(3) إعلان الطريق في الفاتحة
مدحت القصراوي
يقول ابن تيمية أنه ما بلغ أحد رتبة الإمامة في الدين إلا بإخلاصه في دعائه (اهدنا الصراط المستقيم)..
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
وقيمة تكرار الدعاء فيها، ولماذا نكرره ونؤمّن عليه بإلحاح..؟ (أوصي كثيراً بفهمه)
وفي الفاتحة إعلان عظيم، لا يصح الوصول الى الله تعالى إلا به، وهو إعلان الطريق المطلوب، وتميّز الحق وأهله، ورفض الامتزاج بالباطل، ورفض تيه الطريق واختلاط الحق بالباطل والتباسه به فيضل الناس ولا يجدون الحق أبلج واضحا كما يرجوه الطالب..
وذلك أنه لمّا كان في الإنسان قوتان: قوة علمية وقوة عملية.. قوة معرفة وتصديق وإثبات، وقوة إرادة وقصد وطلب.
وأنه لو انحرفت قوة العلم والمعرفة والتصديق كان الضلال، ولو انحرفت قوة الإرادة والقصد والطب ـ قوة العمل ـ كانت الغواية واستحقاق الغضب.
ولهذا استعاذ المؤمن من انحراف العلم والضلال، وأبرز من يمثلهم النصارى الذين لم يميزوا الخالق عن المخلوق، ولا أضل من هذا عند العاقل.. واستعاذ من انحراف العمل والغواية وأبرز من يمثلهم اليهود، لِعنادهم الحق مع علمهم به، بسبب كرههم للحق وحسدهم لأصحابه.
وأنه لما كان نبينا صلى الله عليه وسلم، قد نفى الله تعالى عنه الضلال والغواية، وكنا أتباعه، كان طريقه جامعا للعلم الصحيح والعمل الصحيح النافع {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ} [ النجم 2] .. ولهذا سأل المؤمن ربه تعالى بإلحاح، وتأمين على الدعاء، ألا ينحرف علمه أو يزل عمله، ولا يلحق بأمة الضلال أو أمة الغضب.. بل أن يُرزق اتباع أمة الهداية.
ولما كان العلم يكون مجملا، ويكون مفصلا، فسؤال الله الهداية يكون طلبا للهداية للطريق إجمالا، وللعلم به تفصيلا.. وأن يعلم بتفصيل كل موقف وما يدل عليه من العلم المفصل، فقد يعلم الإنسان العلم نظريا ولا يعلم أي دليل أوْلى بالواقعة أمامه؛ ولهذا يحتاج الى هداية أخرى للتوفيق الى هذا العلم المتناول للواقعة أو الحال الذي يباشره..
ولما كان الإنسان قد يعلم ولا يعمل، وقد يصف الحق ولا يقوم به، كان سؤال الهداية متناولا لمحبة العمل به وإرادة ذلك.. ولما كان الإنسان قد يريد العمل ويحبه ولا يقدر عليه، فكانت الهداية متناولة للتوفيق والمعونة والقدرة على العمل..
ولما كان الإنسان يعرض له عمل بعد عمل وحال بعد حال كان محتاجا للعلم، والعمل به، في كل موقف بعد موقف وحال بعد حال ولحظة بعد أخرى.. كان سؤال الهداية متناولا للإستمرار على العمل، ولهذا يكرره في كل صلاة لما يتبعها من أوقات وأحوال وأعمال يحتاج فيها الى الهداية..
ولما كان العمل يقوم به الإنسان لكن لا قيمة له إلا أن يتقبله الله تعالى، كان سؤال الهداية متناولا طلب قبول الله تعالى للعمل..
ولما كان العمر بآخِرِه والعمل بخواتمه كان سؤال الهداية متناولا للختام على عمل صالح متقبَل حتى لا تحبط الأعمال بعد تمامها..
ولما كان الإنسان محتاجا للإجابة في قبره على سؤال الفَتّانين كان سؤال الهداية متناولا للثبات عند هذا الموقف العظيم..
ولما كان في يوم القيامة مواقف شتى عند السؤال والميزان واستلام الصحف والصراط كان العبد محتاجا للهداية للفوز في كل هذه المواقف..
ولما كان العبد في الجنة محتاجا للهداية حتى معرفة منزله في الجنة، والوصول اليه.. كان هذا كله داخلا ضمن سؤال الهداية.. ولهذا لا أنفع ولا أعظم ولا أجمع من قولك {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة 6] ..
صراطا واضحا أبلجا بين طريق الغواية والضلال، ومفصَّلا في نفسه، وموصلا لدار السلام..
يقول ابن تيمية أنه ما بلغ أحد رتبة الإمامة في الدين إلا بإخلاصه في دعائه (اهدنا الصراط المستقيم)..
فاللهم اهدنا وإخواننا وسائر المسلمين، الصراط المستقيم، صراط من أنعمت عليهم من النبيين والصِديقين والشهداء والصالحين، حتى رؤية وجهك الكريم.