اخلع نظارة اليأس

منذ 2017-04-01

يأبى بعضُ الناس إلا أن يُردّد مفردات اليأس والقنوط! سواء فيما يخصه أو يخص واقع الأمة، وأننا حالةٌ استثنائية من موضوع الفأل، فهو يعيش اليأسَ في كل تصرفاته، ولا يكاد يفرح بشيء

أسباب الهموم والمكدّرات في هذه الحياة كثيرة، وفي المقابل؛ فإن أسبابَ السعادةِ والانشراح كثيرة ومتعددة، يعجز الإنسان عن عدّها.

ومن قرأ القرآنَ وجدَ أنه وصَفَ كثيراً من المباحات بكلماتٍ تبعث على الفأل والسرور؛ فسمّى البنينَ والمالَ {زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46].

والقرآنُ صريحٌ جداً في التحذير من اليأس والقنوط، سواء في أمر التوبة بين العبد وبين ربّه، أو في علاقةِ العبدِ مع أقدار الله المؤلمة! فكيف ييأس مُذنبٌ وهو يسمع هذا النداء الذي يَسري إلى القلب من الرب الغني الكريم الرحيم: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]؟!

وفي الصحيح: ل «و يعلم المؤمنُ ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحدٌ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد» [1].

وحين اشتدت الكربةُ بيعقوب عليه السلام لم يقنط، بل حذّر بنيه من ذلك فقال لهم: «يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون» [يوسف:87].

وفي السيرة النبوية يجد الإنسانُ ما يُدهشه من عيشه صلى الله عليه وسلم الفألَ في كل أحواله، بل في أشدّ الأزمات لا تُسمعُ منه كلمةُ يأسٍ أو قنوط، ومِن ألطف المواقف في هذا المعنى: أنه لما كانت النفوس مشحونة في صلح الحديبية بسبب الشروط ـالتي كانت في ظاهرها غبنًا للمسلمينـ وجاء سهيل بن عمرو مندوبًا عن المشركين، قال صلى الله عليه وسلم مباشرة: «سَهُل لكم من أمركم» [2].. سبحان الله! حتى في هذا المقام لم يدع الفأل باسم سهيل! ولسان الحال: وماذا يصنع اليأسُ إلا القعود وشماتة العدو والحاسد؟! وماذا يفعل الفأل في النفوس إلا الانطلاق في فسحة الحياة الرحْبة، والعمل المثمر الجاد؟!

فأين اليائسون من واقع الأمة عن هذا الموقف، وموقفه صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وغيرها من المواقف التي تهدّ الصمَّ الصِّلاب؟!

وفي الحثِّ على اختيار الأسماء الحسنة، وتغيير السيئة مراعاةٌ لهذا المعنى بلا شك.

ومع هذا كلّه يأبى بعضُ الناس إلا أن يُردّد مفردات اليأس والقنوط! سواء فيما يخصه أو يخص واقع الأمة، وأننا حالةٌ استثنائية من موضوع الفأل، فهو يعيش اليأسَ في كل تصرفاته، ولا يكاد يفرح بشيء، ولا ينتظر شيئًا حسنًا، بل حتى الأشياء الحسنة تنقلب في عينه إلى سيئة! ولسان حاله يتمثل قول ذاك اليائس: لو اتجّرتُ ببيع الطواقي والكوفيات، لخلق اللهُ أناسًا بلا رؤوس!

المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد؛ بل إن سيطرة هذه المشاعر تُقْعد الإنسانَ عن القيام بأمورٍ نافعة كثيرة؛ لأنه حكم على نفسه بالفشل، وذبح نفسَه بسكينِ اليأس.

تَرِدُ عليّ كما تَرِد على غيري رسائلُ تنضح باليأس من أمورٍ ثبت بالتجربة والواقع أن الفرج في مثلها حصل لأناس كثيرين، والمشاكلُ التي يعبّر عنها اليائسون كثيرة، كمن تيأس من الزواج لظنها أن القطار فاتها، أو تيأس من الولد بعد زواجها، وثالث ييأس من حصوله على مصدر رزق مناسب، ورابع ييأس أن يتخلص من عادة سيئة لازَمَها، وهكذا دواليك، وربمّا أكّد لك بعضُهم صدق يأسه بأنه من عشر سنوات يدعو والأمرُ كما هو!

قارِن بين هذه النفوس الغارقة في اليأس وبين قول مُوَرّق العجلي رحمه الله: "قد دعوتُ الله بحاجة منذ أربعين سنة، فما قضاها لي، فما يئستُ منها"! [3].

ومن شؤم التشاؤم: أن بعضَ هؤلاء إذا حدّثتَه بنصوصِ حسن الظن، وسيرة يعقوب ويوسف ونبينا عليهم الصلاة والسلام؛ قال لك: هؤلاء أنبياء! يعني: لا مجال للمقارنة بيننا! وكأنه يقول: إنها مجرد قصص للتسلية فحسب! ونسي أو تناسى أن الله تعالى ختم سورة يوسف بقوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111]، وأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].

وفي كتاب (الفرج بعد الشدة) قصصٌ كثيرة مدهشة، تبعث على الفأل وحسن الظن.

كثير من الأمراض النفسية التي قيّدتْ بعضَ الناس -عافانا الله وإياكم منها- هي ذاتها أصابت آخرين، ولكنها لم تقيّدهم ولم تُقعِدهم، بل انطلقوا في فسحة الحياة، ومشوا في مناكبِ الأرض، والفرقُ بين الفريقين: هو كيفية التعامل معها؛ فالأول استسلم، والآخر هزم اليأسَ بالتوكل على الله، وذبحه بحسن الظن، والفأل الجميل.

فيا كل من أوجعته سياطُ المصائب، هل ترى مَن حولك مِن السعداء؟ إنهم يعيشون ذات الوقت والزمان الذي تَعيشه، يُكابدون ما تُكابِد، ويُعانُون ما تُعاني بل ربما أشدّ فلستَ وحدك! لكن الفرق بينك وبينهم: أنهم نظروا إلى الحياة بعين التفاؤل؛ فرأوا الجمالَ شائعًا في كلِّ ذراته، وأحسنوا الظنّ بالله، وأيقنوا أن خِيرتَه تعالى لهم خيرٌ من خيرتهم لأنفسهم، وأن قدَرَه فيهم أحسن من تقديرهم لأنفسهم.

إنك تستطيع إذا أردت التغيير وتوكلتَ على الله، وفعلت ما بوُسْعِك من أسبابٍ أن تبدِّل بالأسوأ الأحسن؛ إذا لم ترضَ بالأسوأ، وعملت لتغييره بروح التفاؤل، ولسان حالك يقول:

وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّنِي *** أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ

وتذكّر:

سيفتحُ الله باباً كنت تحسبهُ *** من شدة اليأسِ لم يُخلق بمفتاحِ

----------------

[1] (مسلم:2755).
[2] (البخاري:2731).
[3] الورع لابن أبي الدنيا، رقم (47).

عمر بن عبد الله المقبل

الأستاذ المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم.

  • 4
  • 0
  • 9,257

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً