التحريض على الصلاة !!
منذ 2011-01-25
من أبرز وجوه الانتفاضة التونسية المباركة أنها لم تكن ذات لون سياسي أو فكري أو عقائدي ، شعب قام من أجل الحرية والكرامة ، وهذا ما جعل الطاغية أكثر عجزا عن تصنيف الانتفاضة وإدانتها ، وكانت العادة تجري في العواصم العربية على تحميل التيار الإسلامي
من أبرز وجوه الانتفاضة التونسية المباركة أنها لم تكن ذات لون سياسي أو فكري أو عقائدي ، شعب قام من أجل الحرية والكرامة ، وهذا ما جعل الطاغية أكثر عجزا عن تصنيف الانتفاضة وإدانتها ، وكانت العادة تجري في العواصم العربية على تحميل التيار الإسلامي مسؤولية أي اضطرابات أو إثارة فيسارع النظام السياسي وإعلامه وأجهزته الأمنية إلى تحميل الإسلاميين المسؤولية ، ليسهل وأد الغضبة الشعبية ، لأن قوى دولية عديدة يطربها كثيرا قمع التيار الإسلامي بل قمع أي مظهر للتدين في العالم العربي على النحو الفضائحي الذي حدث بعد ذلك في الموقف من ظهور روح التدين في الشعب التونسي في أعقاب طرد الطاغية .
العواصم الغربية بالكامل ، لم يشغلها انتصار شعب ضد الطغيان ، وفرحة الملايين بكسر شوكة الاستبداد ، وبهجة مجتمع بانبلاج فجر الديمقراطية في بلاده ، وإنما فقط شغلهم صورة المواطنين التونسيين وهم يؤدون صلاة الجماعة في الشارع أو امتلاء المساجد في صلوات الجمعة ، بعد انكسار حاجز الخوف ، يا إلهي : الخوف من الصلاة ، العواصم الغربية رأت في مشهد الصلاة ما يؤرقها ويخيفها ، وبدأت حملة تشهير في دوائر إعلامية وبحثية تحذر من وصول نظام إسلامي متشدد في تونس يهدد أوربا ويصدر لها الإرهاب ، كل ذلك من أجل أن الشعب التونسي أصبح يصلي بلا خوف !!
الواقعة كشفت عن أن "الإسلامو فوبيا" ، أو الخوف المرضي من الإسلام ، ليست صناعة نظم ديكتاتورية محلية فقط ، وإنما هي صناعة غربية بالأساس وما الحديث عنها في عواصم العرب إلا "كورال" يردد النشيد وراء المنشد الأساس ، وأن مسألة مطاردة أي مظهر للتدين ، ومحاصرة الدين ، والتضييق على المساجد ، وتهميش الأحكام الشرعية ، والتنكيل بأي مؤسسة أو جماعة أو حزب أو تيار يكون له أي خلفية إسلامية ، ما هي إلا محاولات غزل غير نظيف ولا أخلاقي لتلك الدوائر الغربية الكارهة للإسلام وحضوره ، سواء كان حضورا سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا أو حتى حضور شعائري مجرد .
المتصهين "دانيال بايبس" سارع فور نجاح الانتفاضة إلى كتابة مقالات للتحذير من راشد الغنوشي وحركة النهضة ، واعتبر رغبة الغنوشي في العودة إلى بلاده بعد طرده خارجها ظلما وقهرا أكثر من عشرين عاما مطلبا غير مشروع !! ، وأن عودة هذا اللاجئ إلى بلاده تعرض المصالح الغربية للخطر ، أي والله هكذا قال ، لأنه من الممكن أن يكون له تأثير على المصالح الغربية وتصدير الإرهاب إلى أوربا ، أي أن العقاب الذي تعرض له الغنوشي وآلاف الشباب الإسلامي في تونس كان بتحريض ودعم كامل من تلك الدوائر ، وأن أكثر ما يخيفهم ويزعجهم أن ينال المواطن التونسي المتدين حريته أو أن يعود إلى وطنه ، أو أن يكون له أي مشاركة في مستقبل بلاده .
والحقيقة أن الذين يخوفون من التيار الإسلامي هنا أو هناك ، يتجاهلون تطور البنية الثقافية والفكرية والسياسية للأجيال العربية الجديدة ، إسلامية أو غير إسلامية ، لم يعد هناك في تلك الأجيال من يقبل ديكتاتورية أيا كان ثوبها ، ولو أتى ديكتاتور بثياب دينية فإن أول من يتصدى له سيكون تيارات إسلامية ، وسوف يصطف الإسلاميون إلى جانب القوى الوطنية الأخرى من مختلف التيارات ضده ، الزمن تغير ، والأفكار تغيرت ، وخبرات الحياة تغيرت ، وأشواق الناس تغيرت ، كما أن الحديث عن تيار إسلامي بشكل تعميمي وجامد أصبح خرافة سياسية ، بل وخرافة اجتماعية أيضا ، لأن الإسلاميين الآن تيارات وقوى ومشارب وأفكار وتنويعات ، بعضها على يسار السلطة وبعضها على يمينها وبعضها في قلب السلطة وبعضها له رؤى اقتصادية لها ميول ليبرالية وبعضهم له رؤى اقتصادية ذات ميول أقرب إلى الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة ، وحتى على صعيد الفكر الديني نفسه ، هناك تباينات لا تخطئها العين بين تيارات إسلامية عديدة تصل إلى حد الخلافات الحادة والاتهامات .
فالحالة الإسلامية فضاء واسع يتنوع مع تنوع المجتمع كله بتوجهاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ومن يختصره في صورة واحدة ، فهو شديد السطحية ، وعلى القوى الوطنية في العالم العربي أن تتنبه إلى أن القلق الغربي من الحالة الإسلامية ليس مقصورا على تيار الإسلام السياسي إن صح التعبير ، وإنما هو كراهية وعدم قبول للإسلام نفسه ، حتى لو كان في صورة غطاء رأس فتاة لا شأن لها بأي سياسة ، أو شاب يواظب على الصلاة في المساجد أو عجوز يحرص على أن يأكل اللحم "الحلال"، إنهم لا يقبلون الإسلام بأبعاده الحضارية والقيمية والأخلاقية التي تتحدى سيادة نمط أخلاقي وقيمي غربي اختلط فيه الإرث المسيحي بنزعات الهيمنة والمركزية والاستعلاء العنصري ضد الآخرين ، لكنهم لا يجرؤون على البوح بتلك الحقيقة.
[email protected]
24-01-2011 م
المصدر: جمال سلطان - جريدة المصريين
- التصنيف: