الثورة المصرية .. ربح الجميع إلا الثوار
منذ 2011-02-08
لم يكن أحد من المصريين أو من غيرهم في محيطهم الإقليمي والدولي يتخيل أن يكون لمصر وأحداث انتفاضة شعبها المباركة مثل هذا الكم الهائل من الثقل والأهمية، وهذا الاستحواذ الكامل علي وسائل الإعلام المحلية والعالمية...
لم يكن أحد من المصريين أو من غيرهم في محيطهم الإقليمي والدولي يتخيل أن يكون لمصر وأحداث انتفاضة شعبها المباركة مثل هذا الكم الهائل من الثقل والأهمية، وهذا الاستحواذ الكامل علي وسائل الإعلام المحلية والعالمية، لم يكن أحد يتخيل الأهمية الإستراتيجية لهذا القطر العريق ومدي تأثيره علي السياسة الإقليمية والدولية وحتى علي الاقتصاد، فثورة المحرومين والمظلومين والمقهورين من شباب مصر الأبطال قد فاق أثرها ودويها، ما أحدثته ثورة أبطال تونس، حتى أن هذا الحدث الجلل هو الشغل الشاغل الآن للسياسة الخارجية للقوى العظمى مثل أمريكا والاتحاد الأوروبي، وسقطت الأحداث الجسام مثل تقسيم السودان وفتن لبنان ومآسي العراق وغيرها من المشهد الإعلامي تماماً لصالح أحداث مصر اليومية بكل تفصيلاتها.
هذه الثورة المباركة والهبة الميمونة من شباب مصر الصادقين الشجعان تتعرض الآن وبعد مرور أكثر من عشرة أيام علي اندلاعها لعملية قنص وسطو أقل ما توصف به بأنها "غير شريفة"، من العديد من الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي بمصر، بعد أن أثبتت هذه الثورة البطولية سقوط العديد من الثوابت في مسيرة العمل السياسي والتنظيمي ليس في مصر وحدها لكن في العالم بأسره، هذا السطو غير الشريف سيسلب الثورة مكتسباتها، ويهدر دم شهدائها، ويبعثر جهود من تعبوا لإيقاظ الشعب المصري من سباته الجبري لسنوات طويلة ، فكيف ذلك ومن الجناة؟
فن تفكيك الثورة:
ثورة الشباب بكل ما فيها من حماسة وشجاعة وعفوية وبذل تمثل حالة استثنائية علي ثورات الشعوب، فما من ثورة في التاريخ الإنساني إلا ولها قيادة ومنظرون وعقول مدبرة، إلا هذه الثورة المباركة، وقد يكون هذا أحد أسباب روعتها وفورتها القوية، ولكن هؤلاء الشباب الأنقياء رغم ما أوتوا من سعة إدراك وواسع معرفة وإطلاع بالأمور السياسية العامة وأحوال السياسية الخارجية والدولية، إلا أنهم لا يعرفون دخائل السياسة ولا يعرفون المبادرات الجانبية وتحالفات المصلحة، لا يعرفون ألاعيب الساسة ومؤامرتهم التي مردوا عليها من سنوات طوال في لعبة السياسة وفن الممكن والمصالح المطلقة، ونحن لا نتهم هؤلاء الشباب الأبطال بالسذاجة السياسية أو غير ذلك، حاشا لله أن يطال لسان ضعيف عاجز مثلي، موقف هؤلاء الأبطال، ولكنها الحقيقة التي لابد من إدراكها قبل فوات الأوان وضياع كل ما بذلوه من تعب وعرق ودم.
ثورة الشباب تتعرض وتحديداً من يوم الثلاثاء الماضي لعملية تفكيك غير مباشرة بأسلوب مخابراتي شديد الذكاء، فبعد أن كان شعار الثورة المباركة عند انطلاقها (الشعب يريد إسقاط النظام) أصبح الشعار اليوم وبكل وضوح (الشعب يريد إسقاط الرئيس) وهذا يعتبر انحراف كبير وجوهري في مسار الثورة يهدد ببقائها وجديتها، فخفض سقف طموحات الانتفاضة الشعبية لا يضر إلا بها، وكأن المشكلة قد أصبحت في شخص الرئيس فحسب، مع أن الجميع يعلم يقيناً أن منظومة الحكم كلها كانت فاسدة، وتحتاج إلي حلول جذرية وليست ترقيعية، وما حدث في تونس خير شاهد علي خطورة بقاء أشباح النظام القديم تهدد البلاد والعباد، وتؤز القيادة الجديدة أزا من أجل العودة إلي الظلم والفساد.
هذا التغيير الجذري في شعار الثورة قد أدخل القائمين عليها في متاهة من نوع آخر لا قبل لهم بها، بل هم لا يعرفون عنها أي شيء في الأساس، وهي متاهة القوانين والدساتير، والبنود والخطوات القانونية والإجراءات التشريعية التي تزخر بالتفاصيل التي لا يقف عليها إلا ترزية القوانين وما أكثرهم في الحزب الحاكم (سابقاً) وهو ما يدور حوله اللغط والخلاف في الأيام السابقة، فبعد المواجهات الدموية الهجمات الوحشية التي قادها سلاح النظام السري (البلطجية) على المتظاهرين في ميدان التحرير يوم الأربعاء الماضي، وما أحدثه من مكاسب وتعاطف داخلي وخارجي واسع النطاق وأشرفت الثورة علي النجاح الكامل، خرجت دوائر الحزب الحاكم (سابقاً) لتروج لفكرة اشترك في صياغتها العديد من الأطراف التي تريد أن تحقق أكبر قدر من المكاسب علي حساب دماء الشهداء وتعب المرابطين في ميدان التحرير.
وبطريقة البيضة أولاً أما الدجاجة، دار لغط كبير وحوار عقيم منذ يوم الخميس في الأوساط السياسية والإعلامية والشباب المشاركين، هل لو تمت إقالة الرئيس الآن من سيقوم بتعديل الدستور وإلغاء قانون الطوارئ، ومن سيحل مجلسي الشعب والشورى الباطلين؟ فإن نائب الرئيس لا يملك مثل هذه الصلاحيات، إذ لا يملكها إلا الرئيس المنتخب من قبل الشعب، وبالتالي لا يمكن إقالة الرئيس حتى يقوم بمثل هذه الإصلاحات، وهذا ما يتعارض مع المطلب الأساسي للمتظاهرين المرابطين في ميدان التحرير، الذين أقسموا إلا يغادروا الميدان حتى يتنحى الرئيس، وهنا يقول لهم سدنة النظام لو سلمنا لكم بما تطلبون سوف يستحيل تنفيذ أي وعود إصلاحية، فلا إلغاء لقانون الطوارئ ولا تعديل للدستور ولا إطلاق للحريات ولا حل للمجالس النيابية المزورة، إذ أن كل ذلك سينتظر إلي شهر سبتمبر القادم موعد انتخابات الرئاسة الجديدة، وبالتالي سيتعين عليكم المفاضلة بين تنحية الرئيس أو انتظار التعديلات، وهذا ما أوقع المتظاهرين في دائرة أخرى لم تكن في حسبانهم، وهي دائرة أصحاب المصالح من هذه الثورة.
هل توجد صفقات سرية؟
المتابع الجيد لسير الأحداث في مصر منذ اندلاع الثورة المباركة يعلم علم اليقين، أن ثمة صفقة ما تجرى في الخفاء بين العديد من القوى السياسية الفاعلة والنشطة في المشهد السياسي في مصر، فبتحليل أطراف الثورة والشخصيات الحاضرة في مشهد الأحداث، نجد خمسة أطراف حاضرة: النظام الحاكم ممثلاً الآن في عمر سليمان نائب الرئيس، الشباب المعتصمون بكافة أطيافهم الحزبية والاجتماعية والفكرية والثقافية وقرنائهم المتظاهرون في كل المحافظات، الإخوان المسلمين، الأحزاب السياسية المرخصة مثل الوفد والتجمع والناصري وغيرهم، الجمعيات الوطنية وحركات التغيير السياسية مثل حركة كفاية وجمعية التغيير ولجنة الحكماء.
الطرف الأكثر فاعلية في هذه الأطراف كلها والذي يرجع إليه الفضل الأول بعد الله في إيقاظ الانتفاضة هم الشباب خاصة المعتصمين في ميدان التحرير، وللأسف هو الطرف الوحيد الذي علي ما يبدو سيخرج من اللعبة السياسية والصفقات السرية، فالنظام الحاكم ممثلاً في عمر سليمان قد دعا كافة الأطراف إلي الحوار وهو يعلم علم اليقين أن الشباب لا يوجد لهم قيادة محددة تتكلم بلسانهم أو تعبر عن مطالبهم صراحة مثل باقي الأطراف، حتى من تم انتخابهم للتمثيل هم من نشطاء الفيس بوك والإنترنت، ولم يمارسوا السياسة عمليا ولم تعركهم خطوبهم ودواهيها، بل هم لا يعرفون ألاعيب المخابرات وميكيافيلية الإخوان ومؤامرات الأحزاب السياسية، لذلك بدأ الحوار من غيرهم، والجميع يعرف بالضبط ماذا يريد منه الطرف الآخر.
فالنظام ممثلاً في عمر سليمان وهو رجل مخابرات من طراز فريد شهد بكفاءته الجميع في الداخل والخارج، وهو خبير في فنون التفاوض والتحاور والعرض والطلب، قد فتح المجال للحوار مع العديد من الأطراف، وفي أجندته الخاصة هدف استراتيجي ليس بالبعيد، وهو تسلم السلطة ليس فقط بتفويض من مبارك، ولكن بإجماع سياسي ومباركة شعبية، وهو قمة هرم الدهاء السياسي.
فنائب الرئيس عمر سليمان يريد من كل طرف عدة أمور، وفي المقابل يريد منه الأطراف الأخرى عدة أمور، فهو يريد من الإخوان مثلاً فض التظاهرات من الشارع المصري، خاصة المتظاهرين في المدن الهامة مثل الإسكندرية والإسماعيلية والسويس والمنصورة، وإخراج عناصرهم المتواجدة بكثافة في ميدان التحرير، وهو يعلم علم تماماً مدى سيطرة الإخوان على الشارع وثقلهم الاستراتيجي في هذا المضمار، وهو يريد منهم أيضاً تعهداً مؤكداً بألا يترشح منهم أحد لانتخابات الرئاسة التي من المتوقع أن تتم تحت إشراف دولي، ويحتاج سليمان أن تخرج بصورة نظيفة يشهد لها العالم وتؤكد علي سيطرته على الوضع الداخلي وهو ما يريده العالم الخارجي خاصة أمريكا وإسرائيل، وفي المقابل يريد الإخوان من سليمان الاعتراف بهم ككيان سياسي ممثلاً في حزب معترف به يحصل على ترخيص ويسمح له بالمشاركة في الحياة السياسية، ولكن بضوابط وشروط معينة تجعله حزباً لا يكون على أساس ديني أو يرفع شعاراً دينياً مثل الإسلام هو الحل، كما لا يكون لهم تدخل في السياسة الخارجية وهو شرط أساسي لعمر سليمان في تفاوضه مع سائر الأطراف، وقد ظهرت بوادر صحة هذا الكلام في تغير لغة الحوار في وسائل الإعلام عن دور الإخوان في المظاهرات فقد تم حذف مفردة (المحظورة) التي ظلت تلازم الجماعة منذ عشرات السنين عند الحديث عنهم، وبدت أيضاً في نزول وزير الدفاع بنفسه لميدان التحرير يوم الجمعة لإقناع شباب الإخوان بالضغط علي مرشدهم لقبول الحوار مع النظام، ووصف سليمان نفسه للعرض الذي يقدمه للإخوان بأنه (ثمين ولا يعوض)، ثم إعلان الإخوان نيتهم عن عدم الترشح للانتخابات الرئاسية، فكلا الطرفين يحسن استقبال إشارات الطرف الآخر والتعامل معها، وكلاهما من دهاة السياسة المصرية.
أما الأحزاب السياسية الأخرى مثل الوفد والتجمع والناصري، فسليمان يعلم ضعف أثرها على الشارع، وغياب تمثيلها في المظاهرات، ولكنه يريد منها إكمال المشهد السياسي وتجميله في الانتخابات القادمة بترشيح رؤساء الأحزاب الذي يعلم يقيناً أنها لن تحصل علي نسبة تذكر من الأصوات لضعف بنيتها الشعبية، كما أنه يريد منها أن تكبح جماح الإخوان وتستوعب الشباب الذين لا ينتمون إلي الإخوان مثل شباب الفيس بوك والإنترنت وكفاية وغيرهم ممن يوصف بالانفتاح والليبرالية، وفي المقابل سوف تحصل هذه الأحزاب علي تمثيل مناسب في الحقائب الوزارية، مع اشتراط عدم التدخل في السياسة الخارجية، أما لجنة الحكماء والتي تمثل الصفوة من المفكرين والمتخصصين والذين كان يفترض فيهم أن يكونوا أكثر الناس حصافة وفهماً لدخائل السياسة، فالنظام يريد منهم استيعاب مطالب شباب التحرير المتغايرة وإقناعهم بالخروج من الاعتصام، والتحدث بالنيابة عنهم لاستبعاد العناصر العنيدة من هذه الجموع، وفي المقابل سيحصل هؤلاء الحكماء علي دور ما في الحياة السياسية بمصر، على الأغلب أنه سيكون دور رقابي ولكنه بصورة شرفية وغير ملزمة.
وسواء صح هذا الكلام أم لم يصح فإن الأحداث المتلاحقة والجدل الدائر اليوم في مصر حول تنحية الرئيس أو تفويضه لنائبه أو حتى تدخل الجيش لحسم الخلاف، فكل هذه السيناريوهات على ما يبدو أنها تقود لشخصية عمر سليمان رجل المخابرات القوي، والذي يمسك في يده بخيوط اللعبة والذي توافقت عليه القوى الخارجية ويبقي التوافق الداخلي وهو ما ستنتهي إليه علي الأغلب جلسات الحوار التي بدأت منذ يومين، وبالتالي سيخرج جميع الأطراف من هذه الثورة فائزين ورابحين ما عدا الشباب الذين دفعوا أرواحهم ودمائهم وأيقظوا الشعب من سباته، أما الشباب في ميدان التحرير فليس لهم بعد ذلك كله إلا الله عز وجل، وكفي بالله حسيباً ووكيلاً.
بقلم: شريف عبدالعزيز
[email protected]
السبت 05 فبراير 2011 م
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
- التصنيف: