كيف أنت إذا..؟
ملفات متنوعة
- التصنيفات: الحث على الطاعات -
شدوا وثاقها.. وحرموها حواسها.. وشعرت بأنها موضوعة على ما يشبه الهودج.. في ارتفاعه وحركته..
سمعت صوت حبيبها وسطهم.. ماله لا يعَنِّفهم.. ماله لا يمنعهم من أخذها؟؟؟
صوت الخطوات الرتيبة تمشي على تراب خشن.. ونسائمُ فجريةٌ باردةٌ تلامس ثيابها البيضاء.. ورغم أنها لا ترى إلا أنها تخيلت الجو من حولها ضبابياً.. وتخيلت الأرض التي هي فيها الآن أرضاً خواء مقفرة..
أخيراً توقفت الخطوات دفعة واحدة، وأحست بأنها توضع على الأرض.. وسمعت إلى جوارها حجارة ترفع وأخرى توضع.. ثم حُمِلت ثانية.. وشاع السكون من حولها.. وأحست بالظلام ينخر عظامها..
ومن أعلى تناهى لسمعها صوت نشيج.. إنه ابنها.. نعم هو.. لعله آت لإنقاذها؟؟
لكن.. ماذا تسمع؟؟ إنه يناديها بصوت خفيض: أمي..
ومن بين الدموع يتحدث زوجها إليه قائلاً:
تماسك.. إنما الصبر عند الصدمة الأولى.. ادع لها يا بني.. هيا بنا..
غلبته غصة.. وألقى نظرة أخيرة على الجسد المسجى.. فلم يتمالك نفسه أن قال بصوت يقطر ألماً: لا إله إلا الله.. لا إله إلا لله.. إنا لله وإنا إليه راجعون..
كان هذا آخر ما سمعته منه.. ثم دوى صوت حجر رخامي يسقط من أعلى ليسد الفتحة الوحيدة التي كانت مصدر الصوت والنور... والحياة..
صوت الخطوات تبتعد.. إلى أين؟؟؟ أين تتركوني؟؟ كيف تتخلون عني في هذه الوحدة وهذه الظلمة؟؟
نظرت حولها فإذا هي ترى... ترى؟؟
أي شيء تستطيع أن تراه في هذا السرداب الأسود؟؟
إن ظلمته ليست كظلمة الليل الذي اعتادته.. فذاك يرافقه ضوء القمر.. وشعاع النجوم..
فينعكس على الأشياء والأشخاص..
أما هنا فإنها لا تكاد ترى يدها.. بل إنها تشعر بأنها مغمضة العينين تماماً..
تذكرت أحبَّتها وسمعت الخطوات قد ابتعدت تماماً، فسرت رعدة في أوصالها ونهضت تبغي اللحاق بهم.. كيف يتركونها وهم يعلمون أنها تهاب الظلام والوحدة؟؟
لكن يداً ثقيلة أجلستها بعنف..
حدقت فيما خلفها برعب هائل.. فرأت ما لم تره من قبل.. رأت الهول قد تجسد في صورة كائن.. لكن كيف تراه رغم الحلكة؟؟
قالت بصوت مرتعش: من أنت؟؟
فسمعت صوتا عن يمينها يدوي مجلجلاً: جئنا نسألك..
التفتت.. فإذا بكائن آخر يماثل الأول..
صمتت في عجز.. تمنت أن تبتلعها الأرض ولا ترى هؤلاء القوم.. لكنها تذكرت أن الأرض قد ابتلعتها فعلاً..
تمنت الموت لتهرب من هذا الواقع الذي لامفر منه.. فحارت لأمانيها التي لم تعد صالحة.. فهي ميتة أصلاً..
- من ربك؟؟
- هاه..
- من ربك؟؟
- ربي.. ما عبدت سوى الله طول حياتي..
- ما دينك؟؟
- ديني الإسلام..
- من نبيك؟؟
- نبيي ....؟؟؟
اعتصرت ذاكرتها.. ما بالها نسيت اسمه؟؟ ألم تكن تردده على لسانها دائماً؟؟ ألم تكن تصلي عليه في التشهد خمس مرات يومياً؟؟
بصوت غاضب عاد الصوت يسأل:
- من نبيك؟؟
- لحظة أرجوك.. لا أستطيع التذكر..
ارتفعت عصا غليظة في يد الكائن.. وراحت تهوي بسرعة نحو رأسها.. فصرخت.. وتشنجت أعضاؤها.. وفجأة أضاء اسمه في عقلها فصرخت بأعلى صوتها:
- نبيي محمد.. محمد..
ثم أغمضت عينيها بقوة.. لكن..
لم يحدث شيء.. سكون قاتل..
فتحت عينيها مستغربة فقال لها الكائن الذي اسمه نكير: أنقذتك دعوة كنت ترددينها دائماً (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)
سرت قشعريرة في بدنها.. أرادت أن تبتسم فرحة.. لكنها لم تستطع.. ليس هذا موضع ابتسام... ياربي متى تنتهي هذه اللحظات القاسية..
بعد قليل قال لها منكر: أنت كنت تؤخرين صلاة الفجر...
اتسعت عيناها.. عرفت أنه لا منجى لها هذه المرة.. لأنه لم يجانب الصواب.. دفعها أمامه.. أرادت أن تبكي فلم تجد للدموع طريقاً.. سارت أمام منكر ونكير في سرداب طويل حتى وصلت إلى مكان أشبه بالمعتقلات...
شعرت بغثيان.. وتمنت لو يغشى عليها.. لكن لم يحدث..
فاستمرت في التفرج على المكان الرهيب..
في كل بقعة كان هناك صراخ ودماء.. عويل وثبور.. وعظام تتكسر.. وأجساد تحرق.. ووجوه قاسية نزعت من قلوبها الرحمة فلا تستجيب لكل هذا الرجاء..
دفعها الملكان من خلفها فسارت وهي تحس بأن قدميها تعجزان عن حملها.. وإذا بها تقترب من رجل مستلق على ظهره.. وفوق رأسه تماماً يقف ملك من أصحاب الوجوه الباردة الصلبة.. يحمل حجراً ثقيلاً.. وأمام عينيها ألقى الملَك بالحجر على رأس الرجل.. فتحطم وانخلع عن جسده متدحرجاً.. صرخت.. بكت.. ثم ذهلت ذهولاً ألجم لسانها..
وسرعان ما عاد الرأس إلى صاحبه.. فعاد الملَك إلى إسقاط الصخرة عليه..
هنا.. قيل لها:
-هيا.. استلقي إلى جوار هذا الرجل..
- ماذا؟؟
- هيا..
دُفعت في عنف.. فراحت تقاوم.. وتقاوم.. وتقاوم.. لا فائدة.. إن مصيرها لمظلم.. مظلم حقاً..
استلقت والرعب يكاد يقطع أمعاءها.. استغاثت بربها فرأت أبواب الدعاء كلها مغلقة.. لقد ولَّى عهد الاستغاثة عند الشدة.. ألا ياليتها دعت في رخائها.. ياليتها دعت في دنياها.. ليتها تعود لتصلي ركعتين.. ركعتين فقط.. تشفع لها..
نظرت إلى الأعلى فرأت ملكاً منتصباً فوقها.. رافعاً يده بصخرة عاتية يقول لها:
-هذا عذابك إلى يوم القيامة.. لأنك كنت تنامين عن فرضك..
ولما استبد اليأس بها.. رأت شاباً كفلقة القمر يحث الخطى إلى موضعها.. ساورها شعور بالأمل.. فوجهه يطفح بالبِشر وبسمته تضيء كل شيء من حوله..
وصل الشاب ومد يديه يمنع الملك..
فقال له:
- ما جاء بك؟؟
- أُرسِلت لها.. لأحميها وأمنعك..
- أهذا أمر من الله عز وجل؟؟
- نعم..
لم تصدق عيناها.. لقد ولَّى الملك.. اختفى .. وبقي الشاب حسن الوجه.. هل هي في حلم؟؟
مد الشاب لها يده فنهضت.. وسألته بامتنان:
- من أنت؟؟
- أنا دعاء ابنك الصالح لك.. وصَدَقَته عنك.. منذ أن مِتِّ وهو لا ينفك يدعو لك حتى صور الله دعاءه في أحسن صورة وأذن له بالاستجابة والمجيء إلى هنا..
أحست بمنكر ونكير ثانية.. فالتفتت إليهما فإذا بهما يقولان:
انظري.. هذا مقعدك من النار.. قد أبدله الله بمقعدك من الجنة..
« وولدٍ صالحٍ يدعو له »