تجارة الآخرة و الاستثمار الرابح
تجارة الدنيا لم تشغل أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن تجارة الآخر.
تأملت يوما في حرص تجّار الدنيا الشديد على استثمار أي فرصة تلوح في الأفق لزيادة أرباحهم وتنمية مكتسباتهم المادية؛ وترقبهم الدائم لمواسم إقبال الناس على بضاعتهم؛ واتباعهم بشكل دقيق لقواعد وقوانين السوق التي لا تحابي أو تجامل أحدا؛ ودأبهم المتواصل على جمع المعلومات والأخبار عن كل شاردة وواردة في عالم المال والأسواق؛ لضمان عدم فوات صفقة رابحة أو تجارة جديدة تدرّ على خزائنهم مزيدا من المال؛ وشعارهم الذهبي في ذلك..
هل من مزيد:
ومع التأكيد على أن مهنة التجارة المنضبطة بضوابط الإسلام وقواعد الحلال والحرام؛ والمتأسية بهدي النبي العدنان صلى الله عليه وسلم؛ هي من أكثر المهن التي رغب فيها دين الله الخاتم؛ ويكفي تأكيدا على ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام للتجارة؛ وفي الحديث عن رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ بإسناد حسن قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»؛ كما عمل كثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم في التجارة ومنهم: أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم..
إلا أن ما أثار تساؤلي هو: لماذا لا يكون حرص المسلمين على تجارة الآخرة كحرصهم على تجارة الدنيا أو قريبا من ذلك على أقل تقدير ؟! ولماذا لا ترى إقبال أحدهم على فرصة جديدة لم يكن يعلم بها لزيادة رصيده من الحسنات في الآخرة كإقباله ولهفته على صفقة أخرى دنيوية تجلب له حفنة من المال ؟!
أسئلة كثيرة وردت على ذهني وأنا أسمع وأشاهد وأطالع ترغيب بعض الدعاة إلى الله الناس على وسائل التواصل الحديثة لاغتنام الفرص الذهبية لتحصيل الكثير من الثواب والحسنات بالقليل من الجهد والعمل؛ دون ملاحظة ذلك التجاوب المتوقع من الناس عموما على تلك التجارة الآخروية الرابحة؛ في مقابل استمرار ملاحظة حرصهم الشديد وإقبالهم اللافت على صفقات دنيوية لا يمكن أن تقارن بتجارة الآخرة ومنحها الإلهية العظيمة والكثيرة.
ويكفي مثالا على ذلك ما جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» (صحيح البخاري برقم/32933)
فمع ما في هذا الحديث من تجارة أخروية رابحة بامتياز؛ و فرصة فريدة من نوعها لكسب المزيد من الحسنات وتكفير السيئات والحرز من الشيطان.. إلا أن الكثير من المسلمين من قد يغفل عن العمل بهذا الورد كل يوم؛ ولا تجد منه ذلك الحرص على الالتزام به أو عدم تفويته؛ في الوقت الذي تراه حريصا كل الحرص على صفقات دنيوية تمنحه هامشا بسيطا وقليلا من الربح المادي الدنيوي!
كثيرة هي الأحاديث النبوية الصحيحة التي عرضت على أتباع الدين الخاتم أمثال هذه العطايا الربانية والمنح الإلهية الضخمة من الحسنات وتكفير السيئات في مقابل أعمال خفيفة على البدن واللسان؛ ثقيلة عند الله في الميزان ؛ ففي الحديث عن أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ الثَّقَفِىُّ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا » (سنن الترمذي برقم/345 وقال الألباني : صحيح ).
قلت في نفسي وأنا أقرأ هذا الحديث النبوي العظيم: ماذا لو كان عشر معشار أمثال هذه المنح والعطايا على تلك الأعمال الخفيفة البسيطة السهلة في الدنيا ضمن صفقة أو عرض دنيوي مقابل مال أو متاع من متع الدنيا الفانية ؟! إذا لرأيت تسابق الناس على تلك التجارة وتنافسهم عليها منقطع النظير؛ ولربما وصل الحرص على اغتنام تلك الفرصة الذهبية إلى حد التنازع إن كان للعرض عدد من الناس محدود أو مدة محددة!!
أقول: لعل كلمة السر في إدراك السبب الأهم في ذلك الفرق الشاسع بين إقبال الناس الشديد على تجارة الدنيا وصفقاتها؛ في مقابل إحجام كثير منهم عن تجارة الآخرة؛ رغم أن العوض في الأولى قليل و مؤقت فان؛ بينما العوض في الآخر كثير ودائم غير منقطع.. هو: ضعف العقيدة ونقص الإيمان وقلة اليقين؛ الذي جعل الناس يتعلقون بالدنيا الفانية وينسون الآخرة الباقية؛ ويؤثرون تجارة الدنيا على تجارة الآخرة.
ولعل الدليل على ذلك تتبع سلوك السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان؛ ممن صحت عقيدتهم ورسخ إيمانهم بالله تعالى؛ وقوي يقينهم بأن الآخرة الباقية هي خير لهم من الدنيا الفانية؛ حيث لم تشغلهم صفقات الدنيا عن تجارة الآخرة؛ ويكفي التمعن في هذا الحديث وفهمه لإدراك هذه الحقيقة.
ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: ( أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» (صحيح البخاري برقم/843)
فالحديث يشير بشكل واضح إلى أن تجارة الدنيا لم تشغل أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن تجارة الآخرة؛ بل دفع حرصهم على تجارة الآخرة إخوانهم من الفقراء إلى أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم عملا يدركون به مزية الأغنياء عليهم ؛ تلك المزية التي تؤكد أنهم كانوا يستخدمون أرباح صفقاتهم الدنيوية المالية للتزود من تجارة الآخرة؛ من خلال صرف تلك الأموال في : الحج والعمرة والجهاد والصدقة كما جاء في نص الحديث .
لقد دفعت تلك العقيدة الراسخة بالله والإيمان القوي بأن ما عند الله خير من الدنيا وما فيها ؛ دفعت الصحابي الجليل صهيب الرومي إلى التخلي عن كل ماله الذي له بمكة مقابل أن يتركه مشركو قريش يهاجر بإيمانه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فما كان من خاتم الأنبياء والمرسلين إلا أن وصف بيعه هذا بالقول : "ربح البيع أبا يحيى" .
ومن هنا فأن العمل على ترسيخ العقيدة في نفوس المسلمين ؛ و تقوية اليقين ببدهية مغادرة هذه الحياة الدنيا وحتمية العرض أمام الله للحساب ؛ في يوم تكون فيه العملة الوحيدة القابلة للتداول والنفع هناك هي الحسنات فقط ...هو السبيل الأنجع والأسرع لإقبال المسلمين على تجارة الآخرة وحرصهم عليها أضعاف حرصهم على تجارة الدنيا.
د. عامر الهوشان
- التصنيف:
- المصدر: