تونس.. ذهبت السكرة وجاءت الفكرة

منذ 2011-01-24

بعدما فرحنا جميعا بنجاح الشعب التونسي في إزالة الكابوس الجاثم عليه منذ نصف قرن من الزمان فإننا كذلك جميعا ً يجب أن نصحو من سكرة ذلك الحلم الجميل جميعاً لنفكر في دورنا الحقيقي في الحياة ولنعلم أيضاً أننا كلنا مسئولون ومحاسبون أمام الله تعالى..


لا يخفى مدى قوة وشدة ما حدث في تونس الخضراء من أحداث متلاحقة و متسارعة منذ أن قام البوعزيزي بإحراق نفسه لتشتعل بذلك ثورة الشعب التونسي الذي أجبر ديكتاتوره على الرحيل -إلى حيث ألقت برحلها أم قشعم-غير مأسوف عليه.وليكون عبرة لمن كان له بعض قلب ممن تولى الأمر على شعوب العرب؛ ولقد صدق من قال اتق شرّ غضبة الحليم فقد كان الشعب التونسي أقل الشعوب فيما يظهر لنا رغبة في الثورة وما كنا نظن أن يحدث هذا في تونس بالذات.

ونأمل من الله أن يحفظ تونس وأهلها من كل مكروه وأن يجمع شملهم ويؤمن روعاتهم وأن يولي عليهم خيارهم.


أما وقد حدث وبسرعة غير متوقعة وبقوة مفاجئة فلننظر في أعقاب ما حدث إلى بعض ما يتعلق بثورة التونسيين التي يصفها البعض بثورة الياسمين ، وقد سجلت نقاطاً لعلها معلومة عند كثير من القراء الذين تابعوا الأحداث فمنها :


1- لما أنشد شاعر تونس أبو القاسم الشابي قصيدته المشهورة ومنها بيته المشهور الذي سار في الآفاق منذ أنشده :
 
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ *** فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر

وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي *** وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر

وهي قصيدة رائعة ومنها البيت السائر الذي كثيرا ما كان يتمثل به أساتذتنا منذ الصغر
 
وَمَنْ يتهيب صُعُودَ الجِبَـالِ *** يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر


وبيتها الأول وإن اعترض عليه بعض العلماء من حيث العقيدة إلا أن بعض المعاصرين وجهه بأنه مدافعة قدر الله بقدره مستدلا بقول الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

وهنالك توجيه آخر ينطبق على هروب زين العابدين حيث حرف بعضهم عجز البيت الأول إلى كلمة القذر مكان القدر ليوافق حال الدكتاتور عند هربه،كفعل الطغاة ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.

أقول لما أنشد الشابي هذه القصيدة لم يكن أحد يعلم أنه يصف حال بلاده بعد ثمانية عقود فكأنه يصف ما يحدث الآن.


2- ولنعلم أن ما جرى في تونس عائد إلى أمور مهمة كلها تضافرت في تكوين هذا الحدث:فمنها إقصاء الإسلام تماما واعتبار أداء أي شعيرة منه تهمة يلاحق صاحبها بها وهذا ظلم قد تطاول لمدة نصف قرن فكم من دعوة رفعت بجوف الليل لإزاحة هذا الكابوس،ومنها كبت الحريات و إهانة الناس والتسلط عليهم كما جرى مع البوعزيزي حينما صودرت عربته وحينما ضربته الموظفة ! ويبدو أن هذا الأمر كان مألوفا في الدوائر الحكومية التونسية ، ومنها مضايقة الناس في أرزاقهم ومنها انتشار البطالة التي تؤدي مع الوقت إلى تلك الحالة من اليأس عند أمثال البوعزيزي وماذا تنتظر من شخص لا تعني له الحياة إلا مزيداً من الفقر والجوع والتهميش؟.


3- قضى زين العابدين في الحكم ثلاثة وعشرين عاما واستغرقت الثورة عليه ما يقارب هذه المدة أو يزيد قليلا في العدد لكنها بالأيام ، فهل يقابل كل يوم من حكمه يوماً من الثورة عليه؟ وهل كان يساوي حكم عام واحدٍ يوماً واحداً من الثورة ليمحو أثره من وجدان الشعب التونسي؟ إن في ذلك لعبرة لمن اغتر بالسلطة والمنصب.


4- أثبتت مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت مرة بعد أخرى أهميتها في تحريك اللعبة السياسية حتى مع وجود الحجب على المواقع والمراقبة شبه اللصيقة وهذا يعطي مؤشراً للحكومات العربية على أنها يجب أن تعيد حساباتها في طريقة التعامل مع الحريات المدنية وأن تتعامل مع شعوبها وبخاصة فئة الشباب بطريقة أكثر نضجاً واحتراماً وهي إن لم تستطع احتوائهم فعلى الأقل يجب ألا تعاديهم وألا تستفزهم!.


5- يسمي البعض الثورة التونسية ثورة الجياع وهذا اختزال شديد لواقع تونس وإنما هي في الحقيقة ثورة شعبية ضد الفساد بجميع أشكاله وأعظمه مصادرة حق الناس في الحياة الكريمة، وهل سمعتم أن أحداً في تونس مات من الجوع أو من شدة الفقر؟إن اختزال معاني الثورة في الجوع لهو ظلم كبير للشعب التونسي أتظنون أن الشعب التونسي لم يتحرك إلا من أجل بطنه ؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.


6- ما وقع في تونس لم يكن أحد يتوقعه بل قد كنت أتوقع أن يحدث هذا في ليبيا أكثر من تونس وليس أدل على ذلك من ردّ فعل معمر القذافي الذي خرج في خطاب انتقده عليه كل من رآه حينما خطأ الشعب التونسي فيما جميع الدول قدرت ما يحدث في تونس واحترمت خيار الشعب التونسي ولم يشذ عن ذلك سوى الدولة الصهيونية التي صرحت بخسارتها رجل من أهم أنصارها في الحكومات العربية.

ومن عجيب خطاب القذافي - وكل أمره عجيب- أنه من حيث لا يشعر يحرض شعبه ضده من خلال كلامه غير المتزن كما أنه خسر الشعب التونسي بلا ريب.


7- يبدو أن إحراق البوعزيزي نفسه الذي أشعل الثورة التونسية كان كالشرارة التي اشتعلت في هشيم العرب،حيث أخذت الحكومات العربية تتخذ قرارات لتهدئة شعوبها خوفاً من انتشار الثورة التونسية في هشيم حكوماتهم.فهذا حاكم يحاور شعبه وآخر يعدهم وثالث يقدم لهم عطايا ورابع يعدهم بفتح مزيد من الحريات ، ومن عجيب ما سمعنا أن قوات الأمن الأردنية أخذت في توزيع المياه والعصائر على مسيرات المحتجين على حكومتهم والذين يطالبون بإسقاطها في بادرة تعد الأولى من نوعها في تعامل أجهزة الأمن مع المظاهرات!.


8- انتقلت عدوى إحراق النفس بين آخرين يترسمون خطى البوعزيزي في مشاهد أقل ما يمكن أن يُعبّر عنها بأنها مخزية ومحزنة في آن واحد إذ كيف يصل الحال باليائس إلى درجة قتل النفس التي تُعد من الكبائر التي وردت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية بتحريمها،وقد أحسن بعض العلماء والمشايخ في إصدار فتاوى في بيان حكمها والمأمول من وسائل الإعلام أن تنشر هذه الفتاوى ليتوقف هذا المشهد المحزن المخزي.


9- من الملفت للنظر كذلك أن من أوائل المهام التي هرع لها التونسيون إعلان الأذان في وسائلهم الرسمية والصلاة جماعة حتى في الشوارع كما تناقلت صورا لذلك كثير من المواقع والمنتديات.


10- السيناريو المتوقع في حال حدوث مثل تلك الثورة في بلد آخر كما علق أحد المحللين لا يتعدى اثنين إما تكرار المشهد التونسي أو مبادرة الأنظمة الأخرى إلى القمع القوي والسريع إذ يعزو ما حدث في تونس إلى التساهل في القمع في بداية الأمر، وقد نقل بعضهم أن ما حدث كان يُهيأ له من قبل انقلابيين من نفس النظام ولعلهم نفس الأطراف الذين يمسكون بأزمة الأمور حتى الآن.


11- مازال البعض حتى الآن في بلاد أخرى يحاولون استغلال الثورة التونسية في تهييج شوارع بلادهم لاستنساخ التجربة ويحاولون تهديد حكوماتهم بثورة شعبية على غرار الثورة التونسية.مع عدم جدوى الإثارة المفتعلة والتي سيكون ضررها أعظم من فائدتها.


12- لا يخفى مقدار فرح المسلمين بزوال كابوس بن علي عن تونس كان الله في عون أهلها على تجاوز أزمتهم وكفاهم شرّ سراق الثورات،ومع فرحنا بزوال حكم الديكتاتور إلا أننا يجب ألا نغفل عن أن ما حدث كان البداية وفرحنا وفرح إخواننا في تونس كان بمثابة السكرة التي حان أن يصحو منها الشعب التونسي ليفكر في مهمات حياته وكيف يمكن ضبط المسار بحيث لا يُستغل من قبل أعداء الإسلام .


13- خنس كثير من أدعياء الليبرالية والحرية -من ربعنا- عن الكتابة فيما يتعلق بالشأن التونسي! فلماذا؟


14- ومن فوائد ما جرى انكشاف حقيقة أعوان الديكتاتور السابق من الدول الغربية التي كانت تعده أفضل رجالها في العالم العربي وحينما سقط تخلت عنه بكل سهولة ونددت بحكمه الذي كانت هي أول الداعمين له وعجزت عن توفير اللجوء له ليجول في طائرته من بلد لآخر بحثاً عن مأوى يجيره من شعبه،.وكل ذلك من مكرهم ليحافظوا على بعض خيوط اللعبة السياسية التي تسهل عليهم التدخل في الحكومة الجديدة.


15- في كل يوم تثبت الأزمات والمحن في العالم العربي والإسلامي أن علماء المملكة ذوي ثقل علمي معتبر في الساحة العربية والإسلامية ونحسبهم ولا نزكيهم على الله أنهم على الجادة، ومع الثقة والاحترام التي يجدونها في العالم العربي من الخليج إلى المغرب إلا أنهم مع ذلك لا يسلمون من نقائص الليبراليين السعوديين الذين لا نحس لهم ركزاً هذه الأيام مع ما يجري في تونس.


16- وأخيراً فقد لجأ الديكتاتور ابن علي إلى السعودية التي كانت وستبقى إن شاء الله ملجأ وحصنا آمنا لكل طريد وقد كنت أقول لبعض الإخوة حينما نتناقش في هذا الأمر أننا من حيث الحمية للدين فكلنا نكره طاغية تونس المطرود من بلاده وبخاصة بعدما تكشفت لنا الكثير من جرائمه ، ولكننا يجب أن نعلم أن المملكة العربية السعودية يجب أن تبقى صاحبة الثقل الأكبر في العالم العربي والإسلامي وبخاصة أن استقبالها له كان مشروطا وفي ذلك تحييد لدوره في الساحة التونسية وقد ذكر المسئولين السعوديين أن استقباله كان نابعا من العادات العربية ولله الأمر من قبل ومن بعد.


وبعدما فرحنا جميعا بنجاح الشعب التونسي في إزالة الكابوس الجاثم عليه منذ نصف قرن من الزمان فإننا كذلك جميعا ً يجب أن نصحو من سكرة ذلك الحلم الجميل جميعاً لنفكر في دورنا الحقيقي في الحياة ولنعلم أيضاً أننا كلنا مسئولون ومحاسبون أمام الله كل في موقعه وليسع كل منا في إصلاح نفسه وإصلاح ما يقع تحت يده ولنتجنب جميعاً الظلم فإن دولة الظلم كما قيل ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة وليقم كل منا بدوره الذي يحب أن يلقى الله عليه ولنحمد الله عز وجل على نعمة الأمن والإيمان فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

كتبه/ أبو بكر بن محمد

16/2/1432هـ
 
المصدر: مجموعة علي العمري البريدية
  • 0
  • 0
  • 9,369

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً