من قرطبة لسيدي بوزيد .. قانون الطغاة واحد لا يتغير
شريف عبد العزيز
قانون الطغاة واحد لا يتغير فيه شيء سوى الاسم والمكان، ولكن تفاصيل
الحكاية والفعل ورد الفعل والنتيجة كلها واحدة، مهما طال الزمان، أو
بعد المكان، وهذه واحدة من حكاوي الطغيان، التي قد طواها النسيان، حتى
أعادتها أحداث تونس إلي قمة الوجدان..
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
قانون الطغاة واحد لا يتغير فيه شيء سوى الاسم والمكان، ولكن تفاصيل
الحكاية والفعل ورد الفعل والنتيجة كلها واحدة، مهما طال الزمان، أو
بعد المكان، وهذه واحدة من حكاوي الطغيان، التي قد طواها النسيان، حتى
أعادتها أحداث تونس إلي قمة الوجدان.
أحداث صغيرة ونتائج كبيرة
في سنة 180 هجرية تولي حكم الأندلس الحكم بن هشام بن عبد الرحمن
الداخل، وكان طاغية سفاكاً للدماء، شديد الوطأة علي معارضيه، خلاف
سيرة أبيه وجده، أضف إلي سياساته الاستبدادية، انشغاله باللهو والمجون
ومجالس العبث مع ندمائه، فكرهه شعب قرطبة عاصمة الأندلس وقتها، وكان
فقهاء المالكية الكبار من تلاميذ الإمام مالك، أمثال يحيي بن يحيي
الليثي، وعيسي بن دينار، وطالوت الفقيه وغيرهم كثير، قد كرهوه
استبدادهم وطغيانه وانشغاله بالمحرمات، وقمعه للناس، فهاجموه من علي
منابرهم بكل قوة، لا تأخذهم في الله لومه لائم، فما كان من الحكم بن
هشام إلا أنه قد قبض علي كثير من معارضيه ووجه إليهم تهمة التدبير
لقلب لنظام الحكم، وأعدمهم جميعاً وكانوا 72 رجلاً من علماء وفقهاء
وأعيان قرطبة، منهم بعض أفراد أسرته مثل عمه مسلمة وعمه أمية، ولم
يكتف بذلك بل صلبهم علي شاطئ النهر المقابل لقصره في قرطبة إمعاناً في
التنكيل والردع، وقام بفرض مزيد من الضرائب والعشور علي الأقوات ليضيق
علي الناس أرزاقهم، فلا يبقي عندهم مجال للنقد أو المعارضة.
لم تكن تلك البشاعة والقسوة لترد شعب قرطبة الثائر علي حاكمه الطاغية
الذي ملأ الأندلس طغياناً واستبداداً، وفي سنة 202 هجرية وقعت حادثة
صغيرة ولكنها كانت كفيلة باشتعال ثورة الغضب الشعبي في قرطبة، ذلك أن
أحد مماليك أمير الأندلس الطاغية، قد سلم سيفه لصقيل حتى يصقله،
فاختلفا علي الأجرة، فقام المملوك محتمياً بسلطة سيده بضرب الصقيل
بالسيف حتى قتله، وفر هارباً إلي قصر سيده، وعندها طفح بالناس الكيل،
واندلعت ثورة شعبية عارمة، وكان أشد أهل قرطبة ثورة وانتفاضة هم سكان
الربض القبلي، وكانوا معدن العلم والتدين والفقه في قرطبة، وتوجهت
الجماهير الغاضبة إلي قصر الطاغية للقبض علي القاتل وتنفيذ القصاص
فيه، وكاد الأمر أن يخرج من يد الطاغية فأقدم علي عمل يتناسب مع خسته
ونذالته وطغيانه، إذ أمر جنوده بالتسلل إلي أحياء قرطبة وإضرام النار
في بيوت الثوار، ولم يكن فيها سوي النساء والأطفال، فارتدت الجموع
الغفيرة لإنقاذ بيوتهم وأهليهم، وانفرط عقد الثورة الشعبية، وأحاط
الجند بالبيوت، وأمعنوا في قتل أهل قرطبة في مشهد دموي مرعب، جلل
تاريخ الأسرة الأموية في الأندلس بعار لم تمحه انجازاتهم الحضارية،
وظلت حادثة ربض قرطبة نقطة حالكة السواد في تاريخ الأندلس.
وقد انتقم الله عز وجل لأهل الربض، وضرب الطاغية الحكم بن عبد الرحمن
بأنواع مختلفة من الأمراض المتضادة التي جعلته يندم علي جريمته
الشنيعة بحق مواطنيه وشعبه، ولم يمكث بعدها إلا قليلاً ثم هلك.
لو أمعنت ذهنك في أحداث ثورة الربض في قرطبة واستعرت سير الأحداث،
وألبستها حلة اليوم، وقمت بتغيير الأسماء والأماكن بوصف الحال التونسي
الآن، لوجدت القصة متطابقة للغاية، فقط احذف (الحكم بن عبد الرحمن)
وضع (بن علي) ، واحذف (ربض قرطبة) وضع (سيدي بوزيد)، واحذف مقتل
الصقيل علي يد المملوك، وضع انتحار الشابين (بو عزيزي، حسين فالحي) -
وإن كنا لا نقر مسلك الانتحار أبداً للهروب من مشاكل الحياة - واحذف
ثورة أهل الربض ضد الظلم والطغيان والضرائب الجائرة، وضع ثورة أهل
سيدي بوزيد وتوابعها، وعندها لن تجد أي فارق، لأنه قانون الطغاة واحد
لا يتغير عبر العصور.
تونس التي كانت خضراء
الرئيس التونسي زين العابدين بن علي خرج معلقاً علي هذه الأحداث
المتصاعدة التي أصبحت مثل كرة الثلج المتدحرجة، بما يتناسب تماماً مع
قانون الطغاة، فقال في خطاب موجه للشعب التونسي بثه التلفزيون الحكومي
:"إن لجوء أقلية من المتطرفين والمحرضين المأجورين ضد مصالح بلادهم
إلى العنف والشغب في الشارع وسيلة للتعبير أمر مرفوض وهو مظهر سلبي
وغير حضاري، يعطي صورة مشوهة عن بلادنا تعوق إقبال المستثمرين والسياح
بما ينعكس على إحداثات الشغل التي نحن في حاجة إليها للحد من البطالة،
وسيطبق القانون على هؤلاء بكل حزم".
وتأكيداً علي مسلكه المتوقع إزاء أحداث بوزيد في الأيام القادمة، كان
وزير الداخلية التونسي رفيق بلحاج قاسم هو أول مسئول يجتمع معه لبحث
سبل الخروج من الأزمة، في دلالة واضحة علي الحسم الأمني المتوقع مع
الغاضبين الذين تتزايد أعدادهم كل يوم، وفي المقابل ومن باب ذر الرماد
في العيون، قام وزير التنمية التونسي محمد نوري الجويني بزيارة
المنطقة ليعلن عن إجراءات رئاسية لاستحداث وظائف وإطلاق مشاريع بقيمة
15 مليون دينار (7,86 مليون يورو)، وهو مبلغ يعادل تقريباً، ما كان
يدفعه اتحاد الكرة التونسي للمدرب الفرنسي برتران مارشان نظير تدريبه
للمنتخب التونسي، قبل أن يقيله لنتائجه الهزيلة.
بيد أن ناشطين توانسة قد استقبلوا تلك الإجراءات بتشكيك, واتهموها
بمحاولة الالتفاف على الحركة الاحتجاجية التي تأتي بعد أن طفح بالناس
الكيل من الطغيان والإهمال، وحذروا من أن المناطق المحرومة من
التنمية، ومنها سيدي بوزيد مقبلة على "عصيان مدني" ما لم تراجع الدولة
خياراتها السياسية والاقتصادية التي نعتتها بالفاشلة، في حين رأي كثير
من سكان سيدي بوزيد أن ما عدت به الحكومة من إصلاحات بمثابة الحمل
الكاذب، وأن النظام الفاسد قد منح خيرات البلاد للأجانب وحفنة
المنتفعين الذين يدرون في فلك الطاغية.
الجدير بالكر أنها ليست هذه المرة الأولى التي تندلع فيها خلال سنة
2010 حركة احتجاجية ذات طابع اجتماعي في تونس، ضجراً من الفساد
والطغيان، فخلال شهر أغسطس الماضي، حصلت مواجهات لا تقل حدة بجهة بن
قردان الواقعة على الحدود التونسية الليبية، والتي عرفت باسم "انتفاضة
التجار"، وقبل ذلك بحوالي ثلاث سنوات عاشت منطقة الحوض المنجمي (جنوب
غرب) حالة تمرد استمرت أشهرا عديدة، كما سجلت في نفس السياق احتجاجات
محدودة في مناطق أخرى مثل فريانة والصخيرة وجبنيانة، وهو ما دفع
أطرافاً مختلفة في اتجاهاتها السياسية إلى الإجماع على ضرورة التخلي
عن نهج الإعراض والتجاهل لمشاكل البلاد الاجتماعية ومداواة آثارها
المتفاقمة، بعد أن ارتفعت معدلات البطالة لمستويات قياسية دفعت بالشعب
لمثل هذه الاحتجاجات العنيفة.
حل على الطريقة التونسية:
الطغاة علي مر العصور يحلون جميع مشاكلهم بطريقة واحدة وبسياسة
واحدة، سياسة "من اعترض انطرد"، فالحل الأمني كان ومازال هو الحل
الأمثل والوحيد في خزانة أفكار الطغاة، لا يرون له بديلاً، ولا
ينتهجون عنه سبيلاً، فهو الحل الأكثر نجاعة، والأشد تأثيراً، والأسرع
قضاءً، فالحوار والاستماع لنداءات المقهورين والمحرومين والمضطهدين،
تكلفته كبيرة وتبعاته باهظة، فالحوار والاستماع، فاتحة الحل الصحيح
والطريق المستقيم والذي عادة ما ينتهي بتقويض دعائم الطغاة، لذلك كان
الحوار والاستماع مرفوض علي مر العصور، وقدوتهم في ذلك (من قال لي اتق
الله أبنت رأسه بسيفي).
ولكن الخيار الأمني المعاصر يواكبه أدوات أخرى للقمع والطغيان، تجعل
القضاء علي هتافات الغاضبين أيسر من معاقبة المفسدين، فمشكلة سيدي
بوزيد ستحل عبر ثلاثة محاور بدأت كلها بالفعل.
المحور الأول: قوات أمن كبيرة بالمئات أو الآلاف حسب مقتضي الحال،
وتوسع دائرة الاحتجاجات، تقوم بدورها في قمع المتظاهرين وإرهابهم
بالحديد والنار، فتقتل وتجرح وتحاصر وتضيق وتحظر وتقطع، بكل قسوة
وغلظة، لا تأخذهم في طاعة الطاغية وحماية كرسيه رأفة ولا رحمة، ومئات
من المعتقلين يزج بهم للسجون حيث نيران التعذيب الموقدة، لإجبارهم علي
اعترافات كاذبة بالانتماء للحركات الإسلامية أو الإرهابية والمتطرفة
وربما مع تنظيم القاعدة نفسه لو احتيج لذلك التضخيم، ولا بأس بمن مات
تحت وطأة التعذيب، فحبل الانتحار مدلي في كل زنزانة لإلصاق التهمة فيه
مع رحيل كل ضحية.
المحور الثاني: قضاء مسيس وعدالة موجه، محاكم فاسدة يزج إليها
الأبرياء لتوجيه التهم والقضايا التي تكفي الواحدة منها لبقائه في
غياهب السجون حتى تأكله السنون وتقتله الهموم، وعينات التهم كثيرة،
إرهاب، تطرف، إفساد، تآمر على نظام الحكم، إتلاف ممتلكات، تكدير السلم
الاجتماعي، تعطيل مصالح الدولة.. إلخ، وكل ذلك كما يقال بالقانون
واللوائح والنظم.
المحور الثالث: تعتيم إعلامي واسع، وتجاهل صحفي ورسمي كامل، لتشتعل
الثورات وينتفض الشعب، ثم يتم قمعه وإرهابه والتنكيل به، في هدوء وصمت
مطبق، بحيث لا يشعر بهم أحد، في بلد يجيد هذه اللعبة جيداً، لعبة
تكميم الأفواه، فقد أشارت آخر الإحصائيات إلى أن تونس هو البلد الأكثر
رقابة وتعتيماً علي وسائل الإعلام خاصة مواقع الإنترنت والفضائيات
الإخبارية في المنطقة بأسرها، ولعل مسارعة النظام حجب قناة الجزيرة
ومنع بثها والتنبيه علي المقاهي والنوادي بمنع تشغيلها للزوار عينة من
هذا الأسلوب التونسي المتميز، وإن كان هذا التعتيم لا يمكن أن يستمر
في عهد التقنيات المتقدمة في الاتصالات وتناقل الأخبار.
هذا هو مسلك الطغاة وقانونهم الشهير الذي أصبح بمثابة التراث الذي
تتناقله الأجيال، والدستور الذي يحافظ عليه كل طاغية عبر التاريخ، فلا
يحزن أهل سيدي بوزيد، ولا يحزن كل الأحرار والشرفاء في تونس وغيرها من
شعوب المنطقة الزاخرة بالطغاة، لأن الفرج قريب وعاقبة الطغاة واحدة
مهما طال بهم الزمان.
الجمعة 31 ديسمبر 2010 م
بقلم: شريف عبدالعزيز
[email protected]