كارين آرمسترونج بين سيرتين
هل تجريد الإسلام من وظيفته الدعوية، وحصر نطاقه في المجال الجغرافي الذي ترتضيه آرمسترونج هو المدخل الحيوي لتبديد الكراهية وسوء الفهم؟، لست أتوقع ردًا من مدرسة الاستشراق التي عودنا أتباعها على الرؤية المسبقة والحاجز النفسي تجاه الحقائق، لكني أسائل من بالغوا في الاحتفاء بصوتها المعتدل: ما الخطوة التالية؟
لم تكن الدراسات الاستشراقية منصفة في عرضها لأحداث السيرة النبوية والتصديق على مُجرياتها إلا على نحوٍ متواضع. كان مؤشر التعصب عاليًا، وصيغ التشكيك والطعن والانتقاص واضحة كأن نزول الوحي في أرض العرب خرقٌ لبنود اتفاقٍ سابق!.
وحتى وقتٍ قريب لم يكن من السهل أن يتخطى باحث غربي تلك الحدود الشائكة التي استوطنت العقل الغربي فترةً طويلة، بين مسلمات النبذ والتشويه والإنكار المبثوثة في ثقافته السائدة، وبين الحقائق التي تتجلى ناصعة أمام ناظريه في صورة دعوة للخير والحرية والمساواة، استوعبت العالم في ظرفٍ زمني مدهش.
وملايين المسلمين الذين ضربوا أروع أمثلة التعايش والتسامح والتبادل الثقافي. بل إن آلاف المجازر، وصور الدماء التي غاصت فيها خيول الغرب حتى الرُكب، تارةً باسم الصليب، وتارةً أخرى باسم التنوير والحداثة، كان لها وقعها في المطالبة بقراءةٍ موضوعيةٍ ومنصفة لتاريخ الإسلام وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم جنح الاستشراق في الآونة الأخيرة إلى تبني موقف متأرجح، تتلفع خلاله الشبهات والمطاعن برداء العلمية، ويجري ضمنه تحديد المناطق التي ينبغي الالتفاف عليها، أو التقليل من أهميتها التي اعتاد كتاب السيرة من المسلمين التنصيص عليها باعتبارها لَبِنات لا يستقيم بنيان الرسالة المحمدية بدونها.
وفق هذا المنظور وضعت الراهبة البريطانية والباحثة في تاريخ الأديان "كارين آرمسترونج " مصنفين في السيرة النبوية، الأول تحت عنوان "سيرة النبي محمد" دفاعًا عن نبي الإسلام أمام موجة التعصب التي حركتها ردود فعل المسلمين إزاء رواية "آيات شيطانية " لسلمان رشدي.
أما الثاني فيحمل عنوانًا مثيرًا للانتباه وهو " محمد نبي لزماننا " ردا على استفزاز الإعلام الغربي لمشاعر المسلمين بعد نشر رسوم مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم وإلصاق تهم الإرهاب والتطرف بهم على خلفية أحداث الحادي عشر من أيلول.
وفي كلا المبحثين تستهل المؤلفة حديثها بإدانةٍ صريحة لتاريخ العداء الصليبي للإسلام، ورصد حثيث لأسبابه ومنطلقاته، سواء الدينية منها أو الفكرية أو حتى السياسية.
ثم تمضي سالكة سبيل التوفيق بين الديانات الثلاث على اعتبار أن الإيمان بإله واحد يُفقد المواجهة المحتدمة والعنف الحاليين أسبابهما، ويلغي الدافع إلى التطرف والإقصاء.
لا أظن قارئًا مسلمًا سيُخفي تأثره بهذا الجلد القاسي الذي مارسته المؤلفة في حق تاريخ أمتها وثقافة بلادها، وفي ثورتها على الضمير الانتقائي الذي احتكم إليه الغرب في مواقفه إزاء الآخرين.
غير أن المضي في استكشاف الفصول الموالية يضعنا مرةً أخرى أمام العطب الذي لازم الرؤية الاستشراقية تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، والمتمثل في كون المستشرق لا يكتب ليثبت الحقيقة، وإنما يكتب ليقرر ما آمن به سلفًا.
لذا فإن كان لاهوتيًا يؤمن بالمسيحية فسيبحث عن تجلياتها في كل حدثٍ أو واقعةٍ ليؤكد لنفسه قبل قارئيه بأن الإسلام لا يعدو أن يكون تلفيقات من المسيحية واليهودية، برع النبي صلى الله عليه وسلم في توظيفها سياسيًا لتوحيد البدو في شبه الجزيرة العربية.
وقد حرصت المؤلفة على التلميح دون التصريح بهذا الموقف، ودافعت عن حق العرب في أن يكون لهم نبي ورسالة، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعًا من الرسل، إلا أنها رفضت صراحةً الإقرار بأي امتداد لخطته الدعوية خارج حدود شبه الجزيرة، وبالتحديد داخل الإمبراطورية البيزنطية التي تمثل العالم المسيحي آنذاك!.
" إنه لمن الإغراء بمكان أن نحاول تفسير شعبية الإسلام بين شعوب الشام بلاد مابين النهرين وإيران وشمال إفريقيا برفض تلك الشعوب لفكرة الإله المستوحاة من الإغريق، والتي كانت غريبة عليهم، وبعودة أقرب إلى الرؤية السامية.لكن محمدًا لم تكن لديه حينذاك أي فكرة أنه يؤسس دينًا عالميًا جديدًا، فقد كان ذلك دينًا للعرب الذين كانوا، كما بدا لهم، قد تُركوا خارج خطة السماء" (1).
وفي موضع آخر تحيل على الأصل المسيحي لبعض الأشكال التعبدية التي جاء بها الإسلام،ل ا باعتبار المصدر المشترك بينهما هو تعاليم السماء، وإنما من منطلق تأثر العربي بالطقوس الدينية السائدة فيما حوله:
" وربما كانت عادة قيام الليل ترجع إلى تهجدات الليل التي كان يؤديها الرهبان المسيحيون في صحراء سوريا، إذ كانوا ينهضون في الهزيع الثاني لترتيل المزامير ". وشملت تلك العادة بزعمها تلاوة القرآن أيضا:" وقد أثرت تلك العادة في مفهوم العرب للمقصود بالكتاب المقدس، إذ رأوا أنه لم يكن كتابا يقرؤه كل فرد على حدة، بل هو نص يرتلونه وينشدونه بصوت عال في الطقوس الدينية والعبادة "(2).
إن الكاتبة، وهي تُقر باعتمادها الشديد على كتابي مونتغمري وات : "محمد في مكة "و"محمد في المدينة "، تتبنى منهجه في تجريد الإسلام من ذاتيته وخصوصيته من خلال ربط شعائره بمؤثرات يهودية ومسيحية، وهذا المنهج، كما يرى الباحث عبد الله النعيم(3)، تأسس على ضوء مفاهيم خاطئة اعتمدها المستشرقون في دراستهم للأديان على نحو منفصل، ثم المقارنة بينها وفق رؤية لا تعتبر حالات التشابه بين الأديان عامل توحيد بل دليل سطو فكري يعمل المستشرق جاهدا لتسليط الضوء عليه.وغايته هي إقناع اليهود و النصارى بالثبات على عقيدتهم من جهة،وتنبيه المسلم إلى الأصل الذي أخد عنه الإسلام مبادئه وشعائره من جهة أخرى!
بيد أن الواقعة التي كشفت موقف آرمسترونج من البعد العالمي لرسالة الإسلام تجلت في إنكارها الواضح لإقدام الرسول صلى الله عليه وسلم على توجيه رسائل إلى ملوك العالم وأمراء العرب فور إتمام صلح الحديبية.
إذ تصرح دون مواربة بأن هذه الرواية مدسوسة، وأن أقدم المصادر لم تشر إلى أمر كهذا لأن محمدًا لم يكن يعتقد أن الإسلام دينٌ عالمي بل هو دعوةٌ فقط لأبناء إسماعيل مثلما كانت اليهودية دينا لأبناء يعقوب!، وحتى لو صحت تلك الرواية، تقول المؤلفة ، فهي ليست سوى تعبير عن الثقة الجديدة التي اكتسبها محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره سيدًا من أهم سادة بلاد العرب.
هذه الانتقائية التي تتبناها المؤلفة في تعاملها مع الشواهد والنصوص تؤكد وجود حاجز نفسي يصعب على غالبية المستشرقين تخطيه، خاصةً إذا كان تكوينهم لاهوتيًا كما هو الشأن بالنسبة لآرمسترونج .
نعم، هي تدافع عن محمد الإنسان الشهم، والنبي الرؤوف والمحب لقومه، لكن شريطة الإبقاء على دعوته في إطارها المحلي، وإنكار كل الشواهد والأدلة التي تؤكد عالميتها، حتى لو كانت واضحة كالشمس في رابعة النهار!.
إن الرواية التي تزعم المؤلفة كونها مدسوسة قد وردت في صحيح البخاري رحمه الله، وتتضمن نص الكتاب الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم، كما نجد عند الطبري و الواقدي وابن سعد وغيرهم نصوص الكتب الأخرى التي وجهها إلى كسرى فارس،والمقوقس عظيم القبط وأمراء العرب.
وأما التشكيك في وجودها فتفنده الكشوفات التي تمت منذ أواسط القرن التاسع عشر، ففي سنة 1850 عثر المستشرق الفرنسي بارتيليمي على رق جلدي في أحد الأديرة بناحية "أخميم " بصعيد مصر. واتضح بعد الدراسة أنه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، وتم إعلان الثقة في أصالة المخطوط ونشر دراسة عنه في المجلة الآسيوية سنة 1854.
وفي سنة 1940 أعلن المستشرق الإنجيلزي دانلوب عن تحصله على رق جلدي كان يملكه تاجر سوري، ويتضمن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجاشي الحبشة، وذكر أن التاجر السوري قد حصل عليه بدوره من قسيس إثيوبي زار دمشق خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي مايو 1963 نشر الدكتور صلاح المنجد مقالا في جريدة الحياة ببيروت يكشف فيه عن وجود الأصل الجلدي لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى لدى وزير لبناني سابق يدعى هنري فرعون(4).
كل هذه الشواهد والأدلة تشطبها المؤلفة بجرة قلم لأنها لا تتناسب مع رؤيتها الاستشراقية القائمة على توزيع جغرافي للأديان لا يقبل المراجعة أو التعديل!.
كان عذر المؤلفة هو اعتمادها على ما كتبه مستشرقون أجانب كمونتغمري وات، ومارتن لنجز، ومكسيم رودنسون، لكنها بعد أربع عشرة سنة ستصدر كتابها الثاني تحت عنوان "محمد نبي لزماننا " مستندة في عرض أحداثه إلى بعض المصادر العربية خاصة سيرة ابن إسحاق، فهل تغير شيء؟.
أدانت المؤلفة في كتابها هذا ما اصطلح عليه بالإسلاموفوبيا معتبرةً أن ما يثيره الإعلام الغربي من كراهية، سواء عبر تصريحات السياسيين أو رسومات الكاريكاتير هو تجنٍ واضح على الإسلام ، وإحياء لتراث من التعصب الذي كرسه قساوسة القرن الثامن الميلادي.
وجددت دفاعها عن محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره أنسب رجل لإدارة مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول ، خاصة وأن الغرب يتقاسم اليوم عديدًا من سمات الجاهلية التي تغلب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بحنكة واقتدار.
غير أن المنهج القائم على تأييد الروايات الواهية، والتشكيك في الموثقة والصحيحة لم يزل بعد مسيطرًا على تعاملها مع نصوص السيرة وأحداثها.
أثارت المؤلفة مجددًا قصة الغرانيق مع حرصها على إنطاق التفاصيل الواهية بأكثر ما تتحمله:
" كان محمد صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى سلام مع قريش،وكان يعرف مدى تعلقهم بآلهتهم [الغرانيق]، وربما أنه كان قد فكر في أنه إذا استطاع أن يدمج الغرانيق في دينه، فقد ينظرون بعين أكثر عطفا على رسالته. وعندما قرأ تلك الآيات الشاذة ، كانت رغبته الداخلية تتكلم، وليس كلام الله، وتبين أن تصديق شفاعة الغرانيق كان خطأ . وعزا محمد –صلى الله عليه وسلم - ذلك ،مثل كل العرب، إلى الشيطان"(5).
لم تقف المؤلفة عند حدود تدعيم هذه الفرية ،بل أوردت في ثنايا السيرة معطيات وأحداثا لم ترد في المراجع العربية، ولم تكشف هي عن مصدرها ، كالحديث عن استعداد عمر بن الخطاب رضي الله عنه للانشقاق عن محمد صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية لو أنه وجد مائة رجل يتبعونه!، والزعم بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم سمح بالإبقاء على صورتي المسيح وأمه مريم عليهما السلام بعد محو صور الآلهة داخل الكعبة.
تؤكد المؤلفة على انتماء الأديان الثلاثة للعائلة الإبراهيمية، وهذا الأصل المشترك يعني برأيها بقاء كل أمة على وحيها التشريعي الخاص، وبالتالي عدم اشتراك المسلمين في أية منازعات عديمة الجدوى.
فهل تجريد الإسلام من وظيفته الدعوية، وحصر نطاقه في المجال الجغرافي الذي ترتضيه آرمسترونج هو المدخل الحيوي لتبديد الكراهية وسوء الفهم؟، لست أتوقع ردًا من مدرسة الاستشراق التي عودنا أتباعها على الرؤية المسبقة والحاجز النفسي تجاه الحقائق، لكني أسائل من بالغوا في الاحتفاء بصوتها المعتدل: ما الخطوة التالية؟
حميد بن خيبش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – كارين آرمسترونج. سيرة النبي محمد. منشورات سطور.1998.ص 133
2- نفس المرجع.ص 156
3- عبد الله محمد الأمين النعيم. الاستشراق في السيرة النبوية. المعهد العالمي للفكر الإسلامي.1997
4- أبو الحسن الندوي . السيرة النبوية.دار الشروق. جدة 1989.ص 288
5- كارين آرمسترونج . محمد نبي لزماننا. مكتبة الشروق الدولية. القاهرة 2008. ص 63
- التصنيف: