السُنن الإلهية.. اعتبارٌ..لا اعتذار!
عبد العزيز مصطفى كامل
مثلما أمرنا الله تعالى بالنظر والتفكر ليلًا ونهارًا في خلق السموات والأرض ومافيهما من آيات إبداعه وإحكامه؛ فقد أرشدنا للاعتبار والتأمل فيما يجري من وقائع التقدير في أيامه، وقد خاطب سبحانه موسى (عليه السلام) آمرًا إياه أن يذكر قومه بسنن الله، للاعتبار في حكمتها، ومراعاة ذلك في العمل للشريعة المنزلة عليهم وإقامتها
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
مثلما أمرنا الله تعالى بالنظر والتفكر ليلًا ونهارًا في خلق السموات والأرض ومافيهما من آيات إبداعه وإحكامه؛ فقد أرشدنا للاعتبار والتأمل فيما يجري من وقائع التقدير في أيامه، وقد خاطب سبحانه موسى (عليه السلام) آمرًا إياه أن يذكر قومه بسنن الله، للاعتبار في حكمتها، ومراعاة ذلك في العمل للشريعة المنزلة عليهم وإقامتها: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
وفي مكة وقبل أن تتنزل أكثر الأحكام التكليفية؛ كان القرآن يرسي فهم السنن الإلهية.. {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77] وبعد الهجرة أمر الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأمر قومه بالعودة إلى دينه وشرعه، ويحذرهم من جريان تلك السنن على من عاند أمره: { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38].
ثم أمره في الآية التالية بإجراء أمر الشريعة على من حاربها {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39].
(السنن الإلهية) أو (الآيات الكونية) أو (الأيام) أو (الأحكام القدرية) ؛ لها مصادر تستخلص منها وتؤخذ عنها، فهي تستقى أولًا من كتاب الله تعالى، كما قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
وتُستمد أيضًا مما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتحين الظرف المناسب ليدل أصحابه على بعض تلك السنن، وقد كانت له صلى الله عليه وسلم؛ ناقةٌ لا تسبق، أو لا تكادُ تسبقُ - وهي العضباء - فجاء أعرابي على قعود له (جملٌ صغير) فسبقها فشق ذلك على المسلمين؛ حتى عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيهم، فقال: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعهُ» (رواه البخاري: 611) .فعرفهم حكم الله القدري ماضٍ في أن كل شيءٍ في الحياة إذا وصل أقصاه ينحدر إلى منتهاه..
وتُستبط السنن أيضًا من تكرار النظر والتجوال فيما يمر على الأمم والأقوام والأفراد من أحوال، حيث يمكن تتبع آثارها - مكانيًا - بالسعي في الأرض والسير فيها، وتعرف - زمانيًا - بالنظر في التاريخ والسير المشتملة عليها.
وهي تعرف كذلك بالنظر والتفكر في تجانس وقعها وانتظام وقوعها {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ *فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ۚ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 101-103].
فنفاذ آيات الله الكونية وأحكامه القدرية في المؤمنين الصابرين أو في الطغاة المستكبرين؛ يقرره ويكرره ناموسها الثابت؛ وقانونها الدائم، رغم اختلاف ظروف الزمان والمكان والإنسان، {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ* أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَـٰئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ} [القمر: 41-46] .. فالهلاك هو الهلاك لمن طغى وتجبر.. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ دَمَّرَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ ۖ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا* ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ} [محمد: 10-11].
نعم ..(وللكافرين أمثالها) ولكن مع فارق بين انتقام الله وتعذيبه للمتكبرين الأولين ..وبين فعله ذلك بالآخرين، حيث إن العذاب في الدهور الأولى - قبل البعثة - كان بتسليط عوامل الطبيعة أو بالاستئصال، لكنه أصبح بعدها بتسليط المؤمنين بالجهاد والقتال، وفي هذا يقول سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّـهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14-15]، وقال {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّـهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4].
فالاعتبار بالأحكام القدرية..لا يسوغ الاعتزال أو الانتظار أو الاعتذار عن إقامة الأحكام الشرعية..إذا تكاملت شروطها وتوافرت دواعيها...