه.
النجاح المغتبط:
نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زُرَارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجد وحماس، وكان مصعب يُعْرَف بالمقرئ.
ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظَفَر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها: بئر مَرَق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين ـ وسعد بن معاذ وأُسَيْد بن حُضَيْر سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك ـ فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشتمًا، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين. فقام واغتسل، وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائى رجلًا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن ـ سعد بن معاذ ـ ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم. فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت.
وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ـ وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ لِيُخْفِرُوك. فقام سعد مغضبًا للذى ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا منى، تغشانا في دارنا بما نكره؟
وقـد كان أسعد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس. فعـرض عليــه الإسلام، وقـرأ علـيه القـرآن، قـال: فعرفنـا والله في وجهـه الإسلام قبـل أن يتكلم، في إشـراقه وتهلّله، ثـم قـال: كيـف تصنـعون إذا أسلمتـم؟ قالا: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين. ففعل ذلك.
ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادى قومه، فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة، إلا رجل واحد ـ وهو الأُصَيْرِم ـ تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عمل قليلًا وأجر كثيرًا» (البخاري: 2653).
وأقام مصعب في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخَطْمَة ووائل. كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر ـ وكانوا يطيعونه ـ فوقف بهم عن الإسلام حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة.
وقبل حلول موسم الحج التالي ـ أي حج السنة الثالثة عشرة ـ عاد مصعب بن عمير إلى مكة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشائر الفوز، ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة.
فكانت دعوة مصعب بالمدينة هي السبب الأكبر لبيعة العقبة الثانية التي بايع فيها اثنان و سبعون أنصارياً رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثم الهجرة وبداية تكوين الدولة .
بيعة العقبة الثانية
في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ يونيو سنة 622م ـ حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم ـ وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟
بنود البيعة
وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلًا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله ، علام نبايعك؟ قال:
«على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة» . [أخرجه الإمام أحمد في المسند: 14166]
وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه: قال كعب: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم» (أخرجه الإمام أحمد في المسند: 15483) فأخذ البراء ابن مَعْرُور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناها كابرًا عن كابر.
قال: فاعترض القول ـ والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال: يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها ـ يعنى اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله إن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» . (غريب الحديث للحربي: 2093)
اثنا عشر نقيبًا
وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختاروا اثنى عشر زعيمًا يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسئولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فقال للقوم: أخرجوا إلىّ منكم اثني عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم.
فتم اختيارهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وهاك أسماءهم:
نقباء الخزرج
1ـ أسعد بن زُرَارَة بن عدس.
2ـ سعد بن الرَّبِيع بن عمرو.
3ـ عبد الله بن رواحة بن ثعلبة.
4ـ رافع بن مالك بن العَجْلان.
5ـ البراء بن مَعْرُور بن صَخْر.
6ـ عبد الله بن عمرو بن حَرَام.
7ـ عبادة بن الصامت بن قيس.
8 ـ سعد بن عبادة بن دُلَيْم.
9ـ المنذر بن عمرو بن خُنَيْس.
نقباء الأوس
1ـ أُسَيْد بن حُضَيْر بن سِمَاك.
2ـ سعد بن خَيْثَمَة بن الحارث.
3ـ رفاعة بن عبد المنذر بن زبير.
ولما تم اختيار هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقًا آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين.
قال لهم: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالـة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي» ـ يعنىي المسلمين ـ قالوا: نعم. (رواه ابن ابي شيبة في المصنف (597/14) وابن سعد في الطبقات (452/3) )
شيطان يكتشف المعاهدة
ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الارفضاض، اكتشفها أحد الشياطين؛ وحيث إن هذا الاكتشاف جاء في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكن إبلاغ زعماء قريش هذا الخبر سرًا، ليباغتوا المجتمعين وهم في الشعب، قام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض،وصاح بأنفذ صوت سمع قط: يا أهل الجَبَاجب ـ المنازل ـ هل لكم في مُذَمَّم والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزَبُّ العقبة، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك. ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم».
هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى ـ وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولاء، والتناصر بين أشتات المؤمنين، والثقة والشجاعة والاستبسال في هذا السبيل. فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الأخ الذي أحبه بالغيب في ذات الله .
ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعةٍ عابرة تزول على مر الأيام، بل كان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه، إيمان لا يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيدة والعمل، وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالًا، ويتركوا عليها آثارًا خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلو المستقبل.