تأملات في سيرة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه!! (2)
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي
وفي هذا الموقف ما يعطيك دلالة على أن الحب لم يكن مجرد مشاعر يكتظ بها القلب ثم لا تبرحه في مواقف مشرفة كهذه المواقف، وأنا أكـتب هذا المساء عن موقف الصديق وهو يذود عن رسوله صلى الله عليه وسلم على أرض مكة، وأرى اليوم الأذناب يسطون على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تجد الحب الخالد في قلوب الكثيرين يخرج في صورة مشروع للدفاع عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يعد كافياً البتة على مستوى الأمة الصراخ والشجب والعويل على كثير من القضايا، فنحن في أمس الحاجة إلى مشروع يمكن أن يشعل فتيله فرد ممن يقدّر لنبيه صلى الله عليه وسلم قدره.
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي - قصص الصحابة - سير الصحابة -
دعوته وتضحياته!!
إن برهان الدعوة السابق في حياة أبي بكر أكبر من أن ترويه قصة، والثمار التي أينعت بتلك الرجال لم ينبعث بها النوم هبة رباينة، كلا!
وإليك شاهد عيان يحكي لك بعض مواقف النبلاء: روت عائشة ـ رضي الله عنه ـ أنه لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرّق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطيء أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر رضي الله عنه حتى ما يُعرف وجهه من أنفه، حتى حُمل رضي الله تعالى عنه في ثوب ودُخل به إلى منزله ولا يشكّون في موته، ثم جعل والده وقومه يكلموه حتى أجاب آخر النهار، وما زاد أن قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه وقالوا لأمه: أنظري تطعميه أو تسقيه فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: أذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فسأليها عنه فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟ قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر، إنّني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: دار الأرقم، قال: فإن لله علىّ ألا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله فأمهلتها حتى إذا هدأت الرّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّله، وأكب عليه المسلمون ورقّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يارسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برّة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله فأسلمت.
وأنت ترى في هذا الموقف حرص الصديق رضي الله تعالى عنه على بلاغ هذا الدين، والإعلان به، والصدح على مسامع البؤساء بهذه الرسالة الخالدة، لقد كان أبو بكر يعيش آثار الرسالة الحقيقية في قلبه، وقد خالطت دمه، وتخللت إلى روحه فلقي برد جمالها وروعتها فلم يجد بُداً من الصدح بها ولو كانت العواقب أكبر مما يتصوّر الإنسان! وهل يمكن لإنسان على وجه الأرض أن يكتب لرسالته أثراً دون هم أو جهد أو حتى بلواء ومشقة؟! لم تر عيني إلى هذا التاريخ ذلك، ولا سمعته أذني في أخبار السابقين، ولا رأيته وسماً لأحد من المخلوقين! وهذا أبو بكر يبرهن على بعض هذه المعالم، ويكتب ترجمة لتلك المعاني، فلله دره ما أكبره! والله دره ما أصبره! ولله دره ما أروعه مثالاً يحتذى به على مسامع العالمين. والله المستعان!
إن الدعوة هي في أمس الحاجة إلى قدوة يعيشها ويحمل همها، ويركض بها على أرض الله تعالى، لا كما يتوهم البعض حين يتلبّس بها أنها مجرد نجاه لشخصه فحسب! وهؤلاء لم ينتبهوا بعد من رقدتهم، ولم يقوموا من نومهم، فكفاهم غطيطاً يسمعه الناس! إن دين الله تعالى مبني على المدافعة، وكلما قويت هذه المدافعة قوي بها، وزاد تمكيناً، والأعداء يعتلون كثيراً حين لا يسمعون في الساحة صوت داعية، ولا يرون على مشهد الأرض أثراً لأقدام المصلحين. لذا كان من المهم جداً أن يصدح أبو بكر بهذه الرسالة لعل في ذلك درساً بليغاً لهؤلاء أن في الساحة غيرهم، وفي المكان سواهم.
إن حب الله تعالى وحب رسوله معلمان يدلانك على صدق النية، وصحة المقصد، ولك أن تتخيّل مشهد الدماء الدافقة! والآلام التي يعيشها جسد أبي بكر ثم تخيّل أنه لا يفكر في آلام جسده، بقدر ما يفكّر في خليله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ليت شعري من يدعي هذه المحبة اليوم ثم يضحي بها لأجل دنيا عاجلة أو شهوات دانية! ولك أن تتخيّل كذلك الدعاة والمصلحين والأخيار وتتأمّل فيهم لترى كم مساحة السنة في حياتهم؟ لتعرف أن الفرق كبير جداً بين الواقع والحقيقة.
إذا لم تكن الدعوة حياةً في القلب لا يمكن البتة أن يكون لها ثمرة مورقة على ظهر الأرض. في أحلك الظروف، وأقسى اللحظات لم ينس الصديق رضي الله تعالى عنه دعوة أمه إلى الإسلام، فالحادث بكل ما يحمل من معاني لم يفلح في إيقاف تفكير الصديق لحظة عن رسالته وهمه وهدفه: "هذه أمي يارسول الله برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله تعالى".
إن استثمار الفرص صفة من صفات الكبار، وأنت ترى مع كل ما نال أبا بكر في ذلك الحادث لم تشغله تلك الأحداث والظروف الصعبة التي يمر بها من اهتباله للفرصة، واستثمار اللحظة في حينها، "هذه أمي يارسول الله برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله "!
إن البر بالأمهات معلم من معالم الصالحين، وأبو بكر يعطينا درساً غاية في الأهمية، إن أعظم البر بالأمهات ليس خدمة لأعراض الدنيا فحسب! وإنما دعوتها، والحرص على دخولها جنات النعيم. والله المستعان! على كل داعية أن يستوعب درس أبي بكر رضي الله عنه "هذه أمي يارسول الله برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله "! وليتأمّل كم هي مساحة الحرص في حياته على أهله وأبنائه؟! كم هي المساحة الحقيقية التي تملأ قلبه حدباً عليهم، وخوفاً على ضياعهم؟! كم هي المساحة التي يستحقها هؤلاء في زحمة العولمة الطاغية في مثل هذه الأزمان؟!
ولندرك أن نجاح أبي بكر رضي الله عنه اتسم بسمة لا تكاد تراها في كثير من القدوات، سمة التكامل والتوازن، تلك الغاية التي إذا وصل إليها فرد من الناس فليبك فرحاً فليس في الأرض في مثل نعمته! ومن استعرض حاله في ظل هذه السيرة أدرك بما لا يدع للشك أن نجاحه إن وجد فهو مخدوش بنقصه وضعف توازنه، وقد لا يبعد أن يكون سؤاله في التفريط مثل عطاياه في النجاح. والله المستعان!
إن التخطيط والتنظيم سر من أسرار النجاح الحقيقي ليس في الدعوة فحسب! بل في كل شيء، وأم جميل بنت الخطاب تعطي الرجال الذين يقرؤون التاريخ درساً مهماً للغاية حين سألتها أم أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، ذلك أن أم أبي بكر وقت ذلك السؤال لم تكن مسلمة بعد، وخشيت أن تكون تلك المرأة عيناً لقريش على ثغر الإسلام الأعظم. وهل يمكن أن تكون امرأة في روح الجندية وفهم سياسات المرحلة أوعب من رجال؟!
إن التخطيط والتنظيم ليس سراً من أسرار الدعوة فحسب لكنه عقلها ولبها وحياتها وسر نجاحها.. والقائمون على الدعوة لا بد أن ينجح الواحد منهم في التخطيط لزكاء نفسه وربحها بين يدي الله تعالى في مواقف الآخرة، ثم عليه بعد ذلك أن يخطط لمصير أمتة أو حياة مجتمعاته؟! لو سألت بعضاً ممن يقوم على قياد الأمة هل خطط ليومه فضلاً عن أسبوعه أو شهره أو عامه لما وجدت مجيباً أو مسارعاً إلى ذلك، وعيب على أمثال هؤلاء أن يتبوؤا صرح الأمة حتى لو كان من باب فروض الكفايات!
وتلك الدماء النازفة على جسد أبي بكر رضي الله عنه برهان ذلك الحب، ولم يكن هذا الموقف في حياته فحسب، بل كتب في حياته أروع التضحيات التي دونها التاريخ بمداد من ذهب، إن الحب ليس كلمة باردة على لسان دعي. كلا! وإنما هو مشاعر تكتظ في قلب صاحبها فتثير فيه أشجان المحب لمن يحب، لقد كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صورة من صور أولئك الرجال الذين أحبوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وكتبوا برهان ذلك على أرض الواقع..
وإليك بعضاً من مشاهد التضحيات يحكيها شاهد عيان آخر: في حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه قال سألت عمرو بن العاص بأن يخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. رواه البخاري.
وفي هذا الموقف ما يعطيك دلالة على أن الحب لم يكن مجرد مشاعر يكتظ بها القلب ثم لا تبرحه في مواقف مشرفة كهذه المواقف، وأنا أكـتب هذا المساء عن موقف الصديق وهو يذود عن رسوله صلى الله عليه وسلم على أرض مكة، وأرى اليوم الأذناب يسطون على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تجد الحب الخالد في قلوب الكثيرين يخرج في صورة مشروع للدفاع عنه صلى الله عليه وسلم، ولم يعد كافياً البتة على مستوى الأمة الصراخ والشجب والعويل على كثير من القضايا، فنحن في أمس الحاجة إلى مشروع يمكن أن يشعل فتيله فرد ممن يقدّر لنبيه صلى الله عليه وسلم قدره.
إن هذه الأحداث التي تقرأها اليوم في سيرة أبي بكر رضي الله عنه ودفاعه عن نبيه صلى الله عليه وسلم لم تكن موقفاً واحداً، وإنما كان ذلك رحلة عمر قضى فيها حياته مجاهداً في سبيل الله تعالى..
وكم هي حاجة اليوم لإعادة بعض هذه المعاني لسيرة نبيها صلى الله عليه وسلم.. اليوم يُعبث في عالم القدوة على مرأى من المسلمين..! وكأن القوم أدركوا أنه لا سبيل لإماتة منهج هذه قدوته إلا بتشويه هذه القدوة، والعبث بها، أو قل إشفاء غل يتفيء قلوبهم حين يرون اتساع دائرة هذا الإسلام، وآثار دعوة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.. وفي مواقف أبي بكر ما يمكن أن يكون أسوة.. والله المستعان!